إِفتَخروا باْسمِه القُدُوس و لتفرَحْ قلوبُ مُلتَمِسي الرَّبّ (مز 105 /3)
القسم الأوّل «أُؤمِنُ» - «نُؤمِنُ» 26-49
«أُؤمِنُ» - «نُؤمِنُ»
الجزء الأوّل
الاعتراف بالإيمان
القسم الأوّل
«أُؤمِنُ» - «نُؤمِنُ»
26- عندما نعترف بإيماننا نبدأ القول:«أُؤمن» أو «نُؤمن». فقبل أن نعرض إيمان الكنيسة كما يُعترف به في قانون الإيمان، ويُحتفل به في الليترجيا، ويُعاش في العمل بالوصايا والصلاة، فلنتساءل ما معنى «آمَنَ»؟ الإيمان إجابة الإنسان لله الذي يكشف له عن ذاته ويهبها له، وهو في الوقت نفسه يُؤتي الإنسان نوراً فيّاضاً في بحثه عن معنى الحياة الأخير. ونحن من ثمَّ ننظر أولاً في بحث الإنسان هذا (الفصل الأول)، ثم في الوحي الإلهي الذي يُلاقي فيه الله الإنسان (الفصل الثاني)، وأخيراً في جواب الإيمان (الفصل الثالث).
الفصل الأول
الإنسان «قادرٌ» على [الإتصال] بالله
1ً . تطلُّب الله
27- تطلّثبُ الله رغبةٌمنقوشةٌ في قلب الإنسان، لأن الإنسان خيقةً من الله ولله؛ واله يجتذب الإنسان اليه اجتذاباً متواصلاً، والإنسان لن يجد الحقيقة والسعادة اللتين يسعى إليهما دائما إلا في الله:
«إن في دعوة الإنسان هذه الى الاتصال بالله لأسمى مظهر من مظاهر الكرامة البشرية. ودعوة الله هذه التي يوجهها إلى الإنسان ليقيم معه حواراً تبدأ مع بدء الوجود البشري. ذلك أن الإنسان إذا وُجد فإن الله خلقه بمحبة، وهو بمحبةٍ يمنحه الكينونة على الدوام؛ والإنسان لا يحيا حياة كاملة بحسب الحق إلا إذا اعترف اعترافاً حُراً بهذه المحبة وسلم أمره لخالقه»[1].
28- عمد البشر، على مدى تاريخهم وإلى اليوم، إلى طرائق متعددة للتعبير عن تطلبهم الله بعقائدهم وسلوكهم الديني (صلوات، ذبائح، عبادات وطقوس، تأملات، إلخ). وعلى ما قد يكون في هذه الطرائق التعبيرية من ملابسات، فإنها عامة إلى حدّ أننا نستطيع أن نسمي الإنسان كائناً متديناً:
إن الله «صنع من واحدٍ كلَّ أمةٍ من البشر، ليسكنوا على وجه الأرض كلها، محدداً [لهم] مدى الأزمنة وتخوم مساكنهم؛ لكي يطلبوا الله، لعلهم يجدونه متلمسين، مع أنه غير بعيدٍ من كل واحدٍ منا، إذ به نحيا ونتحرك ونوجد» (أع17: 26-28).
29- ولكن هذه «العلاقة الحميمة والحيوية التي تجمع بين الإنسان والله[2]» قد ينساها الإنسان ويتجاهلها أ؟و قد يتوصل الى رفضها رفضاً صريحاً. وقد يكون لمثل هذه المواقف أسباب شديدة التنوع[3]: الثورة على الشر في العالم، الجهل أو اللاإكتراث في الدين، هموم العالم وهموم الغنى[4]، سلوك المؤمنين السيئ، التيارات الفكرية المعادية للدين، وأخيراً هذا الموقف الذي يقفه الإنسان الخاطئ فيختبئ، خوفاً، من أمام وجه الله[5]، ويهرب من دعائه[6].
