في كُلِّ صَباحٍ أُسكِتُ أَشرارَ الأَرضِ كُلَّهم حتَى يَنقَرِضَ مِن مَدينةِ الرَّبِّ جَميعُ فَعَلَةِ الآثام (مز 101 /8)
شركة ومحبة - الرسالة الاولى 2012 - البطريرك بشارة الراعي
الرسالة العامة الأولى للبطريرك مار بشاره بطرس الراعي |
1. شركة ومحبة هما شعار خدمتي البطريركيّة اخترته يوم انتخبني، بإلهام من الروح القدس، سينودس أساقفة كنيستنا المارونية، وعلى رأسهم صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، بطريركاً لأنطاكيه وسائر المشرق، أباً ورأساً لكنيستنا الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة الثلاثاء 15 اذار 2011. استمدّيت هذا الشعار من جوّ الصلاة والوحدة والأخوّة والمحبة الذي ساد السينودس الإنتخابي المقدّس، ومن حاجة مجتمعنا اللبناني والمشرقي والإنتشاري إلى مزيد من الشركة والمحبة، ومن وحي جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بالشرق الاوسط، التي انعقدت في روما تشرين الأوّل 2010، بعنوان "الشركة والشهادة". لقد أعلنتُه في صلاة الشكر التي تلت الجلسة الإنتخابية بحضور العديد من الإكليروس والعلمانيين الذين توافدوا إثر سماع البشرى إلى الكرسي البطريركي، وكرّرته بتوسّع في عظة قداس التنصيب في 25 أذار عيد سيدة البشارة. أردتُه شعاراً ألتزم به عمليّاً بالتعاون مع إخواني المطارنة في سينودس كنيستنا، ومع الكهنة والرهبان والراهبات وسائر أبنائنا وبناتنا في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الإنتشار، ومع كلّ الناس ذوي الإرادة الحسنة. الإلتزام بالشركة هو في آنٍ شخصي وجماعي في البُعدين: العمودي الذي قوامه الإتحاد بالله بالصلاة ونعمة الأسرار وقراءة الكتاب المقدس، والأفقي القائم على التشاور التضامن والترابط والوحدة مع جميع الناس؛ وفي كلا البعدين المحبة هي المصدر والرابط والضامن.
2. التمست الشركة الكنسيّة بالمحبة من قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، فمنحني إيّاها في 24 أذار 2011. وأعربت لإخواني أصحاب الغبطة، بطاركة كنائسنا الشرقيّة، عن روابط الشركة والمحبة معهم. وهم بادلوني إيّاها بحضورهم إحتفال التنصيب في 25 أذار 2011، كمنطلق للوحدة الدائمة والتعاون الكنسي في لبنان وبلدان الشرق الأوسط وعالم الإنتشار. وعاهدت "بالعمل على المستوى المسكوني، متعاوناً بكلّ محبة ومسؤولية مع أصحاب القداسة والغبطة ، بطاركة الكنائس الاورثوذكسية وأساقفتها، ومع رؤساء الجماعات الكنسية الإنجيليّة، ولاسيما من خلال مجلس كنائس الشرق الأوسط".
3. والتزمت أمام ممثلي رؤساء الدول الشقيقة الحاضرين في قداس التنصيب بأنّا "من أجل الشركة والمحبة، نعمل معاً في بلدان الشرق الأوسط، للمحافظة على علاقاتنا التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها، ونقوم بحوار صادق وعميق مع أخواننا المسلمين، لنبني معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، ذلك أنّ مصيراً واحداً يربط بين المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة، وثقافة خاصة بنا جميعاً بنتها الحضارات التي تعاقبت على أراضينا، وتراثاً مشتركاً أسهمنا كلُّنا بتكوينه ونعمل على تطويره الثقافي[1] .
4. وأعلنت أننا "في سبيل الشركة والمحبة، نعمل ونتعاون مع أبناء كنائسنا المنتشرين في عوالم الإنتشار، في القارّات الخمس. فهم أكانوا في أبرشيات منظّمة، أم في رسالات يخدمها رهبان وكهنة، أم في مجموعات منخرطة في الرعايا المحلية، يشبهون الأغصان في شجرة كنائسهم. فلا بدّ من ربط هذه الأغصان بجزع الكنيسة الأمّ، لكي يغتذوا من ماويتها، وتتقوّى هي بهم وتثمر. إنّه سرّ الكنيسة - الشركة الذي وصفه الربّ يسوع بالشجرة وأغصانها، حيث قال: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من يثبت فيّ وأنا فيه، يأتي بثمار كثيرة، لأنّكم بدوني لا يمكنكم أن تعملوا شيئاً" (يو15: 5).
5. أمّا لبنان، فإنّا نعتبره وطن الشركة والمحبة، أوّلا،ً بميثاقه الوطني القائم على العيش معاً بين المسيحيين والمسلمين، والمحصَّن بالدستور الذي يرسم في مقدمته: "لا شرعية لأيّ سلطة تناقض العيش المشترك" (فقرة ي)؛ وثانياً، بصيغته المرتكزة على المشاركة بالمناصفة في الحكم والإدارة بين المسيحيين والمسلمين. وهي صيغة يؤمل منها تأمين إستقرار الكيان، وتحقيق الديموقراطية وازدهار الإقتصاد، على أن تظلّ في تطوّر دائم، حسب مقتضيات الحداثة والتجربة التاريخية[2].
6. هذا الإلتزام بالشركة والمحبة يتبع الخطة التي رسمها الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" وعناوينها على التوالي: الشركة ضمن الكنيسة الكاثوليكية، في لبنان، ومع الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، ومع الجماعات الكاثوليكية في بلدان الإنتشار، ومع الكنيسة الكاثوليكية بأجمعها، والحوار مع الكنائس الأورثوذكسية ومع الجماعات الكنسيّة المتفرّعة عن حركة الإصلاح، وعبر مجلس كنائس الشرق الأوسط (الفقرات 80-88).
وهذا الإلتزام يستلهم ما طرحته الجمعية العامة لسينودس الأساقفة في روما في شهر تشرين الأول 2010. وهذا الطرح من المنتظر أنّه سيأتي مفصّلاً في الإرشاد الرسولي المرتقب إصداره في لبنان في شهر أيلول المقبل.
تتألّف هذه الرسالة من أربعة فصول: أتناول في الأول مفهوم الشركة والمحبة، وفي الثاني تحقيق الشركة والمحبة في الدائرة البطريركية، وفي الثالث ممارسة الشركة والمحبة في الزيارات الراعوية، وفي الرابع الشركة والمحبة في الحياة الوطنية.
7. يُقال عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أنّه "مجمع الكنيسة الشركة". فحدّد الكنيسة بانّها سرّ- sacrement، أي علامة وأداة للإتحاد العميق بالله، ولوحدة الجنس البشري بأسره"[3]. إذاً الكنيسة هي سرّ شركة الناس مع الله الواحد والثالوث عمودياً، وشركتهم فيما بينهم أفقياً. الكنيسة تعني الشركة وتحقّقها. فمن يدخل في الشركة مع الله بواسطة الكنيسة، إنما هو في شركة أيضاً مع أخوته؛ وكلّ الذين يتّحدون بالله إنما هم متحدون أيضاً فيما بينهم. الله هو نبع الشركة، والكنيسة أداتها بحيث أنّ الروح القدس، الفاعل فيها وبواسطتها، يحقّق شركة المؤمنين مع الله وفيما بينهم.
هذه الكنيسة-الشركة في جوهرها، هي على صورة شركة الأقانيم الإلهية الثلاثة في وحدة الطبيعة. إنّها شعب مجموع في وحدة الآب والإبن والروح القدس[4]، لكون الكنيسة هي عمل الأقانيم الإلهيّة الثلاثة. فبالمعمودية، التي أجراها الإبن وحقّقها الروح القدس، يصبح الإنسان إبناً للآب، وبالمشاركة في الخبز القرباني الواحد يدخل في الشركة مع الآب والإبن والروح، ومع المؤمنين الآخرين بالمسيح. يعلّم بولس الرسول: "كأس الشكر التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فكما أنّ ذاك الخبز هو واحد، كذلك نحن جميعاً جسد واحد، لأنّنا جميعنا نتناول من ذاك الخبز الواحد" (1كور 10: 16-17). كلّ هؤلاء المؤمنين يؤلّفون بالمسيح جسداً واحداً هو الكنيسة[5] حسب تعليم بولس الرسول: "كما أنّ الجسد واحد، وله أعضاء كثيرة، وأنّ جميع أعضاء الجسد، على كثرتها، هي جسد واحد، فكذلك المسيح أيضاً. ونحن جميعنا قد اعتمدنا بروح واحد، لجسد واحد" (1كور12:12-13)، ثمّ إنّ الروح يحييها ويقدّسها ويقودها موحِّداً إيّاها في الشركة وفي الخدمة، بما يفيض عليها من مواهب وعطايا وخدم تراتبية، فتوجد حالات مختلفة بين أعضاء الكنيسة، وتعدّدية في العلاقات القانونية[6]. فالروح، يقول بولس الرسول، أعطى بعضاً أن يكونوا رسلاً، وبعضاً أنبياء، وبعضاً مبشرين، وبعضاً معلمين، لكمال المؤمنين وعمل الخدمة وبنيان جسد المسيح لنصير جميعنا واحداً بإيمان ابن الله ومعرفته، ونصير إنساناً واحداً كاملاً بمقدار قامة المسيح" (أفسس4: 11-13).
8. يعلّم الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" أن الكنيسة لا تنحصر في بعدها المنظور الذي يظهرها بمظهر الطائفة المنظّمة، بل هي بسرِّها (mystère) في شركة مع جماعة القديسين السماوية غير المنظورة. كنيسة واحدة على الأرض غنيّة بنعم السماء. حقيقة مركّبة ذات عنصرين بشريّ وإلهيّ، مرتبطَين أحدهما بالآخر إرتباطاً وثيقاً. هذه الكنيسة هي سرّ اتحاد كلّ إنسان إتحاداً شخصيّاً بالثالوث الإلهي عمودياً، وكلّ الناس أفقياً. هذا الإتحاد يبدأ بالإيمان على الأرض، ويتّجه نحو اكتماله النهيوي في الكنيسة الممجَّدة في السماء. هذه الكنيسة-الشركة ببعديها العمودي والأفقي، وبجانبيها المنظور، وهو وضع الإنسان الحسّي الإجتماعي، وغير المنظور وهو الإتحاد بالنعمة مع الله، وبه مع جميع الناس، هي على صورة سيدها، واقع إلهي وبشري مرتبط بالزمان والمكان مع ما يستتبعه من حيثيّات تاريخيّة وجغرافيّة وإجتماعيّة وثقافيّة[7].
9. الشركة دعوة لنا، نحن المسيحيين، لنعيشها في الكنيسة والمجتمع، إذ بدونها لا نستطيع أن نؤتي ثمارهاً في الحياة العائلية والإجتماعية والوطنية، وفي نشاطنا المسكوني، وفي الحوار الحياتي والثقافي والوطني مع إخواننا المسلمين.
