إِنِّي آتٍ على عَجَل. فتَمَسَّكْ بِما عِندَكَ لِئَلاَّ يَأخُذَ أَحَدٌ إِكْليلَكَ (رؤ 3 /11)
كلمة حياة تشرين الثاني 2006: " طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنّهم يُشبَعون "
كلمة حياة
تشرين الثاني 2006
" طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنّهم يُشبَعون "
(متّى 5، 6)
إنّ كلمة "عدالة" في اللغة الشائعة تعني احترام حقوق الإنسان، والمطالبة بالمساواة، والتوزيع العادل للموارد البشريّة، وقيام المنظمّات المعنيّة بالحثّ على احترام القوانين.
أهذه هي العدالة التي يتكلّم عنها يسوع في "عظة الجبل" التي أُخِذت منها هذه الطوبى؟ نعم، لكنّ يسوع يدعو أيضاً إلى عدالة أشمل تستوجب الانسجام في العلاقات البشريّة والتفاهم والسلام.
إنّ الجوع والعطش حاجتان أساسيّاتان لكلّ فرد، وهما يرمزان إلى رغبة عميقة يصبو إليها قلب الإنسان الذي لا يرتوي أبداً بشكل كامل. ولقد ورد في الإنجيل بحسب القديس لوقا، أنّ يسوع قال: "طوبى للجياع" (أنظر لوقا 6، 21).
يشرح متّى هنا أنّ جوع الإنسان هو جوع لله، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يشبع جوعنا بشكل كامل. ولقد فهم القدّيس أغسطينس ذلك جيّداً فكتب في مطلع كتاب "الاعترافات" يقول: "لقد خلقتنا من أجلك، ولن يسكن قلبنا ولن يرتاح إلاّ فيك" (الكتاب الأوّل 1،1). ويسوع الذي تغذّى من إرادة الله يقول: "إن عطش أحد فليأتِ إليّ ويشرب" (يوحنّا 7، 37).
إنّ العدالة بحسب الكتاب المقدّس تعني إذاً أن نعيش وفق مخطّط الله على البشريّة، فهو قد فكّر فيها وأرادها عائلة متّحدة بالمحبّة.
" طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنّهم يُشبَعون "
إنّ الرغبة بالعدالة والبحث عنها محفورتان منذ الأزل في ضمير الإنسان، والله بذاته زرعهما في قلبه. ولكن، وبالرغم من التقدّم والإنجازات التي تمّت على مرّ العصور، فما زال التحقيق الكامل لمخطّط الله، بعيداّ. والحروب التي تشتعل اليوم في العالم، وانتشار الإرهاب والصراعات العرقيّة، كلّها خير دليل على عدم المساواة الإجتماعيّة والإقتصاديّة السائدة، وعلى الظلم والكراهية.
وإنّ الحواجز التي تقف أمام عيش الانسجام بين البشر ليس مردّها ظلم القانون وحسب، ولا ناتجة عن نقص في الشرائع التي تنظّم التعايش بين الناس، بل هي تتعلّق بمواقف أعمق، مواقف أخلاقيّة وروحيّة مرتبطة بالقيمة التي نعطيها للشخص البشري وبكيفيّة نظرتنا إليه. وإنّ الأمر نفسه ينطبق على "الإقتصاد". فعدم النموّ المتزايد، والفاصل الكبير بين الأغنياء والفقراء، والتوزيع غير العادل للخيرات، كلّها أمور، ليست ثمرة بعض الأنظمة الإنتاجيّة وحسب، بل هي أيضاً وبشكل خاص نتيجة خيارات ثقافيّة وسياسيّة. إنّها واقع بشريّ.
حين يدعونا يسوع إلى أن نعطي رداءنا لمن يطلب منّا قميصنا، أو إلى أنّ نسير ميلين مع من يسخّرنا ميلاً واحداً، فإنّه يشير إلى "أمر إضافيّ"، إلى"عدالة أكبر" تتخطّى تلك التي تمارس وفق القانون، إنّها عدالة تعبّر عن المحبّة. فمن دون المحبّة واحترام الشخص الآخر والإنتباه إلى متطلّباته، قد تكون العلاقات الشخصيّة صحيحة ولكنّها قد تصبح بيروقراطيّة غير قادرة على الإجابة الفعّالة على المتطلّبات الإنسانيّة. من دون المحبّة لن يكون هناك أبداً عدالة حقيقيّة، ولا مشاركة في الخيرات بين الأغنياء والفقراء، ولا انتباه إلى فرادة كلّ رجل وكلّ امرأة وإلى واقعهما الحياتيّ الخاص بهما. فالخيرات لا تتحرّك بمفردها بل على القلوب أن تختلج وتُحرّك الخيرات وتوزّعها.
" طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنّهم يُشبَعون "
كيف نعيش كلمة الحياة هذه؟
فلننظر إلى حقيقة قريبنا. ننظر إليه لا ككائن بشريّ لديه حقوقه وكرامته وحسب، بل على أنّه صورة حيّة ليسوع.
علينا أن نحبّه، حتّى وإن كان عدوّاً، بالمحبّة ذاتها التي يحبّه بها الله الآب، وأن نكون مستعدّين للتضحية من أجله، وإن تتطلب منّا ذلك أقصى درجات التضحية أي "أن نبذل حياتنا في سبيل إخوتنا" (أنظر يوحنّا بولس الثاني في رسالته رقم 40) ""Sollecitudo rei socialis وعلينا أن نتبادل في ما بيننا المواهب والعطايا، ونشارك بالخيرات الماديّة والروحيّة لنصبح جميعنا عائلة واحدة.
عندها، تصبح رغبتنا في عالم أخويّ وعادل كما يريده الله، واقعاً ملموساً وحقيقيّاً. وعندها يأتي الله بذاته ليعيش في وسطنا ويشبعنا من حضوره.
" طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنّهم يُشبَعون "
إليكم كيف يخبر أحد الموظّفين عن الإستقالة التي قدّمها إلى المسؤولين عنه: "منذ فترة قصيرة، إندمجت الشركة التي أعمل فيها مع شركة أخرى تعمل في المجال نفسه. بعد هذا الدمج، طلب منّي رؤسائي أن أعيد النظر بلائحة الموظّفين، لأنّ التنظيم الجديد للعمل كان يتطلّب أن يُصرَف ثلاثة منهم.
لم يبدُ لي هذا القرار مبرّراً، بل رأيتُ فيه قراراً متسرّعاً ولقد اتّخذ من دون الأخذ بعين الإعتبار ما سينتج عنه من صعوبات على المستوى الإنسانيّ، سيعاني منها الموظّفون المعنيّون وعائلاتهم.
ما العمل؟ وتذكّرت "كلمة الحياة". إنّ الطريقة الوحيدة هي أن أتشبّه بيسوع فأُُبادر بالمحبّة. سارعت وقدّمتُ استقالتي وقلت أنّني غير مستعدّ للتوقيع على قرارت الصرف.
لم ترفض الإدارة استقالتي وحسب، بل إستشارتني حول كيفيّة إدخال هؤلاء الموظّفين في التنظيم الجديد للعمل. كنت قد حضّرتُ تخطّيطاً جديداً ينظِّم عمل الموظّفين جميعهم، ويدمجهم في أقسام العمل المختلفة بطريقة سهلة وفعّالة. عرضته على أعضاء مجلس الادارة فوافقوا عليه واحتفظنا كلّنا بوظائفنا".
كيارا لوبيك