30- «الابتهاج لقلوب ملتمسي الله» (مز105: 3). إذا كان بإمكان الإنسان أن ينسى الله أو يرفضه، فإن الله لا يفتأ يدعو كل إنسان الى التماسه لكي يحيا ويبلغ السعادة. إلا أن هذا الإلتماس يقتضي من الإنسان جهد عقله الكامل، واستقامة إرادته، و"قلباً مستقيماً"، كما يقتضي أيضاً شهادة الآخرين الذين يعلمونه كيف يلتمس الله.
«إنك عظيم يارب، وأهل لأسمي مديح: عظيمةٌ قدرتك وليس لحكمتك حد. والإنسان، هذا الجزء الصغير من خليقتك، يَدَّعي مدحك، هذا الإنسان ذاته، في تلبُّس حاله القابلة الموت، يحمل في ذاته شهادة إثمه، والشهادة على أنَّك تقاوم المتكبرين. مع ذلك كله، يريد الإنسان، هذا الجزء الصغير من خليقتك، يريد أن يمدحك. أنت نفسك تحضه على ذلك، إذ تجعله يجد متعةً في تسبيحك، لأنك خلقتنا لك، ولأن قلبنا لا يجد الراحة إلا عندما يستقر فيك»[7].
2ً . المداخل إلى معرفة الله
31- الإنسان الذي خُلق على صورة الله، ودعي الى معرفة الله ومحبته، يجد عند التماسه الله بعض "السُّبل" للدخول في معرفة الله؛ وهي تُدعى أيضاً "شواهد على وجود الله"، لا بمعنى البراهين التي تطلبها العلوم الطبيعية، بل بمعنى "الأدلة المتلاقية والمُقنعة" التي تتيح الوصول الى حقائق ثابتة. هذه "السُّبل" لِمُقاربة الله تنطلق من الخليقة: العالم الماديّ والشخص البشري.
32- العالم: انطلاقاً من الحركة والصَّيرورة، من إمكان الحدوث، من نظام العالم وجماله، تصبح من الممكن معرفة الله مبدأً وغايةً للكون.
القديس بولس يثبت في شأن الأمم: «ما قد يُعرف عن الله واضح لهم، إذ إن الله [هو نفسه] قد أوضحه لهم،. فإن صفاته غير المنظورة، ولا سيما قدرته الأزلية وألوهيته، تُبصر منذ خلق العالم، مُدركةً بمبرؤاته» (رو1: 19-20)[8]. والقديس أوغسطينوس يقول:«سائِل جمال الأرض، سائِل جمال البحر، سائِل جمال الهواء الذي يتمدَّد وينتشر، سائل جمال السماء، (...) سائل هذه الحقائق كلها. فتُجيبك كلّها: أنظُر، نحنُ جميلات. وجمالها اعتراف. هذه الجمالات القابلة التغير، هل صنعها إلا الجميل الذي لا يقبل التغير؟» [9].
33- الإنسان: مع انفتاح الإنسان على الحق والجمال، ومع تحسسه للخير الأدبي، وحريته وصوت ضميره، ومع توقه إلى ما لا ينتهي وإلى السعادة، فهو يتساءل عن وجود الله. وهو في كل ذلك يلمح إشارات من نفسه الروحانية. «إن زرع الخلود الذي حمله في ذاته، والذي لا ينتهي في المادة»[10]، إن نفسه لا يمكن أن يكون مبدأها في غير الله وحده.
34- العالم والإنسان يثبتان أن ليس لهما في ذاتهما مبدأهما الأول ولا غايتهما الأخيرة، ولكنهما يشتركان في الكائن بذاته الذي لا مبدأ له ولا نهاية. وهكذا يستطيع الإنسان بهذه "السُّبل" المختلفة أن يدخل في معرفة وجود حقيقة هي المبدأ الأول والغاية الأخيرة لكل شيء، وهي «التي يسميها الجميع الله» [11].