10. للشركة أوصاف. إنّها شركة روحيّة يقيمها الروح القدس بين المؤمنين لأنّه المبدأ الجامع، مثل الروح بالنسبة للجسد. تصدر هذه الشركة عن المعمودية، وتتقوّى بمسحة الميرون من مواهب الروح، وتكتمل بسرّ الإفخارستيا، فتقود إلى الشركة مع الثالوث القدّوس.
بالمعمودية نولد ثانية من الماء والروح وندخل في ملكوت الله (يو 3: 15)، أعني في الشركة مع الله الثالوث، الآب والإبن والروح القدس، ونصبح شهوداً له. بها صُوِّرنا على شبه المسيح، في سرّ موته وقيامته، لنعيش حياة جديدة (روم 6: 11-14)، وأصبحنا أعضاء في جسده وفي الكنيسة المحلية والكنيسة الجامعة، ملتزمين بالشركة والشهادة، ومدعوين لنعيش هنا والآن في الشركة الأخويّة فيما بيننا ومع الآخرين، دونما تمييز في العرق أو اللغة أو الدين أو الوضع الإجتماعي.
بتناول جسد الربّ ودمه في سرّ القربان، يدخل المؤمن والمؤمنة في عمق الشركة الكنسية، كما يقول بولس الرسول: "لأنّنا نغتذي من الخبز الواحد، فنحن كلّنا جسد واحد" (1كور 10: 17). من خلال الإحتفال بالليتورجيا الإلهيّة، القداس، تختبر الكنيسة هذه الشركة بين أعضائها من أجل الشهادة اليوميّة في المجتمع. بما أنّ سرّ القربان ينبع من السرّ الفصحي، من موت المسيح وقيامته لخلاص العالم، فإنّ أساس الشركة وينبوعها هما في السرّ الفصحي نفسه: "نذكر موتك يا ربّ، ونعترف بقيامتك وننتظر مجيئك الثاني". وهي شركة تتكوّن وتتغذى وتنمو من خلال التعرف إلى كلمة الله في الكتاب المقدس وعيشها في كلّ أبعاد حياتنا الشخصية والإجتماعية والسياسية.
11. وهي شركة قائمة بين المؤمنين والكنائس في شركة عضوية هي شركة الحياة والإيمان والأسرار والمحبة[8]، وفي شركة تراتبيّة منظّمة. ترسم القوانين مضامين هذه الشركة الكنسيّة بوجهَيها العضوي والتراتبي كالآتي:
المؤمنون المسيحيون هم الذين أُقيموا شعبًا لله باتحادهم بالمسيح بواسطة المعمودية. ولذلك، باشتراكهم على نحو ما في وظيفة المسيح الكهنوتية والنبوية والملكية، يُدعَون، كلّ حسب وضعه، إلى ممارسة الرسالة التي وكلها الله إليهم في الكنيسة والعالم. إنّها كنيسة مكوّنة ومنظّمة كمجتمع وقائمة في الكنيسة الكاثوليكية التي يسوسها خليفة بطرس والأساقفة الذين هم في الشركة معه (ق7). تقتضي الشركة الكاملة في الكنيسة الإلتزام بثلاثة: الإعتراف بحقائق الإيمان والأسرار ونظام الكنيسة الإداري (ق8).
يلتزم المؤمنون:
1) بأن يحفظوا سلامة الإيمان الذي حدّده سلطان التعليم الحيّ والأصيل في الكنيسة، وصانه أجدادهم وتناقلوه، ويعترفوا به علنًا ويمارسوه عبادة ويجسّدوه بأعمال محبّة.
2) بأن يتعاونوا جميعهم لبناء جسد المسيح، كلّ حسب وضعه ومهمّته، مع حفظ المساواة بينهم في الكرامة والعمل.
3) بأن يحافظوا دوماً على الشركة مع الكنيسة الكاثوليكية.
4) بأن يبذلوا كلّ جهدهم في إتمام واجباتهم نحو الكنيسة، وفي عيش حياة القداسة (ق10-13).
12. شكّلت الليتورجيا في حياة مسيحيّي الشرق الكاثوليك عنصراً أساسيّاً لوحدتهم الروحية والشركة والتعاون والترابط فيما بينهم. ومكّنتهم من أن يطبعوا ثقافات مجتمعاتهم بالقيم المسيحية وفي شتى الحقول من خلال الموسيقى والشعر والرموز والهندسة والأيقونات.
إنّ ما يُضعف المسيحيين في مجتمعاتهم هو ما نلحظه من تراجع في الممارسة الدينية والمشاركة في الأعمال الليتورجية، مردّه في العموم إلى ثلاثة: التعلّق الخارجي بالكنيسة من دون إيمان شخصي واعٍ؛ الفرديّة الدينيّة وهي نوع من الإيمان من دون انتماء؛ غياب المفهوم اللاهوتي والكنسي للأسرار بسبب النقص في التعليم الليتورجي المناسب، وانتشار الروح العلمانية بل وسيطرتها على المجتمعات وتفشّي فلسفة النسبية فيها.
فلا بدّ من تعزيز التجدّد الليتورجي في النصوص وطريقة الإحتفالات، وفقاً لحاجات المؤمنين وانتظاراتهم، مع تعزيز معرفة التقليد الرسولي وتقليد الكنيسة الحيّ بالعمق وبالشكل المناسب للغة اليوم ولفئات العمر كافة. فمن الضرورة ان تغتني الأناشيد والتراتيل والنصوص الليتورجية من كلام الله الذي يحقّق ما يقول، ليتمّ من خلال اللقاء الشخصي بين الله والإنسان. إنّ الحياة الأسراريّة تُدخل المؤمنين في الحياة الجديدة بالمسيح، وبالتالي في مساحات الشركة والشهادة، وترسّخهم أكثر فأكثر في بنوّتهم الإلهية.
13. هي المحبة النابعة من الله، الذي "هو محبة" (1يو4: 8)، وقد انحدرت إلينا بشخص ابن الله المتجسّد (agapé)، الذي فدانا بموته على الصليب وبرّرنا بقيامته من بين الأموات. هذه المحبة الإلهية الإنحدارية تسمو بمحبة الإنسان المفطورة على الأنانية ومحبة الذات (eros)، وترفعها إلى سموّ سرّ الله وتفتحها على حاجات الآخرين، وعطيّة الذات في سبيل الإخوة. هذا الحبّ الإلهي الإنحداري والصاعد بالحبّ البشري إلى سموّه، مرموز إليه بالسُّلَّم الذي رآه يعقوب في الحلم، وهو يربط بين السماء والأرض، والملائكة صاعدون عليه ونازلون (تكوين28: 12). وهذه المحبة تشكّل دينامية الشركة وجوهرها.
فالله بمحبته دخل في شركة مع الجنس البشري عندما خلقه، ثم أتى يبحث عنه بتجسّد الإبن الوحيد، وافتداه بصلبه وقدّسه بقيامته. وترك له كلام الحياة ونعمة الأسرار وعطية الروح القدس ليدخل الناس بدورهم في شركة مع الله، ومع بعضهم البعض[10]. فلا بدّ لنا من إحياء هذه الشركة ببعديها العمودي، الإتحاد بالله، والأفقي الوحدة مع الناس والمحبة الإجتماعية.
14. المحبة هي جوهر حياتنا اليومية وديناميتها. فالحياة البشرية قائمة على تبادل الحبّ بيننا وبين الله. الحبّ الذي فينا هو جواب على حبّ الله لنا، فهو الذي أتّخذ المبادرة الأولى (1يو4: 10)، وجسّد حبّه لنا بالإبن الوحيد الذي أرسله إلى العالم لنحيا به (1يو4: 9). ونحن بتنا من خلاله نرى وجه الآب (يو14: 9). وأصبحت محبتنا لكلّ إنسان طريقاً لملاقاة الله. من يغمض عينيه عن أخيه الإنسان، إنما يغمضها عن الله[11].
تقتضي فينا المحبة الإقتداء بالمسيح في التضامن مع الذين يعيشون هاجس حزن أو ضياع أو مصير، وفي السير والتفكير معهم، كما فعل يسوع مع تلميذَي عمّاوس (لو24: 13-35)، لكي نحرِّرهم من حالة اليأس والقنوط، ونزرع الطمأنينة في نفوسهم والسكينة في قلوبهم.
15. المحبة تشمل العقل والإرادة والعاطفة. فمعرفة الله هي الطريق إلى محبته، وجواب الإرادة بكلمة "نعم" على إرادته يجمع العقل والإرادة والعاطفة في فعل حبّ شامل. فلا تكون إرادة الله، الظاهرة في وصاياه وكلامه وتعليم الكنيسة، غريبة عني أو دخيلة عليّ، بل تصبح هي إرادتي الشخصية. في هذا الضوء يؤكِّد القديس أغسطينوس أنّ "الله قريب مني أكثر ممّا أنا قريب من نفسي" (إعترافاتي، 3/6/11). لذلك أريد أنا ما يريده الله، وأمقت ما يمقته. وهكذا تصبح محبتي لكلّ إنسان ممكنة، لأنّني أحبّه بالله ومع الله، ولا أنظر إليه بعيني ومشاعري فقط بل بنظرة يسوع المسيح، فصديقه صديقي. وبالحبّ يكبر الحبّ[12].
16. لكنّ محبة الله نلتقيها ونختبرها في ليتورجيا الكنيسة وصلاتها وحياة الجماعة المؤمنة، حيث نرى حضور الله، ونتعلّم كيف نلتقيه في حياتنا اليومية، وكيف نجعل جماعتنا الرعوية "جماعة محبة" تعكس الحبّ الإلهي الثالوثي، بحسب ما يقول القديس أغسطينوس: "أنت ترى الله الثالوث، عندما ترى محبة الجماعة" (في الثالوث 8/8/11). إنّ الجماعة الكنسيّة مدعوّة لتكون في العالم الشاهدة لمحبة الله بالإبن يسوع، وبالتالي عائلة واحدة[13].
17. ليست المحبة مجرّد عاطفة أو مشاعر إنسانية بل هي خدمة رسولية، إلى جانب خدمة إعلان كلمة الإنجيل، وخدمة نعمة الأسرار، وهي بالتالي عنصر مكوّن للكنيسة، كما نقرأ في كتاب أعمال الرسل، يشتركون في كسر الخبز والصلاة...ويشاركون في ما يملكون" (أعمال2: 42-44). يتّضح لنا من هذا النصّ أنّ مقوّمات الكنيسة ثلاثة: تعليم الرسل (Kerygma)، الصلاة والليتورجيا الإلهية ((liturgia والشركة في الأموال وخدمة المحبة ((diakonia. لقد أجرى الرسل الإثنا عشر أوّل تنظيم لخدمة المحبة بإنشاء الشمامسة السبعة الأول. ثمّ أوكلوا إليهم بوضع يدهم الرسولية خدمة المحبة المنظمة تجاه الفقراء والأرامل وسائر المعوزين، لينصرفوا إلى خدمة الكلمة وخدمة الأسرار بحكم سلطانهم الكهنوتي (أعمال 6: 1-6). وهكذا جرى تنظيم خدمة المحبة في الكنيسة على مرّ الأجيال حتى أيامنا[14].
