وكثير من الأولين يصيرون آخرين، والآخرون يصيرون أولين (مر 10 /31)
24- دير كلوني
24- دير كلوني
رأينا صفحه سوداء من مفاسد الكنيسة الكاثوليكية في عصورها الوسطي خلال القرنيين التاسع والعاشر، مما أدي إلى إيقاظ بعض الضمائر التي أفزعها ما آل إليه أمر الكنيسة ورجال الدين في غرب أوروبا، وكان، انبعثت الدعوة إلى الإصلاح في النصف الأول من القرن العاشر في منطقة اللويين جنوب شرق الغال (فرنسا حاليًا) حيث كانت الحياة الديرية قوية وسليمة، ويلاحظ، هذه المنطقة كانت متاثرة جدًا بحياة الرهبنة البا خومية المصرية.
وهناك بدأ أحد المصلحين واسمه جيرارد هذه الحركة الإصلاحية، فبدأ بتأسيس كنيسة قرب نامور في عام 914، ثم الحق بها بعد فترة ديرًا، وسرعان ما سارت هذه الحركة الإصلاحية في اللورين سيرًا طيبًا، في وقت كانت أحوال الكنيسة سيئة للغاية كما رأينا حتى نخر السوس في الأديرة ذاتها وتفشت الأمراض الاجتماعية والنفسية والروحية بين رهبانها أيضا، خاصة وان هؤلاء هم ما يبقي للمسيحي، يراه، إذ هم أهم ثروة للكنيسة.
فلم يبق صوت للإصلاح إلا في هذا الدير، الذي نادي رهبانه بالعودة إلى تعاليم سلفهم الصالح وذلك بتطبيق نظم القديس بندكت على الحياة الديرية ولنعلم، هذا البندكت إنما أسس نظمه على ما وصله بين نظم الأديرة الباخومية المصرية والذي أوصلها إياه جون كاسيانوس كما أوضحنا من قبل
إلا أن حركة الإصلاح الكولونية ظلت محلية الطابع، لأن أنصار الفساد في الكنيسة استمروا خارج المنطقة اقوي نفوذًا، فنجد رجال الدين الفاسدين اللذين قادوهم في دعوتهم الإصلاحية، لأن الإصلاح لم يكن في صالحهم، وان الفساد هو الطريق الأكثر ربحًا لهم، ثم أنهم ألِفوا حياة الضعف والانحلال الروحي، وأصبحوا كالجسد الميت الذي يحاول المصلون بعث الحياة فيه من جديد، وبذلك كان هؤلاء الفاسدون حائلًا قويًا دون حركة الإصلاح.
ومهما كان الأمر فإن الحركة الإصلاحية التي ظهرت في إقليم اللوريين هذه لم تكن الوحيدة من نوعها، إذ عاصرتها أخري للإصلاح انبعثت داخل فرنسا أسسها "وليم التقي" دوق اكوتين، حيث أسس ديرًا هو الأخر في كلوني Cluny Abbey عام 910 م.
نظام دير كلونى:
روعي في هذا الدير الجديد تجنب الأخطاء والمفاسد التي ترددت فيها بقية الأديرة المعاصرة، ليصبح رأسًا لحركة إصلاحية ديريه شاملة، ومن ذلك، دير كلوني لم يقبل أرضا من أمير إقطاعي أو حاكم مقابل خدمات أو ارتباطات إقطاعية مع ذلك الأمير أو الحاكم، وهكذا جاءت جميع المنح التي تلقاها دير كلوني من أرض أو غيرها حرة غير مشروطة، ولا يتنافى عنها حاجتها إلا حُسن الثواب والصلاة من أجله بذكري في القداسات فقط.
وإذا كان نظام البندكتيين الذي أخذ من الشركة الباخومية تطلب من الرهبان القيام بقسط كبير من العمل اليدوي في الحقول، إلا أنه لوحظ عدم تطبيق هذا المبدأ بصورة تكفل تحقيق الغرض المنشود، لأن معظم الأراضي التي كانت تمنح للأديرة عليها فلاحوها المرتبطون بها الذين يقومون بفلاحتها.
