لِيَرتَدَّ الشر على مَن يَتَرَصَّدونَ لي و بِحَقِّكَ يا رَبِّ دَمرْهم (مز 54 /7)
توقيع الإرشاد الرسوليّ ما بعد السّينودس في بازيليك مار بولس - حريصا - البابا بندكتس السادس عشر
الزيارة الرسوليِّة
لقدَّاسة البابا بندكتُس السّادس عشر
إلى لبنان
خطاب الأب الأقدس
توقيع الإرشاد الرسوليّ ما بعد السّينودس
بازيليك مار بولس - حريصا
الجمعة الموافق ١٤ أيلول/سبتمبر ٢٠١٢
فخامة رئيس الجمهوريّة،
صاحب الغبطة، غبطة البطاركة الأجلاء،
أيّها الأخوة في الأسقفيِّة وأعضاء المجلس الخاصّ لسينودس الأساقفة من أجل الشّرق الأوسط،
أيّها الموقّرون ممثّلو المذاهبِ الدّينيِّة، وعالم الثّقافة والمجتمع المدنيّ،
إخوتي وأخواتي في المسيح، أيّها الأصدقاء الأعزّاء،
أُعبِّرُ عن خالص شكري لغبطة البطريرك غريغوريوس الثّالث لحّام لكلمات الاستقبال القلبيِّة، وكذلك لكلمة التّقديم للسكرتير العام لسينودس الأساقفة، مونسنيور نيكولا إتيروفيشي. تحيّاتي الحارّة تتّجه للبطاركة، ولجميع الأساقفة الشّرقيِّين واللاتين المجتمعين في هذه البازيليك البديعة لمار بولس، وإلى أعضاء الجمعيِّة الخاصّة لسينودس الأساقفة من أجل الشّرق الأوسط. يُسعدُني أيضاً حضورُ الوفد الأرثوذكسيّ والإسلاميّ والدّرزيّ، وكذلك ممثلو عالم الثّقافة والمجتمع المدنيّ. التعايش السعيد بين الإسلام والمسيحيّة، ديانتَان قد ساهمتا في صنع حضارتَين كبيرتَين، تصنع فرادة الحياة الإجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة في لبنان. ليس بمقدورنا إلاّ أنْ نُسرّ بهذا الواقع الذي يجب تشجيعه بقوة. أُحيّي بحرارة جماعة الروم الكاثوليك الغاليِّة والَّتي تستقبلني. إنَّ حضورَكم يجعل توقيعَ الإرشاد الرسوليّ الكنيسة في الشّرق الأوسط أكثرَ احتفاليِّة، ويشهد على أن هذه الوثيقة، والموجَّهة بالتّأكيد للكنيسة الجامعة، تتوشّح بأهمِّيِّة خاصّة بالنسبة للشّرقٍ الأوسط بأكمله.
شاءت العناية الإلهيِّة أن يتمَّ هذا الحدث في ذات يوم عيد الصّليب المجيد، الَّذي ولدَ بالشّرق عام ٣٣٥، غداةَ تكريس بازيليك كنيسة القيامة الَّتي شُيّدت فوق الجلجثة وقبر ربِّنا، من قبل الإمبراطور قسطنطين الكبير، والَّذي تكرِّمونه كقديس. سيُحتفل بعد شهر بالذكرى السّنويِّة الـ١٧٠٠ للرؤيِّة الَّتي شاهد فيها، أثناء ليلة رمزيِّة لارتيابه، علامة (chrismon) متوهّجة وهنا سمع صوتا يقول له: "بهذه العلامة ستنتصر!". لاحقا، تاب الإمبراطور قسطنطين، ووقع مرسوم ميلانو، وأطلق اسمه على القسطنطينيِّة. أعتقد أنَّ هذا الإرشادَ يُمكن قراءته وتفسيره على ضوء عيد الصّليب المجيد، وخاصّة على ضوء علامة (chrismon)، الـ Χ (خاي) والـ ρ (رو)، من الحرفين الأوَّلين من كلمة المسيح (Χριστός). قراءة كهذه تقود لإعادة اكتشاف حقيقيّ لهُويِّة المعمّد والكنيسة، وتشكّل، في الوقت ذاته، دعوةً للشهادة في ومن خلال الشّركة. ألم تتأسّس الشّهادةُ والشّركةُ المسيحيَّتان على السّر الفصحي، أي على صلب وموت وقيامة المسيح؟ ألم يجدا فيه تحقيقهما التّام؟ هناك وثاق لا ينفصل بين الصّليب والقيامة، والَّذي لا يمكن للمسيحيّ أن ينساه. بدون هذا الوثاق، تعظيم الصّليب يعني تبرير الألم والموت، حيث لا يُرى فيهما سوى نهايِّةً مهلكة. بالنسبة للمسيحيّ، تعظيم الصّليب يعني الإتّحاد بشموليِّة محبّة الله غير المشروطة للبشر. إنه القيام بفعل إيمان! تعظيم الصّليب، من منظور القيامة، يعني اشتهاء العيش والشّهادة لشموليِّة هذه المحبّة. إنَّه القيام بفعل محبِّة! تمجيد الصّليب يقود للالتّزام بمبادرات الشّركة الأخويِّة والكنسيِّة، نبع للشهادة المسيحيِّة الحقة. إنه القيام بفعل الرجاء!.