فمن الواجب على الأبرشيات والرعايا والرهبانيات أن تنظّم خدمة المحبّة على مستوى الهيكليات، وأن تشترك الأفراد، لكي نكون كلّنا تلاميذ المسيح حقّاً، على ما يقول الربّ نفسه: "بهذا يعرف الناس أنّكم تلاميذي، إذا كان فيكم حبّ بعضكم لبعض" (يو13: 35). وبما أنّ الكنيسة هي خادمة الإنسان، فإنّ رسالتها الروحيّة لا يمكن أن تنفصل عن رسالتها الإجتماعية، الهادفة إلى بناء الإنسان في كيانه وكرامته. فالإنسان طريق الكنيسة، كما كان طريق المسيح[15].
18. معلوم أنّ واجب المحبة لأخينا الإنسان كتبه الخالق في طبيعة الإنسان. ما يعني أنّ الحياة المسيحية تمتدّ إلى أبعد من حدود الإيمان، كما يكشف لنا مثل السامري الصالح (لو 10: 27-34). ليست محبة الإنسان مفروضة من الخارج، بل تنبع من الإيمان الفاعل في القلب (غلا5: 6). فلقاء الله بشخص المسيح يفتح العقل على الآخر، ويشعل المحبة في القلب. ولذلك خدمة المحبة حضور في وسط الأخوة، وفي وسط عوزهم على أنواعه، ودخول في منطق الله الداعي إلى المحبة، وقد أعطانا المثال والقدوة في شخص يسوع. لهذا أوصانا الربّ "بأن نحبّ بعضنا بعضاً، كما هو أحبنا" (يو13: 34).
هذه المحبة، على مثال محبة المسيح، هي "قلب يبصر" ويعطي دونما حساب أو إعتبار، بعفوية وتلقائية، فيتأنسن المجتمع بفعل الخير هنا والآن. ما أحوجنا إلى التربية على "قلوب تبصر" في العائلة والمدرسة، في الكنيسة والمجتمع!
والمحبة، على مثال محبة المسيح، محبة مجّانية، فلا تتحوّل أبداً إلى وسيلة لإقتناص الآخر إلى ديننا أو حزبنا أو جماعتنا أو فئتنا أو منظّمتنا. أجل محبة الله مجّانية أبداً. هكذا ظهرت في الخلق وفي الفداء والتقديس[16].
هذه المحبة بكلّ مفاهيمها تنسحب على مستوى إحياء الوحدة في التنوّع، وعلى مستوى الحوار المسكوني مع الكنائس، إنطلاقاً من تراثنا المشترك، والحوار مع الأديان وبخاصّة مع المسلمين في عالمنا العربي، على أساس ثقافتنا العربية المشتركة ومصيرنا الواحد والقضية المشتركة، من أجل العيش معاً باحترام متبادل وتعاون ومساواة في حقوق المواطنة وواجباتها.
19. والمحبة تستدعي العدالة لكي يحقّق الإنسان كلّ ذاته، فتتمّ فيه كلمة القديس إريناوس: "مجد الله الإنسان الحيّ". إنّه بحاجة إلى هاتين الفضيلتين، يتنشّأ عليهما وينمو بهما. فالعدالة واجبة بوصف الإنسان مواطناً في المجتمع الأرضيّ، والمحبة واجبة بوصفه عضواً في الكنيسة، جسد المسيح السرّي. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يقوم تعاون وثيق بين الكنيسة والسلطة السياسية من أجل الخير العام وخيرهما المشترك، على قاعدة المحبة والعدالة.
فالعدالة واجب الدولة والعمل السياسي؛ والمحبة واجب الكنيسة والعمل الرسولي: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متى 22: 21). العدالة تؤمّن الخير العام الذي منه خير الإنسان وكلّ إنسان، وتوفّر له المجال ليكسب خبزه بكرامة عرق الجبين؛ والمحبة تؤمّن له خيره الروحي والخلقي والمعنوي، توقظ العقل وتنقّي الضمير، لكي يعيش الإنسان بمقتضيات العدالة، ويبني هيكليّاتها.
العدالة والمحبة تتكاملان: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله" (متى 4:4؛ تثنية 8: 3). العدالة توفّر الخبز، والمحبة تعطي التعزية للروح، والمساعدة للنفس، والحبّ المتفاني للقلب.
من الضرورة بمكان أن تتنظّم في الأبرشيات والرعايا والرهبانيات والمؤسسات هيكليّات تؤمّن الإلتزام بالعدالة وخدمة المحبة[17].
20. يذكّر المجمع البطريركي الماروني أنّ الكنيسة، بوصفها "أمّاً ومعلّمة"، تحمل رسالة خلاص الإنسان، وصون كرامته، والدفاع عن حقوقه؛ وأنّ لها، لهذه الغاية، عملاً وموقفاً في خدمة العدالة والمحبة على المستويات التربويّة والعلميّة، السياسيّة والإقتصاديّة، الإجتماعيّة والإعلاميّة والبيئيّة[18].
21. إنّ سرّ الكنيسة-الشركة يتجلّى في الروح المجمعية والعمل المجمعي. فرسمت مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، وتحديداً في القانون 114 إنشاء الدائرة البطريركية التي تشمل دوائر ذات إختصاصات متنوّعة.
بالإضافة إلى النائب البطريركي العام على الأبرشية البطريركية (ق 245)، الذي يعاون البطريرك في الأمور التي يكلّفه بها (ق 38 بند1) والنائبين البطريركيين (ق 87)، الواحد للإشراف على مكاتب الدائرة البطريركية بالتعاون مع أمين عام، والآخر للشؤون القانونية والقضائية، هنالك المجمع الدائم، والقيّم البطريركي ومجلس الشؤون الإقتصادية وقلم الدائرة ولجنة الشؤون الليتورجية والمحكمة البطريركية الإستئنافية. وقد تمّ إنشاء أمانة عامة ومكاتب إدارية لتجسيد الشركة والمحبة، تنفيذ توجيهات الكرسي الرسولي وتوصيات المجمع البطريركي الماروني على مستوى لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الإنتشار، وما يقرره سينودس أساقفة كنيستنا المارونية، ومتابعة تطبيق المقرّرات والتوصيات الصادرة عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بالتعاون مع اللجان المنبثقة منه، وعن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، ومجلس كنائس الشرق الأوسط. ومن شأن هذه الدوائر أيضاً أن تسهر على متابعة شؤون إنمائية أو إصلاحية تبلغ مسامع صاحب الغبطة ومعاونيه.
إننا في ذلك نعمل بموجب توصية المجمع البطريركي الماروني: "نظراً إلى الواقع الجديد المتمثّل في انتشار الكنيسة المارونية، مع كلّ ما ينطوي عليه من أبعاد جغرافية وديموغرافية وثقافية وكنسيّة، يوصي المجمع بتنظيم علميّ ودقيق من شأنه تأمين التواصل والشركة وتمتين البنية البطريركية الملائمة لانتشارها، بغية تفعيل التجديد الروحي، والإصلاح الإكليريكي، والتعليم والبحوث والثقافة والتربية، والإنماء الإجتماعي والإقتصادي، والحوار المسكوني"[19].
22. تشكّل مكاتب الدائرة مرجعية إستشاريّة للبطريرك، تهيئ له ما يلزم لكي يتمكّن من العمل على تنفيذه بشكل مباشر أو بالتعاون مع مطارنة الأبرشيات والرؤساء العامين والرئيسات العامات، تحقيقاً للمجمعية والشركة والمحبة. يقوم عمل المكاتب على التشاور والتنسيق والتعاون مع اللجان الأسقفية المنبثقة من مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، في الأمور التي تتناولها، ومع المجالس واللجان والهيئات والمؤسسات القائمة سواء في البطريركية أم في الأبرشيات أم في الرهبانيات، في الأمور المشتركة. فلا تضارب في الصلاحيات والمهام، ولا إزدواجية، ولا تجاهل، بل تنسيق وتكامل وتخطيط في العمل المشترك على مستوى كنيستنا المارونية.
تشمل الدائرة مكاتب تعمل مباشرة مع البطريرك، ومكاتب أخرى يعنى بعضها بالشؤون بالشؤون الكنسية، وبعضها بشؤون راعوية العلمانيين، وبعضها بالشؤون الإجتماعية والإقتصادية والإنمائية، وبعضها بالشؤون الوطنية العامة. وأخرى لدعم هذه المكاتب.
أولاً، المكاتب المرتبطة مباشرة بالبطريرك
23. لقد ثبّتنا أمانة سرّ البطريركية المعروفة بقلم الدائرة والمنصوص عليها في القانون ، 123، وتعنى بتوثيق أعمال البطريرك والدائرة البطريركية والمراسلات وحفظ الأرشيف وتسجيل الواقعات وتلاوة البيانات وإعطاء الإفادات الرسمية وتوقيعها، وفقاً للقانونين 254 و256.
وأنشأنا مكتب أمين سرّ البطريرك الذي يعنى بتنظيم مواعيد المقابلات اليومية واستقبال أصحابها ومرافقتهم، وترتيب برامج زيارات البطريرك الراعوية داخل لبنان، وتدوين محاضرها وواقعاتها.
واستحدثنا مكتب الإعلام الذي يعنى بإصدار بيان إعلامي يومي عن نشاطات البطريرك يتضمّن أيضاً تصريحات الأشخاص الذين يستقبلهم، وينقل إلى الإعلام ما يصدر عن أمانة سرّ البطريركية من بيانات رسميّة يقرّها البطريرك، وينظّم وينسّق نشاط الإعلاميين داخل الصرح البطريركي، ويعنى بتنسيق برامج زيارات البطريرك الراعوية إلى خارج لبنان بصحبة النائب البطريركي العام، ويرافقه فيها، ويدوّن واقعاتها.
24. إنّ لجنة متابعة المجمع البطريركي الماروني التي رافقت منذ اختتام أعماله مسيرة تعميم نصوص المجمع على كل الكنيسة المارونية وتقبّلها والسعي الى تطبيق التوصيات، تنضمّ الى الدائرة البطريركية لتكون خليّة تفكيرٍ وتخطيطٍ تسهم مع مكاتب هذه الدائرة في إكمال مسيرة تطبيق المجمع، وتعمل على تحضير المجامع المقبلة، وفقاً للقانونين 140-145.
لقد استحدثنا المكاتب الثمانية التالية:
1. مكتب شؤون الأبرشيات والرهبانيات: يحلّ محلّ "الدائرة البطريركية للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيات"، ويقوم بمهامها المحدّدة في نظامها الداخلي، الذي يصبح نظام هذا المكتب مع ما يلزم من تعديلات. إنّه يعمل على تعزيز التعاون والتنسيق بين الأبرشيّات والرهبانيّات المارونية، وتنظيم العلاقات المتبادلة بينهـــا في ضوء القوانين الكنسية والتقليد الماروني.