ومن هنا وفروا على هؤلاء الرهبان الجهود والوقت الذي كان يستقطع منهم في العمل اليدوي ليخصص للبحث والصلاة والتعبد تلافيًا للفراغ والبطالة التي لا تتماشى وحياة الراهب من أجل هذا اتجه الرهبان الكولونيون إلى الفكر، فدرسوا وصلوا وصاموا، وقد قام نظام هذه الأديرة على أسس من الطاعة المطلقة والتفاني في خدمة الجماعة ككل، فالفرد لا شيء وإنما المجموع هو كل شيء، أي التوجه نحو بناء كنيسة روحية هي مجموع من المؤمنين وليس مجرد أفراد لا حياة روحية فيهم.
كذلك أدرك زعماء الحركة الكونية، أن الأمراض الخطيرة التي تعرضت لها الكنيسة حينئذ إنما جاءت نتيجة ارتباط الكنيسة بالدولة وما نجم عنها من تدخل في الأمور السياسية والإدارة التي ما اغني الكنيسة عنها، لأن ما لقيصر لقصير وما لله لله. وإزاء هذا عاد أصحاب مبدأ دير كلوني إلي الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية، إذ هو أول مرحلة من مراحل العلاج لما أصاب الكنيسة من أمراض عرفناها في اختصار ولعل هذا هو السبب في حرصهم على أن يكون نظامهم الديري تابعًا للبابوية مباشرة دون أن يكون للحكام العلمانيين أو الأساقفة المحليين إشراف على الأديرة الكلونية التي تقع داخل مناطق نفوذهم. وهكذا أصبحت الأديرة الكلونية تخضع لأشراف مركزي شديد، إذ لا يوجد لها سوي مقدم (ربيت) واحد في الدير الرئيسي بكلوني هو المسئول الأول عن بقية سلسلة هذه الأديرة التي يشرف عليها رؤساء لا يتمتعون باستقلال كبير في أديرتهم ويخضعون خضوعًا مباشرًا للرئيس العام في كلوني الذي كان له حق التفتيش عليهم بين الحين والحين لمراقبة سلوكهم واختيار دراساتهم ونموهم الروحي والأخلاقي، وهذا الرئيس كان يخضع بدورة للبابا خضوعًا مباشرًا أي لم يفلح هذا النظام عن الكنيسة الرومانية وإنما انسلخ عن نظم الحكم والسياسة والإدارة التي لا دخل فيها ولا تتدخل هي في شئونه.
وسرعان ما اشتهر دير كلوني وطابت أنفس الرعية بوجوده، وأحس الشعب بعودة ما قد افتقده في زمن الظلم، وانتشرت هذه الأديرة في غرب أوروبا انتشارًا واسعًا وفي سرعة فائقة، حتى أن كثيرًا من الأديرة البندكتية المعروفة في كل من فرنسا وألمانيا تركت نظمها التي بليت أصابها البغض والفساد لتكون ضمن سلسله أديرة كلوني وتحت رئاستها، هذا بالإضافة إلى الأديرة الأخرى التي اختارت، تحتفظ باستقلالها إلا أنها تأثرت في نظمها بمبادئ الإصلاح الكلوني. فكانت كلونية المخبر.
والذي يهمنا الآن من أمر هذه الحركة إنها لم تلبث أن تطورت واتسع أفقها، فبعد أن كانت تستهدف في أول أمرها إصلاح الحياة الديرية وحدها، إذا بها في القرن الحادي عشر تسعى نحو إصلاح الكنيسة ككل إصلاحًا شاملًا، معتمدة في ذلك على ما أصبح للأديرة الكلونية ورجالها من قوة وعظمة ونفوذ واسع عند منتصف القرن الحادي عشر.
حقيقية أن الدعوة الكلونية تعرضت لمعارضة قوية من كثير من الأساقفة بل من بعض المؤسسات الديرية الأخرى التي ألف أهلها حياة الفساد والكسل الروحي إلا أن حركة الإصلاح الكلوني استطاعت، تستمر في طريقها السوي دون، تؤثر فيها هذه الحركات المعارضة.
وقد تعرض الرهبان الكلونيون لأمراض الكنيسة على النحو الذي فصلناه من قبل ونجحوا إلى حد ما بالنسبة لأمراض السيمونية وزواج رجال الدين ومظاهر الفساد الأخرى إلا أنهم اصطدموا بمسألة التقليد العلماني أي تدخل الأباطرة والإقطاعيين في سيامة رجال الدين حتى وصلوا إلى الباباوات.