بالنظر الحَانِي للوضع الحاليّ للكنائس بالشّرق الأوسط، استطاع آباء السّينودس التمعّن في الأفراح والأحزان، في المخاوف وآمال تلاميذ المسيح الَّذين يَعيشون في هذه الأماكن. وتمكّنتِ الكنيسةُ الجامعة من سماع الصّرخة القلقة، والتّمعّن في النظرةِ المُحبَطة لكثيرٍ من الرجال والنساء الَّذين يجدون أنفسهم داخلَ أوضاع بشريِّة ومادّيِّة شاقة، والَّذين يعيشون ضغوطاً عصيبةً في الخوف والقلق، والَّذين يريدون اتّباع المسيح– الَّذي يعطي معنى لوجودّهم - ولكّنهم يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان ممنوعين. لهذا السّبب رغبتُ في أن تكون رسالةُ القدِّيس بطرس الأولى لُحمةَ ومِغْزَال هذه الوثيقة. في الوقت نفسِه، استطاعتِ الكنيسة أن تقدّر كلَّ ما هو طيّب ونبيل في هذه الكنائس الَّتي تحيا على هذه الأراضي. كيف لا نشكر الله دائما من أجلكم جميعا (راجع ١ تس ١، ٢؛ الجزء الأول من الإرشاد ما بعد السّينودس)، أعزَّائي مسيحيِّي الشّرق الأوسط! كيف لا نحمدُه من أجل شجاعتِكم في الإيمان؟ وكيف لا نشكرُه من أجل شعلة محبّتِه اللانهائيِّة، والَّتي تستمرُّون في الحفاظ عليها حيّةً ومشتعلةً في هذه الأماكن الَّتي كانت الأولى في استقبال ابنه المتجسِّد؟ كيف لا نُسبِّح بامتنانٍ من أجل مبادرات الشّركة الكنسيِّة والأخويِّة، لتوثيق التّضامن البشري بلا كلل تجاه جميع أبناء الله؟.
الكنيسة في الشّرق الأوسط يسمح بالتّفكير مجددا في الحاضر للتطلع إلى المستقبل بنظرة المسيح نفسها. بتوجّهاته الكتابيِّة والرعويِّة، بدعوته للتعمّق الروحيّ والكنسيّ، عن طريق التّجديد اللّيتورجيّ والتّعليم المسيحيّ المُوصى به، بندائه للحوار، إنَّه يريد شقَّ طريقٍ للبحث عن الأساسيّ: اتِّباع المسيح، في إطارٍ صعب وأحياناً أليم، سياق قد يدفع لولادة تجربة إغفال أو نسيان الصّليب المجيد. إنَّه الآن تحديداً حيث يجب الاحتفال بانتصار المحبّة على الكراهيِّة، والمغفرة على الانتقام، والخدمة على التّسلط، والتّواضع على التّكَبر، والوحدة على الانقسام. على ضوء عيد اليوم وبغرض تطبيق مثمر للإرشاد، أدعوكم جميعا ألا تخافوا، وأن تقيموا في الحقيقة وأن تُفعّلّوا طهارة الإيمان. إن هذه هي لغة الصّليب المجيد! هذا هو جنون الصّليب: هو أن نعرف أن نحوّل آلامنا إلى صرخة محبّة تجاه الله، وصرخة رحمة تجاه القريب؛ هو أن نعرف أيضاً كيف نُبدِّل أشخاصاً مهاجَمين ومجروحين في إيمانِهم وفي هُويّتِهم، إلى آنِيَةٍ مِنْ خَزَفٍمستعدّة للامتلاء من العطايا الإلهيِّة الوافرة والنفيسة كالذّهب (راجع: ٢ كو ٤، ٧-١٨). إنَّ الأمر لا يتعلَّق بمجرّد لغة بلاغيِّة، ولكنَّه نداء ملحّ للقيام بأعمالٍ ملموسة تنعكس دائما وقبل كلّ شيء في المسيح، بأعمالٍ تُساعد مختلف الكنائس لتعكس كمرآة بهاءَ جماعة المؤمنين الأولى (راجع: أع ٢، ٤١-٤٧؛ القسم الثّاني من الإرشاد)؛ لأعمالٍ تُحاكي تلك الَّتي كانت لقسطنطين الَّذي عرف أن يشهدَ ويُخرجَ المسيحيِّين من التّميّيزِ ليسمح لهم أن يحيوا علانيِّة وبحُرِّيِّةٍ إيمانَهم بالمسيح مصلوباً ومائتاً وقائماً من أجل خلاص الجميع.