2 . مكتب شؤون الكهنة: يعنى بتعزيز الروحانية الكهنوتية وفقاً لتعليم الكنيسة وقوانينها وتعليم المجمع البطريركي[20]، ومساعدة الكاهن على تنمية حياته الروحية، والإصغاء اليه، وموآزرته على حلّ مشاكله وإطلاع مطران الأبرشية عند الحاجة، والاهتمام بحاجات كنيسته المارونية متطوّعًا لخدمتها بسخاء؛ كلّ ذلك بالتعاون والتنسيق مع مطران أبرشيته.
3. مكتب شؤون الإنتشار: يعمل المكتب على ترسيخ علاقة البطريركية المارونية بأبنائها المنتشرين، من خلال الأبرشيات والرهبانيات والمؤسسات العلمانية المارونية ذات الصلة. ويسعى هذا المكتب إلى ترسيخ الشركة بين موارنة لبنان وموارنة الإنتشار، والإسهام في نقل التراث الكنسي الشرقي الى الأجيال الجديدة، وربط المنتشرين الموارنة بجذورهم الروحيّة واللاهوتيّة والليتورجيّة والانسانيّة، وبوطنهم الروحي لبنان، وفقاً للخطّة التي رسمها المجمع البطريركي الماروني[21]. كما يعنى باقتراح آليات لإعداد توزيع كهنة ورهبان وراهبات في بلدان الإنتشار حيث توجد أبرشيات أو رسالات. الكلّ بالتنسيق والتعاون مع مطارنة أبرشيات الإنتشار.
4. مكتب التراث والممتلكات الثقافية: يعمل على صون الهويّة المارونية بالحفاظ على شواهد التاريخ الماروني وكشف النقاب عن الإرث والممتلكات الثقافية على أنواعها ووضعها في تصرّف الباحثين والزائرين. يضمّ هذا المكتب ثلاثة:
الأرشيف الذي يجمع الوثائق والمستندات العائدة للكنيسة المارونية في لبنان، والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار.
مكتبة مركزيّة متخصصة في الإرث الثقافي الماروني، تجمع مؤلفات الموارنة والمراجع الرصينة عنهم، وتكوّن مرجعيّة علميّة أكيدة للباحثين.
متحف يجمع بعضًا من ممتلكات الكنيسة المارونية الثقافيّة، ويعبّر عن تاريخها العريق وموقعها ودورها وشهادتها في عالمها المشرقي وانتشارها العالمي.
كما يعنى هذا المكتب بإبراز معالم الكراسي البطريركية المارونيّة عبر التاريخ، ويعمل على إعداد مشاريع لإعادة ترميمها بالتعاون مع المراجع المعنيّة.
5. مكتب الإحتفالات الليتورجية: يعمل على تنظيم الإحتفالات الليتورجية التي يرأسها السيد البطريرك، وإعداد نصوصها، والسهر على أدائها وفقاً للكتب الطقسيّة، وتنسيق نقلها عبر وسائل الإعلام الإذاعي والتلفزيوني والإلكتروني.
6. مكتب جوقة البطريركيّة: تؤمّن هذه الجوقة خدمة بعض الإحتفالات الليتورجية الرسميّة في كنيسة البطريركيّة إنطلاقًا من التراث الموسيقي الأنطاكي السرياني والتقليد الماروني العريق.
7. مكتب العلاقات المسكونيّة: يعمل على تعزيز الإلتزام المسكوني في الكنيسة المارونية على المستويات الروحية واللاهوتية والراعوية والإجتماعية، وقد أوصى به ورسم خطوطه المجمع البطريركي الماروني[22]. يعزّز هذا الإلتزام يعزّز الحضور المسيحي في لبنان والشرق الأوسط بروح الإنجيل وخدمة الإنسان. ويعود للكنيسة المارونية دور خاص نظراً إلى فرادة موقعها في العائلة الإنطاكية وشركتها التامة مع الكرسي الرسولي الروماني. ويعنى المكتب، في ضوء توصيات المجمع البطريركي الماروني 23، باقتراح السبل لتعزيز الشركة بين مسيحيي المشرق العربي عبر تفعيل إلتزام الموارنة المشترك معهم، بالسعي لعيش الأمانة للأصالة الإنطاكيّة من ناحية، وتوطيد الشهادة المسيحيّة الواحدة في بيئتنا الشرق اوسطيّة الحاضرة من ناحية أخرى، كما وعبر الشهادة للخصوصيّة المارونيّة ضمن الكنيسة الكاثوليكيّة وبين سائر المسيحييّن في بلدان الإنتشار مؤكدِّين على وحدة الإيمان المسيحيّ ضمن التعدّديّة الكنسيّة.
8. مكتب العلاقات والحوار مع الأديان: يعمل على نشر الوعي والمعرفة للمفاهيم السليمة التي تُبنى عليها العلاقات مع المسلمين وسواهم من الأديان الأخرى، إنطلاقاً من تعاليم الكنيسة الجامعة، والإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" ومن خبرة الكنيسة المارونيّة في هذا المجال، كما أوجزها المجمع البطريركي الماروني[23]. ويقترح هذا المكتب السبل لتطبيق توصياته، بغية تجاوز المعوقات في العلاقات المسيحيّة – الإسلاميّة من جهة، وتعزيز مستقبلها من جهة أخرى[24]. وينسّق حيث تدعو الحاجة مع اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي – الإسلامي، ومع اللجنة الوطنية للحوار.
ثالثاً، مكاتب راعوية العلمانيين
25. اعتبرنا من أولويات راعوية العلمانيين ما يختصّ بالزواج والعائلة والشبيبة والمرأة، فأنشأنا مكاتب لها.
1. مكتب راعوية الزواج والعائلة: يعمل على توعية العائلات المارونية على دعوتها الأساسية وهي بناء عائلة وفقًا لقصد الله الذي أسّس سر الزواج من أجل خير الزوجين وإنجاب البنين وتربيتهم، بحيث تكون العائلة كنيسة منزلية تنقل الإيمان من جيل إلى جيل، وتعلّم الصلاة، وهي خليّة أساسية للمجتمع تربّي على العلاقات الإجتماعية والتضامن والترابط والتواصل، ومدرسة طبيعية أولى للتربية على القيم الإنسانية والأخلاقية. ينسّق المكتب مع اللجنة الاسقفية للعائلة والحياة، ولجان راعوية العيلة في الأبرشيات، في سعيه إلى اقتراح السبل لتطبيق تعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته[25]، في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الإنتشار.
2. مكتب راعوية الشبيبة: إنّ الخطّ الذي يتبعه المكتب هو تعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته[26]. فهو ينظّم لقاءات للشبيبة مع البطريرك ويقترح مواضيعها بهدف التبادل بين ما ترغب الشبيبة أن تقوله للكنيسة وللبطريرك وما لهذين أن يقولا للشبيبة، كما تهدف هذه اللقاءات إلى تنمية حسّ الإنتماء والإلتزام الكنسي والوطني لدى الشباب وتجسيده بحضور فاعل راعويًا وإجتماعيًا، وإلى تعميق الشركة بين الشبيبة ورعاة الكنيسة، وتعزيز انفتاحها على العمل المسكوني والعلاقات مع الأديان. ويعنى المكتب بتنظيم الأيام المارونية العالمية للشبيبة بالتنسيق مع المجلس الرسولي العلماني ولجان الشبيبة في الأبرشيات، والعمل الراعوي الجامعي، والحركات والمنظمات الرسولية المعنية بالشبيبة.
3. مكتب راعوية المرأة: يقدّم الإقتراحات العملية لمساعدة المرأة على تحقيق دعوتها الخاصّة والإلتزام بدور فاعل وهام في العائلة والكنيسة والمجتمع وفقاً لتعليم الكنيسة وبخاصّة الرسائل البابوية المعنيّة بالمرأة[27].
تتناول الإقتراحات المرأة كإمرأة، والمرأة الأمّ والزوجة والأخت والإبنة والعاملة والوحيدة والمكرّسة.
رابعاً، مكاتب الشؤون الإجتماعية والإقتصادية والإنمائية
26. تواصل البطريركية خدمتها للشؤون الإجتماعية والإقتصادية والإنمائية من خلال مؤسسات قائمة هي:
1. مجلس الشؤون الإقتصادية: يسهر مع القيّم البطريركي على حسن إدارة واستثمار أملاك الكرسي البطريركي في بكركي والديمان والوكالات البطريركية في روما وباريس ومرسيليا والقدس، وعلى مستوى الأوقاف وممتلكات الأبرشيات والرهبانيات يعمل، في إطار القوانين الكنسيّة، على تطبيق تعاليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته[28].
2. المؤسسة الإجتماعية المارونية: تقوم بمشاريع إسكانية لذوي الدّخل المحدود، من أجل مساعدة الشبيبة على تأسيس عائلة والبقاء في لبنان. ولها هيكليتها ونظامها الخاص.
3. الصندوق التعاضدي الإجتماعي الصحّي: يعزّز التعاضد بين الأعضاء المنتسبين لدرء المخاطر، ويغطّي النفقات الطبّية والإستشفائية، ويقدّم للأعضاء وعائلاتهم مساعدات عائلية إجتماعية ومدرسية وسكنية وفقاً لتعليم الكنيسة، ومن أجل تأدية رسالة المحبة.
27. بالإضافة إلى هذه المؤسسات، أنشأنا مكتبَين جديدَين:
1. مكتب الشؤون الإجتماعية والإنمائية: يعنى، بالتعاون مع المعنيين، بتحقيق مشاريع إنمائية زراعية وصناعية وسياحية في المناطق النائية والجبلية، من أجل تأمين فرص عمل وإبقاء المواطنين في بلداتهم وقراهم. ويعمل على حسن إستثمار أملاك الوقفيات الخيرية، بالتعاون مع وكلائها، من أجل تحقيق غاياتها الإجتماعية والإنسانية والراعوية. وينسّق مع المؤسسات الخيرية الكنسية والمدنية لتلبية حاجات المعوزين. إنّه بكلّ ذلك يعمل على تطبيق تعليم المجمع البطريركي الماروني في الشأن الإجتماعي وتوصياته[29].
2. مكتب الشؤون التربوية: إنطلاقاً من توصيات النصَّين السادس عشر والسابع عشر للمجمع البطريركي الماروني، يكوّن هذا المكتب فريق عملٍ يحمل رسالة الكنيسة التربويّة في حقول التعليم العام والتعليم التقني والتعليم العالي، فيسهر على تطبيق تعليم الكنيسة بحيث تكون السياسات التربويّة منسجمة مع تطلّعات الكنيسة وخير المجتمع. إنّه في ذلك ينسّق ويتشاور مع الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية واللجنة الأسقفية المعنية بالتعليم العالي.
