يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم (يو 17 /24)
من كتاب طريق الخلاص - للقديس ثيوفانس الحبيس
من كتاب طريق الخلاص
"المدخل"
للقديس ثيوفانس الحبيس
قد يكون ممكناً أن نصف الأحاسيس والميول التي ينبغي بالمسيحي امتلاكها، لكنّ هذا بعيد جداً عن أن يكون كافياً لترتيب خلاصه. المهم لدينا هو الحياة الحقيقية بروح المسيح.
لكن فقط لامسوا هذا الأمر وسوف تنظرون كم من التعقيدات تتكشّف وكم من الدلائل تُطلَب عند كل خطوة.
صحيح أنه ممكن أن نعرف غاية الإنسان الأخيرة: الاتحاد بالله. وقد يكون ممكناً وصف الطريق إلى هذه الغاية: الإيمان والسير بحسب الوصايا بمعونة النعمة الإلهية. وقد يقول البعض: هذه هي الطريق فسيروا بها.
هذا الكلام يسهل قوله لكن كيف تنفيذه؟ كثيرون تنقصهم الرغبة بالمسير. النفس، مشدودة بهذا الهوى أو ذاك، تصدّ بعناد كل قوة وكل دعوة. تتحوّل الأعين بعيداً عن الله دون أن تريد النظر إليه.
فالإنسان لا يميل إلى ناموس المسيح، ولا هو مستعد حتّى للاستماع إليه. قد يسأل البعض، كيف يصل الإنسان إلى نقطة ولادة الرغبة بالسير نحو الله على طريق المسيح؟
ما الذي يفعله الإنسان حتى يطبع الناموس نفسه في قلبه، فيتصرّف المرء بحسب هذا الناموس من نفسه وبدون تكلّف، فلا يكون الناموس حِملاً عليه بل يبدو وكأنه نابع منه؟
لكن لنفترض أن شخصاً ما تحوّل نحو الله، ولنفترض أنه توصّل إلى محبة ناموسه. هل سوف ينجح التحوّل إلى الله، وهو ضروري جداً، والسير على طريق المسيح لمجرّد أننا نرغب به؟
لا. إلى جانب الرغبة، ينبغي امتلاك القوة والمعرفة للتصرّف. على المرء أن يمتلك حكمة ناشطة.
مَن يدخل الطريق التي ترضي الله، أو مَن يبدأ بمعونة النعمة بالجهاد نحو الله على طريق ناموس المسيح، سوف يكون مهدداً، بشكل لا يمكن تلافيه، بأن يضيّع الطريق عند كل مفترق، بأن يضلّ ويهلك فيما هو يتخيّل أنّه مخلَّص.
هذه المفترقات لا يمكن تلافيها لأن الميول الخاطئة والاضطراب في قدرات الإنسان قادرة على تقديم الأمور بضوء زائف، أي خداع الإنسان وتدميره.
إلى هذه ينضمّ تملّق الشيطان المتباطئ بالابتعاد عن ضحاياه، فإذا انتقل إلى نور المسيح واحد من الذين تحت سلطانه، يلحق به ويستغلّ كل الطرق للإمساك به مجدداً، وغالباً ما ينجح بذلك.
بالنتيجة، ضروري لكل مَن امتلك الرغبة بالسير على الطريق المذكور إلى الرب، بالإضافة إلى هذه الرغبة، أن يرى كل الانحرافات الممكنة على هذا الطريق، حتى يتنبّه المسافر مسبقاً، ويرى الأخطار التي قد يصادفها، فيعرف كيف يتجنبها.
هذه الاعتبارات العامّة التي لا يمكن تلافيها على طريق الخلاص تجعل مما لا مفرّ منه بعض القوانين التوجيهية للحياة المسيحية والتي بها تتحدد هذه الحياة:
كيف البلوغ إلى الرغبة الخلاصية بالشركة مع الله والغيرة للبقاء في هذه الشركة، وكيف البلوغ إلى الله من دون محنة عند كل المفترقات الموجودة على الطريق وعند كل خطوة.