35- إن قوى الإنسان تجعله قادراً على معرفة وجود إله شخصي. ولكن لكي يتمكن الإنسان من الدّخول في ألفة الله، أراد الله أن يكشف له عن ذاته، وأن يمنحه النعمة التي تمكنه من تقبل هذا الوحي في الإيمان. وعلى كل حال، فالأدلة على وجود الله من شأنها أن تُعدَّ للإيمان وأن تُساعد على النَّثبُّت في أن لا خلاف بين الإيمان والعقل البشري.
3ً . معرفة الله في رأي الكنيسة
36- «إن أُمنا الكنيسة المقدسة ترى وتُعلمُ أنه من الممكن أن يُعرف الله، مبدأ كل الأشياء وغايتها، معرفة يقين بنور العقل الإنساني الطبيعي انطلاقا من الأشياء المخلوقة[12]». وبدون هذه المقدرة لا يستطيع الإنسان أن يتقبَّل وحي الله. وهو ينعم بهذه المقدرة لأنه مخلوقٌ «على صورة الله» (تك1: 27).
37- والإنسان، في الحالات التاريخية التي يوجد فيها، يُعاني صعوباتٍ كثيرةً في اعتماده على نور العقل وحده لمعرفة الله:
«وإن كان في استطاعة العقل البشري- نقول ذلك في بساطة- أن يتوصَّل، بقواه الطبيعية ونوره الطبيعي، الى معرفة إله شخصي معرفة حقيقية وثابتة، إله يصون العالم ويسوسه بعنايته، والى معرفة ناموس طبيعي جعله الخالق في نفوسنا، فهنالك مع ذلك عقبات كثيرة تحول دون أن يستعمل هذا العقل نفسه طاقته الطبيعية استعمالاً ناجعاً وذا فائدة، لأن الحقائق التي تتعلق بالله وبالبشر تفوق، على وجه مطلق، نظام الأشياء الحسية، وإذا كانت في سبيل الحصول على مثل هذه الحقائق تعاني النفس البشرية صعوبات من قِبَل الحواس والمخيلة، كما من قبل الميول الشريرة بعدم صوابية الأشياء التي يتمنون لها عدم الصّوابية، أو على الأقل عدم ثباتها»[13].
38- ولهذا فالإنسان بحاجة إلى أن ينيره وحي الله، ليس في ما يفوق إدراكه وحسب، ولكن في أمر «الحقائق الدينية والأخلاقية أيضاً التي لا يعجز العقل عن إدراكها، وذلك لكي تصبح، في الوضع الحالي للجنس البشري، معروفة لدى الجميع في غير عُسر، معروفةً معرفةً أكيدة ثابتة ولا يشوبها ضلال»[14].
4ً . كيف التكلُّمُ على الله
39- مع الدفاع عن مقدرة العقل البشري على معرفة الله، تُعبر الكنيسة عن ثقتها في إمكان التكلم على الله لجميع البشر ومع جميع البشر. وهذا الاقتناع هو منطلق حوارها مع سائر الأديان، ومع الفلسفة والعلوم، وكذلك مع الكفرة والمُلحدين.
40- وإذ كانت معرفتنا لله محدودةً، فكلامُنا على الله محدودٌ أيضاً. إننا لا نستطيع أن نسمي الله إلا انطلاقاً من المخلوقات، وعلى طريقتنا البشرية المحدودة في المعرفة والتفكير.
41- في جميع المخلوقات بعض الشبه بالله، ولا سيما الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. فالكمالات المتعددة في الخلائق (حقيقتها، وصلاحها، وجمالها) تعكس إذن كمال الله اللامتناهي. ولنا من ثمَّ أن نسمي الله انطلاقاً من كمالات خلائقه، «فإنه بعظم المبروءات وجمالها يُبصر ناظرها على طريق المقايسة» (حك13: 5).