خامساً، مكاتب الشؤون الوطنية العامة
28. نظراً لما للبطريركية المارونية من دور تاريخي في الشأنَين الوطني والعام، ولما تتلقّى من مراجعات، ولما لها من علاقات خارجية، فقد أنشأنا ثلاثة مكاتب:
1. مكتب الشؤون الوطنية الداخلية: يعمل إنطلاقًا من واجب التعاون الوثيق بين الكنيسة المارونيّة ومؤسّسات الدولة اللبنانيّة من أجل الخير العام وخيرهما المشترك، ويتابع الملفات المشتركة مع الدوائر المختصّة، ويسهر على وضع استراتيجية لتحفيز الشباب وتوجيههم لتحمُّل المسؤوليات في القطاع العام.
2. مكتب الشؤون الخارجية: يسعى إلى توثيق العلاقة بين البطريركية المارونية وسفارات الدول العربية والأجنبية العاملة في لبنان، تعزيزًا لدور الكنيسة المارونية، وخدمةً لقضايا الموارنة في النطاق البطريركي وبلدان الانتشار.
3. مكتب الأرض والبيئة: يعزّز التنشئة على قيمة الأرض والتوعية عليها، والمحافظة عليها وعدم بيعها واستثمارها. ويعمل على وضع استراتيجية تنموية شاملة للحفاظ على الأرض والمياه بالتعاون مع مؤسسات الدولة اللبنانية والمنظمات الإنمائية الدولية، والعمل مع الأبرشيات والرهبانيات على صون البيئة في أملاكها والأوقاف التابعة لها وإطلاق حملة تثقيف بيئيّ.
29. تحتاج مكاتب الدائرة إلى دعمَين علمي ومادي. فيتمّ هذا الدعم بواسطة:
1. المركز الماروني للتوثيق والأبحاث: يؤمّن لمكاتب الدائرة ما يلزمها من دراسات وأبحاث علميّة ومعطيات إحصائيّة. ويرسم الخطّة الاستراتيجية العامة التي تقرّها البطريركية، فتعمل المكاتب من وحيها، في كلّ ما تقوم به من نشاط.
2. مكتب الدعم والتطوير: من أجل تحقيق مهام مكاتب الدائرة البطريركية لابدّ من تضافر الجهود ومساهمة أكبر عددٍ ممكن من أبناء وبنات مجتمعنا على الصعيدين المادي والمعنوي، هذا ما سيعمل على توفيره مكتب الدعم والتطوير.
أولاً، مع قداسة البابا والكرسي الرسولي
30. فور انتخابي بطريركاً التمست الشركة الكنسية مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر الذي منحني إيّاها برسالة لطيفة في 24 أذار 2011، تُليت في قداس التنصيب في 25 منه. عبّر فيها قداسته عن "قبلة المحبة مع الشركة الكنسية"، وتمنّى أن يكمل البطريرك الذي يحمل اسم بطرس مع إسمه الأصلي، الرسالة التي أوكلها الربّ يسوع لهامة الرسل "ليحفظ كنيسته في الوحدة والحقيقة والمحبة، وأن يكون رسول وحدة، لكي تتمكّن الأمّة اللبنانية، بفضل تعاون الجميع والنشاط المسكوني والحوار بين الأديان، من تأدية دورها على صعيد التضامن والسلام في الشرق الأوسط، بل وفي العالم كلّه".
30. ومن 11 إلى 16 نيسان 2011 قمت بزيارة إلى قداسة البابا والكرسي الرسولي، للتعبير الحسّي عن هذه الشركة الكنسيّة. في 14 منه كان لقاء شخصي مع قداسته شخصي ثمّ عام مع الوفد البناني الذي تمثّلت فيه العائلة اللبنانية بكلّ مكوّناتها، وتبادل كلمات. وأكّد قداسة البابا في كلمته "أنّ هذه الشركة الكنسية ستجد ترجمتها الأصلية في الليتورجيا الإلهية حيث ستتمّ غدا المشاركة في جسد المسيح ودمه، قرب ضريح القديس بطرس. وهنا ستظهر الشركة التامة بين خليفة أمير الرسل والخليفة السابع والسبعين للبطريرك الأوّل القديس يوحنا مارون". وأضاف: "ولأنّكم في قلب الشرق الأوسط لديكم مهمة عظيمة تجاه الإنسان، هي محبة المسيح التي تحضّكم على الإعلان عن الخبر السّار الذي هو الخلاص. فالضرورة ملحّة للتعريف بالإنجيل للأشخاص الذين لا يعرفون إلّا قليلاً والذين ابتعدوا عن الكنيسة، وللقوى الحيّة الموجودة في لبنان وفي الشرق الأوسط".
في 15 نيسان كان الإحتفال بالذبيحة الإلهية في بازيليك القديس بطرس، وقرب ضريحه، أقمتُه مع نيافة الكردينال ليوناردو ساندري رئيس مجمع الكنائس الشرقيّة، ممثِّلاً قداسة البابا بمشاركة المطارنة والرؤساء العامين والكهنة والرهبان والراهبات والوفد اللبناني وعدد غفير من المؤمنين، فتبادلنا مناولة جسد الربّ ودمه وهي الشركة الأسراريّة التي تعطي الشركة الكنسيّة كلّ معناها، فتكتمل بين أسقف روما وبطريرك أنطاكيه على أساس الشركة مع المسيح وكنيسته.
ثمّ نظّم الكردينال ساندري لقاءً تكريمياً في قاعة مجمع الكنائس الشرقيّة أتاح لي التعبير عن الشركة الكنسيّة مع دوائر الكرسي الرسولي عبر الكرادلة والمطارنة رؤساء تلك الدوائر، كما قمت بزيارة إلى عدد من هذه الدوائر للغاية نفسها.
أما الشركة مع قداسة البابا والكرسي الرسولي فهي عريقة في كنيستنا المارونية بل ترقى إلى تأسيسها أولاً جماعة دير مار مارون، المعروف "ببيت مارون" في القرن الخامس، ثمّ كنيسة بطريركية في أواخر السابع. هذه الشركة التامة حفظت وحدة كنيستنا مع كرسي روما، وأعطتها دوراً مسكونياً في منطقتنا، ثمّ بعد تأسيس المدرسة المارونية في روما سنة 1584، انفتحت على الغرب وألّفت جسراً ثقافياً بينه وبين الشرق، أعطاها دوراً رياديّاً مسكونيّاً في النهضة الشرق أوسطية[30]. إنّ الشركة الكنسيّة تندرج في هذا الخط.
ثانياً، مع السلطات اللبنانيّة المدنيّة والكنسيّة
32. من أجل مبادلة الشركة والمحبة، قمت في 1 و 4 و 5 و 6 نيسان 2011 بزيارات رسميّة شملت رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، ورئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي، ورئيس مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال الشيخ سعد الحريري، ورئيس الحكومة المكلّف السيد نجيب ميقاتي. تجّددت في هذه الزيارات روابط الثقة والتعاون بين الكنيسة والسلطة السياسية من أجل بلوغ الهدف المشترك الذي هو خدمة الإنسان والمجتمع والوطن، مع الفصل التام بينهما والتمييز على مستوى الوسائل والسبل.
ثمّ شملت الزيارات رؤساء الطوائف الإسلامية: مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، وشيخ عقل الموحّدين الدروز نعيم حسن. وكان تأكيد على مسؤوليتنا المشتركة في الشهادة للعيش الواحد المسيحي – الإسلامي وحوار الحياة والثقافة والتعاون من خلال وحدتنا ولقاءاتنا وتشاورنا. فالتعاون المسيحي – الإسلامي في لبنان كفيل بتعزيز العلاقات التضامنية مع العالم العربي، بحيث"يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان الشرق الأوسط. إنّ مسيحيي هذه البلدان والمسلمون مدعوون إلى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون. يهدف إلى تطوير شعوبهم تطويراً إنسانياً وأخلاقياً[31].
وتبادلت الشركة مع بطاركة الكنائس الكاثوليكية بزيارة كلّ من البطريرك غريغوريوس الثالث لحام للروم الملكيين الكاثوليك، والبطريرك نرسيس بدروس الثامن عشر للأرمن الكاثوليك، والبطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان للسريان الكاثوليك. نحن نشكّل معاً مجلس رئاسة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وكلّنا أعضاء في مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك بالإضافة إلى بطريرك الأقباط الكاثوليك وبطريرك الكلدان، وبطريرك أورشليم للاتين. إنّ زيارتي لهم كانت للتأكيد على وحدتنا والروح الجماعية، وعلى تعزيز التشاور والتعاون وتكثيفهما في مختلف الميادين الرسولية والإجتماعية والإنمائية وأعمال المحبة في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الإنتشار[32].
ثمّ زرت الكاثوليكس آرام الأول للأرمن الأرثوذكس. وأودّ هنا أن أعرب عن شكري للبطاركة ورؤساء الكنائس الأرثذوكسية الذين زاروني فيما بعد، وآمل أن أردّ الزيارة لهم في مواقع تواجدهم. لكني أكّدت للجميع العزم على التعاون مسكونيّاً ولاسيّما من خلال تفعيل عمل مجلس كنائس الشرق الأوسط، لكي نطلّ على عالمنا الشرق أوسطي باسم كنيسة المسيح الواحدة، ونشهد للمسيح في وحدتنا وخدمتنا المشتركة، وللكنيسة التي تقود الحوار مع الأديان وبخاصة مع المسلمين، حوار الحقيقة والمحبة، إنطلاقاً من تراثنا الإنطاكي المشرقي المشترك.
ثالثاً، مع القادة السياسيين الموارنة
33. تبدأ الشركة والمحبة أولاً في البيت الداخلي. فكان لا بدّ من دعوة القادة الموارنة الأربعة: رئيس الجمهورية الأسبق الشيخ أمين الجميّل، ورئيس مجلس الوزراء الأسبق النائب العماد ميشال عون، والوزير السابق والنائب سليمان فرنجيه، ورئيس اللجنة التنفيذية للقوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، وهم في انقسام خلافي على الخيار السياسي حول حماية لبنان الكيان والدولة القادرة والحامية للجميع، وحول حفظ الحضور المسيحي الفاعل في المجتمع والدولة. ففريق يعتبر التحالف مع السنّة هو الأضمن، وفريق يعتبره مع الشيعة. عُقد الإجتماع في الكرسي البطريركي يوم الثلاثاء من أسبوع الآلام المقدس الواقع في 19 نيسان 2011، بإطار روحي إستعداداً لعيد الفصح. فابتدأ وانتهى بحديثَين روحيَين القاهما الأب الحبيس يوحنا خوند من الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة.
خلُص القادة إلى اعتبار الخيارَين السياسيَين متكاملَين لا متعاديَين، في وطن ديموقراطي يحترم الحريات والفروقات مع المحافظة على وحدة الوطن واحترام ثوابته وصون مصالحه الأساسية. وكان الإتفاق على عقد لقاءات مع النوّاب الموارنة لتدارس القضايا الوطنية المشتركة. وفي الواقع راحت تُعقد إجتماعات دورية عالجت إلى الآن ثلاثة مواضيع: بيع الأراضي، والوجود المسيحي في إدارات الدولة، وقانون الإنتخابات النيابية. وستليها مواضيع أخرى.
لقد ترك لقاء القادة واجتماعاتهم اللاحقة مع النواب والموارنة أثراً إيجابياً كبيراً على جميع المواطنين في الداخل والخارج.