بتعبير آخر، كيف المباشرة بسلوك الحياة المسيحة وكيف، بعد الابتداء، بلوغ الكمال فيها؟
إن بذار الحياة المسيحية وتطورها مختلفان بالجوهر عن بذار الحياة الطبيعية وتطورها، ذلك بسبب الميزة الخاصة للحياة المسيحية وعلاقتها بالطبيعة. لا يولَد الإنسان مسيحياً بل يصير بعد الولادة.
إن بذار المسيح يقع على تربة القلب الذي ينبض أصلاً. عند النبتة، على سبيل المثال، تكون بداية الحياة في تنشيط الشطأ في التربة، أي إيقاظه وكأنه قوة نائمة، بينما الإنسان المولود طبيعياً يواجهه مطلب المسيحية فتكون بداية الحياة المسيحية نوعاً من إعادة الخلق ومنح قوى جديدة وحياة جديدة.
علاوة على ذلك، لنفترض أن المسيحية أتت كقانون، أي أن القرار صدر بعيش حياة مسيحية: بذار الحياة (هذا القرار) ليس محاطاً في الإنسان بعناصر محببة إليه.
وإلى جانب هذا، كل الأنسان، جسداً وروحاً، يبقى غير متأقلم مع الحياة الجديدة، وغير مستسلم لنير المسيح.
وبالتالي من هذه اللحظة يبدأ الإنسان عملاً من العَرق، عملاً ليربّي كامل نفسه وكل قدراته بحسب معايير المسيح.
لهذا السبب، فيما الثمر في النباتات، على سبيل المثال، هو تطور تدريجي لكل المَلَكات، سهل وغير مقيّد، في المسيحي هو معركة مع الذات فيها الكثير من العمل، صعبة ومحزنة، وتتطلّب منه أن يعرّض مَلَكاته لأمور هي لا تميل إليها. كمثل جندي، عليه أن يأخذ كل جزء من الأرض، حتى ما له، من أعدائه عن طريق الحرب، بالسيف ذي الحد المزدوج أي إرغام نفسه ومواجهتها.
بالنهاية، بعد أعمال طويلة وجهادات، تظهر المبادئ المسيحية منتصرة، حاكمة بدون معارض. وهي تتغلغل في كل تركيبة الطبيعة البشرية، طاردة منها التطلبات والميول العدائية، وواضعة في مكانها حالة من اللاهوى والطهارة، جاعلة إياها مستحقة لبركة طهارة القلب، أي أن ترى الله في ذاتها في الشركة الأكثر إخلاصاُ معه.
هذا هو مكان الحياة المسيحية فينا. ولهذه الحياة ثلاث درجات ممكن ذكرها: التحوّل إلى الله، التطهّر أو تغيير الذات، القداسة.
في المرحلة الأولى يتحوّل الإنسان من الظلمة إلى النور، من سلطة الشيطان إلى الله. في الثانية، يطهّر غرفة قلبه من كل نجاسة حتى يستقبل المسيح السيد الآتي إليه، في الثالثة، يأتي الرب، يأخذ مسكنه في القلب ويشترك مع الإنسان.
هذه هي حالة الشركة المباركة مع الله، وهدف كل الأعمال والمساعي النسكية.
وصف كل هذا وتحديد قوانينه يعني تحديد طريق الخلاص.
إن الإرشاد الكامل في هذا الأمر يأخذ الرجل الواقف على مفترق طرق الخطيئة، يقوده عبر طريق التطهر الملتهب، ويرفعه إلى درجة الكمال التي يمكنه إحرازها بحسب درجة نضجه في المسيح.
وهكذا نظهر كيف تبدأ الحياة المسيحية فينا، كيف تكتمل وتنضج وتتقوّى، وكيف تظهر ذاتها في كمالها