42- الله يسمو على كل اخليقة. فيجب علينا من ثمَّ وعلى الدوام تنقية كلامنا من كل ما فيه من محدود، ومُتخيل، وناقص، حتى لا نخلط الله «الذي لا يفي به وصفٌ، ولا يحده عقلٌ، ولا يُرى ولا يُدرك»[15] بتصوراتنا البشرية. إن أقوالنا البشرية تظلُّ أبداً دون سرّ الله.
43- عندما نتكلم هكذا على الله، يُعبر كلامنا تعبيراً بشرياً، ولكنه في الحقيقة يصل إلى الله نفسه، وإن لم يتمكن مع ذلك من التعبير عنه في لانهاية بساطته. ومن ثمّ يجب أن نتذكر أنه «مهما كان من شبهٍ بين الخالق والمخلوق، فالاختلاف بينهما أعظم أيضاً»[16]، وأننا «لا نستطيع أن نعرف من الله ما هو، بل ما ليس هو فقط، وكيف تقع الكائنات الأُخرى بالنسبة إليه»[17].
بإيجاز
44- الإنسان بطبيعته وبدعوته كائن متدين. وإذ كان الإنسان آتياً من الله وذاهباً نحوه، فهو لا يحيا حياةً بشرية كاملة إلا إذا عاش حرًّا في صلته بالله.
45- الإنسان مصنوعٌ لكي يعيش في شركة مع الله وفيه يجد سعادته: «عندما أَصيرُ بكليّتي فيك أُصبح أبداً في نجاةٍ من الغم والشدة؛ وعندما تصير حياتي مليئةً بك، تكون قد بلغت غايتها»[18].
46- عندما يُصغي الإنسانُ الى شهادة المبروءات والى صوت ضميره، يستطيع أن يبلغ الى اليقين في ما هو من وجود الله، مصدر كل شيء وغايته.
47- الكنيسة تعلم أن الله الواحد والحقيقي، خالقنا وربنا، تُمكن معرفته معرفةً أكيدة عن طريق صنائعه بنور العقل البشري الطبيعي[19].
48- نستطيع في الحقيقة أن نسمي الله انطلاقاً من الكمالات المتعددة في الخلائق، تلك المُماثلات لله في لانهاية كماله، وإن قصَّر تعبيرنا المحدود عن استيعاب سرّه.
49- «الخليقة تتلاشى بدون الخالق»[20]. ولهذا فالمؤمنون يستشعرون في ذواتهم محبّة المسيح تحضهم على أن يحملوا نور الله الحي الى الذين يجهلونه أو يرفضونه.
[1] ك ع 19.
[2] ك ع 19
[3] رَ: ك ع 19-21
[4] رَ: متى13: 22
[5] رَ: تك3: 8-10
[6] رَ: يون 1: 3
[7] القديس أوغسطينوس، اعترافات 1، 1، 1.
[8] رَ: أع 14، 15، 17؛ 27-28؛ حك 13: 1-9.
[9] عظات 241، 2: آ ك ل 38، 1134.
[10] ك ع 18، مقطع 1؛ رَ: 14، مقطع 2.
[11] توما الأكويني، خ ل، 1، 2، 3.
[12] المجمع الفاتيكاني الأول، دستور عقائدي «ابن الله»، ق2: 3004؛ رَ: في الوحي، ق2: د3026؛ و ل6.
[13] بيوس 12ً، «الجنس البشري»: د3875
[14] م س: د3876؛ رَ: م ف1ً، المرجع المذكور، ق2: د3005؛ و ل6؛ توما الأكويني، خ ل، 1، 1، 1.
[15] ليترجيا القديس يوحنا الذهبي الفم، الأنافور.
[16] مجمع لاتران الرابع، فصل2، في ضلال الأباتي يواكيم: د806.
[17] توما الأكويني، ضدَّ الوثنيين 1، 30.
[18] القديس أوغسطينوس، اعترافات 10، 28، 39.
[19] رَ: م ف1ً، دستور عقائدي «ابن الله»، في الوحي، ق2: د3026.
[20] ك ع 36.