33. كان وينبغي أن تنبسط الشركة والمحبة على اللبنانيينن وهم في انقسام سياسي حادّ، على خلفية طائفية، بسبب ما يُسمّى بتحالف 8 أذار وتحالف 14 أذار. وإدراكاً منا بأنّ الشركة تقتضي إبراز وحدتنا كرؤساء طوائف مسيحية وإسلامية على مستوى العلاقات الشخصية، وعلى مستوى المبادئ الدستورية والثوابت الوطنية، دعوت بالإتفاق مع هؤلاء الرؤساء الروحيين إلى قمّة روحيّة مسيحيّة إسلاميّة، عُقدت في الكرسي البطريركي في بكركي في 12 أيار 2011. وبعد زيارتي الرسميّة إلى فرنسا وقبل البدء بزيارة راعوية إلى الولايات المتحدة الأميركية، دعوت مع سماحة مفتي الجمهورية إلى قمّة ثانية، عُقدت في دار الفتوى – بيروت في 27 ايلول 2011، للتشاور وإعلان ما يلزم في ضوء الأحداث الجارية في لبنان والعالم العربي. حضر القمتين بطاركة الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية ورئيس الطائفة الإنجيلية، ورؤساء الطوائف الإسلامية، السنّية والشيعية والموحّدين الدروز والعلوية. فكان التأكيد على المبادئ والثوابت الوطنية التالية:
1. تعزيز الوحدة الوطنية بين جميع اللبنانيين لحفظ مناعة لبنان وصدقية رسالته، ومواجهة التحديات والتطورات في المنطقة العربية.
2. إعتبار الدولة اللبنانية مصدر قوّة اللبنانيين جميعاً والحاضنة لهم، ما يفرض على المواطنين توطيد ثقتهم بها، ودعم مؤسساتها، وعلى القيادات السياسية عدم جعل الإختلافات في الخيارات ووجهات النظر خلافات وعداوات.
3. الإلتزام بثقافة الحوار الذي يحترم وجهات النظر المختلفة، ويرمي إلى تحقيق الوفاق والخير العام، ويشكّل الوسيلة الأفضل لبحث القضايا الوطنية الكبرى على أسس الدستور والميثاق الوطني والثوابت الوطنية المتّفق عليها.
4. تقوية الإنتماء الوطني ثقافياً وتربوياً وإجتماعياً وسياسياً، وتثبيت أركان الدولة واحترام دستورها وقوانينها، لكي تتمكّن من معالجة الشأن الإقتصادي والإجتماعي والمعيشي المتسبب بالهجرة واستنزاف قوى البلاد الحيّة.
5. الإحتكام إلى المؤسسات الدستورية لمعالجة الخلافات، والإعتماد على الجيش وقوى الأمن الشرعية وحدها للمحافظة على الأمن والإستقرار.
6. حقّ الدولة في تحرير أراضيها من الإحتلال الإسرائيلي وأي احتلال، وحماية سيادة لبنان وحريته واستقلاله.
7. أهمية حلّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي هو مفتاح السلام والأمن والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
8. دعوة الشباب للتمسّك بأرضهم وقيمهم الوطنية وثقافة الإنفتاح على التنوّع، ورفض التطرّف والإنطواء على الذات في مجموعات متجانسة ومنقطعة عن التواصل فيما بينها.
9. شدّ روابط الأخوّة والتعاون بين لبنان والدول العربية في كلّ ما يؤول إلى الخير والسلام والإستقرار. فلبنان جزء من العالم العربي هوية وثقافة ومصيراً، واللبنانيون كانوا روّاداً في نشر ثقافة النهوض والإستنارة في هذا الشرق. أما المسيحيون، ووجودهم في هذا الشرق تاريخي وأصيل، فهم أصحاب دور أساسي وضروري في أوطانهم.
10. إحترام كرامة الإنسان وحرياته الأساسية، ومن ضمنها الحريات الفردية والدينية والسياسية وحرية التعبير، واعتبار التنوّع غنى، وإثراء لإنسانية الإنسان، واعتبار المواطنة أساساً للمساواة في الحقوق والواجبات.
11. حماية الحراك الجاري في البلدان العربية، والمطالب بالحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية، من الإنزلاق والإنحراف عن غاياته الأصيلة، ورفض كلّ أنواع الظلم والعنف والإستبداد.
12. رفض توطين اللاجئين الفلسطينيينن والتمسّك بحقّهم في العودة إلى أرضهم ووطنهم عملاً بقرار مجلس الأمن رقم 194.
وقد توافق رؤساء الطوائف المسيحية والإسلامية على عقد لقاءات دورية للقمّة الروحية والتشاور الدائم.
لقد أدّت القمتان الروحيتان إلى ارتياح داخلي وخارجي، وأسهمتا في كسر التشنّج وتوضيح المواقف وتوجيه الرؤية الوطنية المشتركة.
35. أودُّ أن أُعرب لكلّ اللبنانيين عن شكري وامتناني ومحبتي، لأنّهم، مسيحيين ومسلمين من كلّ الطوائف والمذاهب، ومن كلّ الأحزاب والتيارات والأوضاع، محضوني محبتهم وثقتهم منذ انتخابي بطريركاً. فكانوا كلّهم، بأنواع شتّى، سبّاقين في "الشركة والمحبة" نحوي. وعندما قمت بالزيارات الراعوية لأبرشياتنا المارونية، كما توجب القوانين الكنسيّة على البطريرك، وتطلب منه أن يزورها كل خمس سنوات، فأبى اللبنانيون، في كلّ المناطق، إلا أن تكون الزيارة لهم جميعاً، مسيحيين من كل الكنائس، كاثوليكيين وارثوذكسيين وانجيليين، ومسلمين من كل الطوائف، سنّة وشيعة وموحِّدين دروزاً وعلويين. كلّهم غمروني بمحبتهم وحفاوتهم وسخائهم. فإنّي أؤكِّد لهم جميعاً محبّتي وتقديري وإخلاصي. وكم ردّدت أني مع الجميع من أجل الجميع، وأننا معاً نبني مجتمعنا ووطننا الحبيب لبنان. فلا يمكن الاستغناء عن أحد أو عن أية جماعة او مجموعة. فيقيني الراسخ أنَّ كل واحد من اللبنانيين وكلّ جماعة وكلّ طائفة قيمة مضافة بحدّ ذاتها في نسيجنا الاجتماعي والوطني، ينبغي تقييمها والمحافظة عليها وإنماءها. على هذا الأساس نبني الشركة بالمحبة، بالثقة المتبادلة، بقبول واحدنا الآخر على تنوعنا، بغنى تنوّعنا، للبحث عن الحقيقة التي تجمع وتًحرِّر، ولبناء وطن يضمن للجميع عيشاً كريماً بكلّ أبعاده الروحيّة والمعنويّة والاجتماعيّة والوطنيّة.
ما خبرته عند اللبنانيين في الوطن، عشته أيضاً معهم في بلدان الانتشار ومع سواهم من بلدان الشرق الاوسط. فلهم منّي كلّ الشكر والاعتبار والاعتزاز بهم وبمروءتهم وشجاعتهم ومناقبيتهم.
إني بروح "الشركة والمحبة" كجواب وتأكيد مني لهم، قمت بالزيارات الراعوية التي شملت أبرشيات ومناطق في لبنان والخارج، كما شملت الرهبانيات وأدياراً ومؤسسات كنسيّة، أذكرها تباعاً في هذه الرسالة العامة، مؤكِّداً حضورها الدائم في صلاتي وشركتي ومحبتي.
1. الأبرشيات في لبنان
36. قمت على التوالي بزيارة الابرشيات التالية:
النيابة البطريركية في جونيه (2 و 3 نيسان 2011)، وأبرشية أنطلياس (9 و 10 نيسان)، ورعية زغرتا (27 و 28 ايار)، والنيابة البطريركية في صربا (28 و 30 أيار)، ورعية قرنة الحمرا – أبرشية انطلياس، بمناسبة اليوبيل المئوي الاول لتأسيس كنيسة قلب يسوع (30 حزيران)، وأبرشية البترون 2 و 3 تموز)، وأبرشية جبيل (16-18 تموز)، وأبرشية طرابلس قضاءي الزواية والضنّية (30 و 31 تموز)، والنيابة البطريركية في الجبّه – الرعايا الجبلية المجاورة من الحدث حتى كفرصغاب (4، 12، 19، 24، 26، 31 آب)، وأبرشية صيدا: مدينة صيدا، بلدات شرقي صيدا، قضاء جزين وقضاء الشوف (6-8 آب)، وأبرشية بعلبك – دير الأحمر (14-15 آب)، وتنورين وبلدات الجبل في أبرشية البترون (21 آب)، ومنطقة كفرذبيان وبسكنتا والبلدات المجاورة من النيابة البطريركية في صربا (27-28 آب)، والمنطقة الجبلية من أبرشية جبيل بمناسبة وضع حجر الأساس لكنيسة الطوباوي الأخ أسطفان في غرفين (29 آب)، ومنطقة بعلبك والهرمل من أبرشية بعلبك – دير الأحمر (17 و 18 أيلول)، والمنطقة الجبلية من أبرشية انطلياس (13 ايلول) ومن ابرشية بيروت (14 ايلول) وأبرشية صور (24-26 ايلول)، والنيابة البطريركية في صربا للقاء خاص مع كهنتها بحضور سيادة النائب البطريركي (12 تشرين الثاني)، ومنطقة الكورة من أبرشية طرابلس (13 تشرين الثاني) بمناسبة الإحتفال بمرور 150 سنة على تأسيس مدرسة اخوة المدارس المسيحية في طرابلس/دده، ورعايا البوار والعقيبه ودير مار ضومط والمستشفى الحكومي في نيابة جونيه البطريركية (17 كانون الأول) ومن بعدها رعية الغينه (18 كانون الأول) وأبرشية بيروت، المنطقة الساحلية (4-9 شباط).
2. الرهبانيات
37. زرت على التوالي الرهبانيات التالية:
الرهبانية المارونية المريمية في دير سيدة اللويزه (5 نيسان 2011)، والرهبانية الأنطونية في دير مار روكز (21 أيار)، والراهبات اللبنانيات في دير مار يوسف جربتا بمناسبة عيد القديسة رفقا (11 حزيران)، وجمعية راهبات دير الصليب – جل الديب، بمناسبة الإحتفال بعيد الطوباوي الأب يعقوب الحداد (26 حزيران)، وجمعية المرسلين اللبنانيين مرتين في دير مار يوحنا الحبييب – جونيه (27 حزيران) وفي دير الكريم في غوسطا (30 كانون الأول)، وجمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات في دير العائلة – عبرين (20 تموز)، ودير الكرمل والدة الإله في حريصا مرتين (4 و26 كانون الأول)، ودير سيدة الحقله (7 كانون الأول)، ودير البشاره وراهبات الزيارة في ذوق مكايل (10 كانون الأول)، وجمعية راهبات القلبين الأقدسين في بيت السيده – حدث بيروت (29 كانون الأول)، والرهبانية الباسيلية الشويرية في دير مار يوحنا الصابغ في الخنشاره (30 كانون الأول)، وجمعية الراهبات الأنطونيات في دير مار ضومط – روميه (14 كانون الثاني)، وجمعية راهبات القديسة تريز الطفل يسوع في دير الرئاسة العامة – القليعات (17 كانون الثاني).