الكنيسة في الشّرق الأوسط يقدم بعض العناصر الَّتي يمكنُها أن تُساعد، على سبيل المثال، في عمل فحص ضمير شخصيّ وجماعيّ، وتَقيِّيم موضوعيّ للالتزام ولرغبة كلّ تلميذ للمسيح في القداسة. يفتح الإرشادُ الطّريقَ لحوار بين الأديان يقوم على الايمان بإلهٍ واحدٍ وخالق. ويَرغب كذلك في المساهمة في حوارِ مسكوني غنيٍّ بالحماس الانساني والروحانيِّة والمحبّة، في الحقيقة والمحبّة الإنجيليِّة، أخذاً قوته من وصية القائم من بين الأموات: "اَذهبوا وتَلْمِذوا جميعَ الأُمَمِ، وعَمّدوهُم باَسمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُسِ، وعلِّموهُم أن يَعمَلوا بِكُلّ ما أوصَيْتُكُم بِه، وها أنا مَعكُم طَوالَ الأيّامِ، إلى اَنقِضاءِ الدَّهرِ" (متى ٢٨، ١٩ - ٢٠).
يرغب الإرشاد، من خلال كلّ محتوياته، في مساعدة كلّ تلميذ للمسيح أن يحيا ملء حياته، وأن وينقلَ واقعياً ما أضحى عليه في المعموديِّة: ابناً للنور، انساناً أضاءه اللهُ، مصباحاً جديداً في الظّلام المحبط للعالم، لكي من الظّلمات يُشرق النور (راجع يو 1، 4-5، 2 كو 4، 1- 6). إنّ هذه الوثيقة تريد المساهمة في تجريد الإيمان من كلّ ما من شأنه تشويهه، من كلّ ما بإمكانه تعتيم بهاء نور المسيح. الشّركة إذاً تعني انتماءً حقيقيّاً إلى المسيح، والشّهادة هي إشعاعٌ للسر الفصحي الَّذي يعطي معنىً شاملاً للصليبِ المجيدِ. نحن نتبع و "نُنادي بِالمسيحِ مَصلُوبًا... قُدرَة الله وحِكمَة الله" (١ كو ٢٣- ٢٤؛ راجع الفصل الثّالث من الإرشاد).
"لا تَخَفْ، أيُّها القَطيعُ الصَّغيرُ!" (لو ١٢، ٣٢) وتذكّر الوعدَ الَّذي قُطِعَ مع قسطنطين: "بهذه العلامةِ ستنتصر!" يا كنائسَ الشّرقِ الأوسط، لا تَخفْنَ، لأنَّ الرَّبَّ حقّاً معكُنّ حتّى إنتهاء العالم! لا تَخفْنَ، لأنَّ الكنيسةَ الجامعةَ ترافقكُنّ بقُربها منكِ إنسانيِّاً وروحيِّاً! بمشاعرِ الرجاءِ والتّشجيع هذه بأن تكونوا مبادرين فعّالين للإيمان عبر الشّركة والشّهادة، سأسلّم يوم الأحد الإرشاد الرسولي لأخوتي الموقَّرين البطاركة، ورؤساء الأساقفة والأساقفة، ولجميع الكهنة، والشمامسة، والمكرَّسين والمكرَّسات، وللإكليريكيِّين، وللمؤمنين العلمانيِّين. "فتَشَجَّعوا" (يو ١٦، ٣٣)! بشفاعة العذراء مريم، أمِّ الله، أَستدعي وبعاطفة كبيرة فيضاً من النعم الإلهيِّة عليكم جميعاً! ليمنح اللهُ كلَّ شعوبِ الشّرق الأوسط أن يحيوا في السّلام والأُخُوَّة والحُرِّيِّة الدّينيِّة! ليباركَكُم اللهُ جميعاً!