3. المؤسسات الكنسية
38. وزرت المؤسسات الكنسية التالية:
الإكليريكية البطريركية في غزير (24 أيار)، واكليريكية مار أغسطينوس في كفرا – عين سعاده (30 ايار)، وإكليريكية مار أنطونيوس البادواني في كرمسده (4 حزيران)، ومدرسة سيدة اللويزه للرهبانية المريمية ورعاية تخرّج 250 طالباً (29 حزيران)، والجامعة الأنطونية – بعبدا (15 تموز) ورعاية تخرّج 300 طالباً وطالبة من مختلف الإختصاصات، ومعهد المعاقين والمستشفى اللبناني في بيت شباب التابع للرهبانية اللبنانية المارونية (أول كانون الأول)، ومستشفى أوتيل ديو في بيروت (3 كانون الأول)، وبيت الضيافة في جونيه (17 شباط)، وأخيراً مستشفى دير الصليب مع رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة العامة (20 شباط).
4. الأبرشيات والبلدان خارج لبنان
دائماً بروح "الشركة والمحبة"، قمت بزيارات راعوية إلى أبرشيات خارج لبنان وبلداناً فيها جماعات مارونية.
بمناسبة زيارتي الأولى إلى روما للتعبير عن الشركة الكنسية (11-16 نيسان)، زرت جماعاتنا الرهبانية في أديارهم ومراكزهم، فزرت دير مار انطونيوس الكبير للآباء المريميينن ودير مار اشعيا للآباء الأنطونيين، وكالة دير مار شربل للآباء اللبنانيين. وفي مدرستنا الحبرية التقيت جاليتنا المارونية التي تلتقي في كنيسة مار مارون والمدرسة للقداس والتعليم المسيحي للأولاد والنشاطات الراعوية. وقد أقرّتها نيابة روما شبه رعية. وزرت في المناسبة رئيس جمهورية ايطاليا، ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية.
وعندما لبّيت دعوة الرئيس ساركوزي لزيارة رسمية إلى فرنسا (3-11 ايلول)، زرت رعيتنا في كنيسة سيدة لبنان – باريس، ورعية مار شربل في Surresne، وبيت راهبات الصليب في لورد، ورعيتنا في مرسيليا.
ثمّ قمت بزيارة راعوية إلى أبرشيتنا في الولايات المتحدة الأميركية (من أول إلى 23 تشرين الأول)، بدأناها باللقاء الثاني لمطارنة الإنتشار: الولايات المتحدة الأميركية، كندا البرازيل والأرجنتين والمكسيك، شارك فيه الرؤساء العامون للرهبانيات المارونية.
وزرت بغداد، مع البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان (31 تشرين الأول – 2 تشرين الثاني) لإحياء الذكرى الأولى لمجزرة سيدة النجاة والتقينا رؤساء الكنائس، ونائب رئيس الجمهورية السيد طارق الهاشمي، ورئيس مجلس النواب السيد اوسامه النجيفي، ورئيس مجلس الوزراء السيد نوري المالكي، الذي قدّم لنا وللوفد المرافق الإستضافة في فندق "دار الضيافة" وأمّن لنا المواكبة بقوى من الجيش.
وزرت أبرشية قبرس (10 – 13 شباط)، والنيابة البطريركية في الأردن (8-11 أذار)، ودولة قطر بدعوة رسمية حيث التقيت جاليتنا اللبنانية والجماعة المارونية (11-13 أذار)، وأخيراً أبرشية مصر حيث زرنا السلطات الروحية المسيحية والإسلامية (17-21 أذار).
الشركة والمحبة في الحياة الوطنية
1. الشركة والمحبة هي من خصوصية لبنان بحكم ميثاقه الوطني وصيغته. فبالميثاق الوطني، تعاهد المسيحيون والمسلمون منذ سنة 1943 "بشركة" العيش معاً، بحيث يكون نظام لبنان مدنيّاً متوسطاً بين النظام التيوقراطي الذي يجمع بين الدين والدولة، والنظام العلماني الذي يفصل تماماً بينهما. هذا النظام المدني في لبنان يفصل بين الدين والدولة، ويعتبر وفقاً للمادة 9 من الدستور، "حرية الإعتقاد مطلقة، وتأدية فروض الإجلال لله تعالى، واحترام جميع الأديان والمذاهب وأنظمة أحوالها الشخصية ومصالحها الدينية. هذا الميثاق القائم على شعار: "لا للشرق، ولا للغرب"، يؤكد رسالة لبنان في محيطه المشرقي دون الذوبان فيه، يرفض التبعية للغرب ويتميّز عن التيوقراطية شرقاً والعلمنة الإلحادية غرباً. ما يعني الحياد الإيجابي، لكون لبنان، وفقاً لما رافق الميثاق من خطب وتصريحات، جمهورية مستقلة، عربي الهوية والإنتماء، متعاوناً مع الدول العربية والأجنبية، ومحافظاً على التوازن بين الجميع، من دون أن يكون لأي منها وصاية أو امتياز أو إتحاد[33].
2. وبالصيغة اللبنانية، تعاهد المسيحيون والمسلمون المشاركة مناصفةً في الحكم والإدارة؛ وفي تنفيذ الصيغة من خلال العيش المشترك، نفذ المسيحيون والمسلمون عهدهم في صيانة لبنان وسيادته واستقلاله إلى حد استشهاد كبار منهم كلهم من أجله. هذه الصيغة القابلة للتطوير، على أساس الميثاق الوطني وانطلاقاً من الدستور، ابتكرت طريقة مبنيّة على الثقة والتعاون والمحبة بين الجميع، هي أولاً الشركة في حكم توافقي جماعي والتوافق على أن يكون رئيس الجمهورية مارونيّاً، ورئيس مجلس النوّاب شيعيّاً، ورئيس مجلس الوزراء سنّياً؛ وثانياً اعتماد قاعدة المناصفة في البرلمان والحكومة ووظائف الفئة الأولى وما يعادلها؛ وثالثاً، مراعاة التوازن، على أساس الكفاءة بكلّ أبعادها، في الوظائف العامة الأخرى. ويؤمل تطوير هذه الصيغة تأميناً لمزيد من الإستقرار في الكيان، وتحقيقاً للديموقراطية، وازدهاراً للإقتصاد2.
إنّ أساس الميثاق الوطني والصيغة ثقة ومحبة بحكم المواطنة، والتعاون من قِبل الجميع في قيام لبنان بما له من خصوصيّة[34].
3. نشعر اليوم بالحاجة إلى تعزيز الشركة والمحبة على مستوى الحياة الوطنية والإجتماعية والسياسية. فلا يمكن الإستمرار في حالة الإنقسام الوطني والإنشطار الإجتماعي والجمود في الحكم. ولا بدّ من إيجاد مخرج للأزمة الهيكلية المتتالية من حكومة إلى أخرى والتي تتسبب بأزمة إقتصادية وإجتماعية ومعيشية خانقة، تجعل لبنان كدولة يرزح تحت دين عام مرهق ينذر بأوخم العواقب، ويحرم معظم الشعب اللبناني من العيش الكريم، ويرغم العديد من أجيالنا الطالعة وقوانا الحيّة الفاعلة على الهجرة.
إن الصراع السياسي طبيعي ومطلوب في الديمقراطية، ولكن أن يستمر الأفرقاء المتنازعين سياسياً في السعي إلى الإلغاء المتبادل وحتى التخوين أحياناً، وبالتالي، في بعض الحالات، الإستمرار في تقاسم خيور الدولة والعبث بمالها ومقدّراتها، على حساب الدولة نفسها والوطن وشعبه، فأمرٌ غير مقبول. وبات من واجب ذوي الإرادات الحسنة التفكير في إيجاد حد لسؤ الإدارة والفساد ووضع خطّة للنهوض، والتوافق عليها، والسير في تطبيقها بروح "الشركة والمحبة".
إنّنا نرى وجوب الإنطلاق من الميثاق الوطني والدستور للسير الغير متسرّع والمتدرّج وعلى ضوء التجربة المعاشة نحو هدف مزدوج يؤمّن الإصلاح الفعلي، المختلف عن تنازع الصلاحيات، ويؤدي بعون الله إلى الخروج من أزماتنا: استكمال الدولة المدنية وصيغة نظامها السياسي، ووضع عقد وطني إجتماعي جديد.
4. نقول استكمال الدولة المدنية ، لأنّ لبنان منذ نشأته، بحكم المادة 9 من الدستور التي ترقى إلى سنة 1926 ولم تتغيّر حتى بعد تعديله سنة 1990، دولة مدنية، أي دولة غير دينية وغير طائفية وغير مذهبية، وليس لها دين أو طائفة أو مذهب. إنّه دولة على الحياد التام وعلى ذات المسافة بين الأديان والطوائف والمذاهب الدينية. هذه كلّها، المعترف بها في لبنان، تمارس شعائرها وطقوسها وتقاليدها وأحوالها الشخصيّة بحرية تامة، برعاية وضمانة الدولة، شرط ألاّ تُسيء إلى النظام العام والسلم الأهلي. وإذا كانت الصيغة اللبنانية الحالية تعتمد التمثيل المتوازن الطوائفي في الحكم والإدارة، كما رأينا، فلأنّ هذه الصيغة جعلت لبنان عملياً شبه- فدرالية طوائفية من دون تأثير على طبيعته كدولة مدنية، لأن لبنان نفسه مكوّن من جماعات لها خصوصياتها وامتدادها في التاريخ وكلها مصرّة على ثقافتها وشخصيتها المميزة وحضورها الفاعل مع سعيها إلى إنشاء دولة جامعة تعبر عن نيتها الفعلية في العيش المشترك.
5. إنّ المسار لاستكمال الدولة المدنية يقتضي قبل كلّ شيء إنهاء النزاع الدائم من أجل السلطة بين الطوائف وفي داخلها، وهو نزاع لا ينفكّ يغذّي التدخلات الخارجية السلبية ويقوّيها. يحتاج لبنان إلى إعادة تأسيس مسار كلّ طائفة بعلاقتها مع الدولة ومع الطوائف الأخرى، ويحتاج إلى بناء دولة قويّة تفرض القانون، وتحمي المواطن، وتحافظ على الكيانات المتنوّعة التي تؤلّف النسيج الوطني اللبناني. يحتاج لبنان إلى رجالات دولة بالإضافة الى رجالات طوائف. فالذين يشغلون مناصب عامة في الدولة، إنطلاقاً من إنتمائهم الطائفي، إنما يمارسونها لخدمة الدولة ككل والخير العام وخير جميع المواطنين، لا لصالح أبناء طوائفهم.
أوّل ما يُطلب من الطوائف في لبنان القبول بحيادية الدولة تجاهها واحترامها، وعدم السعي لسيطرة إحداها عليها، ومن الدولة القبول بخصوصيات الطوائف وبمجالها الحيوي التاريخي والجغرافي والثقافي، واحترامها وأيضاً السعي إلى استفادة الدولة من القيمة المضافة لكل جماعة.
6. هذه المطالب تقتضي وضع قانون للإنتخابات النيابية يؤمّن تمثيلاً وطنياً يريح المجموعات، ويعزّز في ذات الوقت ميثاق العيش الواحد ويترجمه سياسياً عبر الإنتخابات، ويحترم كلّ المكوّنات في المناطق ويمنع فرض هيمنة داخلية على خيارات الآخرين والمواطنين بتأليف كتل آحادية أو مجموعات طائفية ضاغطة.
7. كما يقتضي المحافظة على ملكية الأرض وعدم إقحام مالكيها على بيعها من طوائف أخرى، عن طريق العوز أو الإغراء أو من أجل مشاريع تضرّ بقاعدة العيش الحر المشترك. لأن ملكية الأرض هي الأساس للتوازن والعيش الحرّ معاً، ولإحترام خصوصيات الجماعات، ولأنّها عنصر مهم من العناصر الضامنة لاستمراريتها وتطويرها.
8. ويقتضي استكمال الدولة المدنية جعلها دولة جامعة محايدة بين الطوائف وبين الصراعات الإقليمية والدولية، ترتكز على قواعد مركزية ولا مركزية.
فمركزية الدولة تستوجب استقلالية الإدارة والقضاء عن السياسة، وإقرار القوانين اللازمة لمنع التدخل السياسي في الإدارة، ولشدّ الترابط بين الإدارة العامة والإدارة السياسية المنتخبة، وتفعيلها، ولتأمين الحقوق والواجبات لجميع المواطنين.
واللامركزية الموسّعة وغير الحصرية تؤمّن الإنماء المتوازن، إقتصاديّاً وإجتماعيّاً وثقافيّاً وأمنيّاً. فتدعم الإبداع والإقتصاد الحرّ والمنتج، وتبسط العدالة الإجتماعيّة على مختلف المناطق، وتضمن الإستقرار الأمني في كلّ منطقة، وتعزّز بذلك كله الإنتماء إلى وطن هو من أجل الجميع، والولاء له ومحبته.
إنّ قيام دولة قادرة، على قاعدة المركزية واللامركزية، يفرض واجب محاربة الفساد، بإيجاد وسيلة قانونية لمحاسبة المسؤولين الكبار، وعندئذ يمكن ضمانة محاسبة الصغار.
9. إنّ قيام الدولة المدنيّة الموصوفة في لبنان هو ذو أبعاد خارجيّة مرتبطة بالعالم العربي، من حيث الإنتماء والرسالة، وبالعالم المتوسطي من حيث موقع لبنان على حوض البحر المتوسط.
فعربيّاً، لبنان صاحب دور سلمي واستقراري في المنطقة من حيث تكوينه البشري والجيوبوليتيكي. عليه السعي إلى تعميم تجربته التعدّدية في الوحدة، والعيش بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين، والديموقراطية في النظام، واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان؛ وإلى العمل على حلّ المشاكل الإقليمية، والإبتعاد عن الصراعات العربية والإسلامية، والإلتزام في الوقت عينه بالقضية العربية والثقافة والحضارة العربيتين وبرسالة السلام والتفاهم بين شعوب المنطقة والمساهمة في النهضة الإنسانية في العالم العربي.
ومتوسطياً، إنّ موقع لبنان على الضفّة الشرقية من حوض البحر المتوسّط، جعل منه "إحدى مناراتها"[35]، ومنطلقاً لإحدى أهمّ حضاراته. ما مكّنه من أن يكون جسراً بين الشرق والغرب على المستوى الثقافي والإقتصادي والإجتماعي، ويدعوه ليكون ملتزماً قضايا هذه الضفّة ولاسيّما نقل قيم الحداثة ونشر الديموقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، والتصدّي للإرهاب، وإيجاد الحلّ العادل للقضية الفلسطينية[36]، وجعل اوروبا أكثر ارتباطاً بالعالم العربي، وأكثر التزاماً في السلام العادل والشامل من خلال حلّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، والإسرائيلي - العربي.
من شأن لبنان، بفضل هذا الوقع والدور، أن يشكِّل واحة لقاء وعنصر استقرار لبلدان المنطقة. فإنّه علامة رجاء مرفوعة للجميع، لأنَّ العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، والتعاون وحوار الحياة والثقافة والمصير فيما بينهم ينعكس إيجابياً على الشرق، ويعطي مجتمعاته نكهة مميزة[37]. فينبغي بالتالي أن يكون لبنان "بلداً حيادياً يتّصف بكونه بلداً نوذجياً للحوار الديني والثقافي العالمي، منفتحاً على جميع الدول بروح الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل، وملتزماً قضايا المنطقة والعالم في كل ما يختص بالسلام والعدالة والحقوق وترقي الشعوب"[38].
10. ومن مقتضيات الدولة المدنية أيضاًَ اعتماد آليات للحؤول دون تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، وتفعيل هذه المؤسسات الكفيلة وحدها بتوطيد الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي. ومنها تعزيز عمل المجالس والاجهزة الرقابية، منعاً لهدر المال العام، واحترام احكام القضاء من قبل الادارة وتحقيق الموازاة بين المسؤوليات العامة والصلاحيات، وتعميم المهل الدستورية والقانونية على مستويات القرار كافة.
11. هكذا فقط نبني الدولة العادلة والناجزة في قوانينها وإمكانياتها التنفيذية التي يصبح لديها القدرة على ضمانة حقوق المواطن فعلاً، فننطلق بعدها آمنين إلى استكمال الدولة المدنية في المساواة التامة في حقوق وواجبات المواطنة.
الفهرس
TOC \h \z \t "Heading 1,2,Heading 2,3,Heading 3,4,Title,1,Style Heading 1 + Before: 6 pt After: 12 pt,1" شركة ومحبة PAGEREF _Toc318973484 \h 1
مقدّمة PAGEREF _Toc318973485 \h 1
الفصل الأول، مفهوم الشركة والمحبة PAGEREF _Toc318973487 \h 4
أولاً، مفهوم الشركة PAGEREF _Toc318973488 \h 4
ثانياً، مفهوم المحبة PAGEREF _Toc318973489 \h 8
الفصل الثاني، الدوائر البطريركية PAGEREF _Toc318973491 \h 13
تحقيق الشركة والمحبة PAGEREF _Toc318973492 \h 13
أولاً، المكاتب المرتبطة مباشرة بالبطريرك PAGEREF _Toc318973493 \h 14
ثانياً، مكاتب الشؤون الكنسية PAGEREF _Toc318973494 \h 15
ثالثاً، مكاتب راعوية العلمانيين PAGEREF _Toc318973495 \h 18
رابعاً، مكاتب الشؤون الإجتماعية والإقتصادية والإنمائية PAGEREF _Toc318973496 \h 19
خامساً، مكاتب الشؤون الوطنية العامة PAGEREF _Toc318973497 \h 20
سادساً، دعم مكاتب الدائرة PAGEREF _Toc318973498 \h 21
الفصل الثالث، ممارسة الشركة والمحبة PAGEREF _Toc318973500 \h 22
أولاً، مع قداسة البابا والكرسي الرسولي PAGEREF _Toc318973501 \h 22
ثانياً، مع السلطات اللبنانيّة المدنيّة والكنسيّة PAGEREF _Toc318973502 \h 23
ثالثاً، مع القادة السياسيين الموارنة PAGEREF _Toc318973503 \h 25
مع رؤساء الطوائف الإسلامية PAGEREF _Toc318973504 \h 26
خامساً، الزيارات الراعوية PAGEREF _Toc318973505 \h 28
1. الأبرشيات في لبنان PAGEREF _Toc318973506 \h 29
2. الرهبانيات PAGEREF _Toc318973507 \h 30
3. المؤسسات الكنسية PAGEREF _Toc318973508 \h 31
4. الأبرشيات والبلدان خارج لبنان PAGEREF _Toc318973509 \h 31
الفصل الرابع، الشركة والمحبة في الحياة الوطنية PAGEREF _Toc318973511 \h 33
[1] راجع الإرشاد الرسولي: رجاء جديد للبنان، 93
[2] شرعة العمل السياسي حسب تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان، ص 30
[3] الدستور العقائدي في الكنيسة، 1.
[4] المرجع نفسه، 4
[5] المرجع نفسه، 2-3.
[6] المرجع نفسه، 4 و12 و13 و32
[7] رجاء جديد للبنان، الفقرتان 19 و20
[8] الدستور العقائدي في الكنيسة، 7 و9؛ القرار في الحركة المسكونية، 7 و 14 و15
[9] مستمدّ من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر: الله محبة )25 كانون الأوّل 2005
[10] الله محبة، 5 و12-13، و17
[11] الله محبة، 16 و17
[12] الله محبة، 17 و18
[13] الله محبة، 19
[14] الله محبة، 19-25
[15] النص المجمعي 15: الكنيسة المارونية في عالم اليوم، 23
[16] الله محبة 31-32
[17] الله محبة، الفقرات 26-29؛ رسالة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لصوم 2006
[18] راجع النص المجمعي 15: الكنيسة المارونية في عالم اليوم، الفقرة 26
[19] النص الخامس: البطريركية والأبرشية والرعية، ص 170
[20] النص السابع: الكهنة والشمامسة في الكنيسة المارونية، الفقرات 22-30
[21] النص الرابع: الكنيسة المارونية في انتشارها العالمي، الفقرات 31-45
[22] النص 2: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، الفقرات 40- 48
[23] النص 3: حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي، الفقرات 28- 39
[24] المرجع نفسه، الفقرات 47 – 69، التوصيتان 2 و 4 وآليتهما
[25] راجع النص 10: العائلة المارونية
[26] راجع النص 11: الشبيبة
[27] رسالة كرامة المرأة (15 آب 1988)؛ رسالة إالبابا يوحنا بولس الثاني إلى النساء (29 حزيران 1995)
[28] راجع النص 21: الكنيسة المارونية والقضايا الإقتصادية، وبخاصة الفقرات 59 – 64، والتوصية 3
[29] راجع النص 20: الكنيسة المارونية والشأن الإجتماعي، الفقرات 21 – 43؛ التوصيات: 1، 4 - 7
[30] المجمع البطريركي الماروني، النص 2: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، الفقرات 29-34؛ النص 18: الكنيسة المارونية والثقافة، الفقرات 15-22
[31] الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، فقرة 93
[32] المرجع نفسه، الفقرات 81-87
[33] راجع "شرعة العمل السياسي"، ص 29
[34] راجع عناصر هذه الخصوصية في "شرعة العمل السياسي"، ص 25-30.
[35] الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، 1
[36] شرعة العمل السياسي، صفحة 27
[37] المرجع نفسه، صفحة 28.
[38] المرجع نفسه، صفحة 32، ب.