الاْعتِصامُ بِالرَّبِّ خَيرٌ مِنَ الاْتِّكالِ على البَشَر (مز 118 /8)
المسيح عطاء الآب للبشرية - استعداداً لمجيء المسيح - الأب متى المسكين
المسيح عطاء الآب للبشرية
* المسيح قربان البشرية:
صنع الروح القدس من مريم «عجينة البشرية»، بعد أن قدَّسها، ثم اقتطع منها قُرباناً جعله الابنُ خاصاً له ووحَّده بلاهوته، وسلَّمه لبني الخطاة ليرفعوه قرباناً عنهم ورغماً منهم على الصليب.
الحكيمة مريم احتفظت بسر القربان إلى أن حان وقت تقديمه، وقبل الساعة المعيَّنة بقليل كانت وكأنها تقول للمسيح: «أظهِرْ نفسك»!! واليوم نحن نلتف حول المذود لنفرح بقربان حياتنا، قوة كهنوتنا الذي به نلنا جراءة وقدوماً إلى عرش الله.
فاليوم بَطُلَ مذبح خبز الوجوه، وعوض الخبز الساخن الذي كان يضعه الكاهن على المذبح وما يوشك إلاَّ وتعتريه البرودة، وإن نُسي لحظة أصابه العطب، عوض هذا الخبز وُلِدَ الجسد الإلهي الذي أشعل نار الله في القلوب الباردة، فقَلَبها أتونَ حبٍّ ما يفتأ يضطرم اضطراماً حتى يأتي على كل خطية الإنسان!! هذا الجسد الملتهب باللاهوت الذي صرع برودة الموت، فأقام الجسد حيًّا، ما زال يقيم كل مَنْ يسمع في القبور صوته!
وُلد قرباننا في بيت لحم (أو بيت الخبز - بحسب معناها العبري)، الخبز الحي النازل من السماء الذي ختمه الله، وكل مَنْ يأكله ينطبع عليه ختم الروح فيصير ذبيحة حيَّة وقرباناً مقبولاً.
كان خبز الوجوه لا يأكله في القديم إلاَّ ذوو الصفة الكهنوتية، والآن صار المسيح مأكلاً لكل واحد، لأن المسيح قادر أن يجعل كل واحد كاهناً لله الحي! وهكذا أصبح قربان المسيح بمثابة مسحة جديدة، وقرن دهن بهجة، يمسح القلب ويتوِّج الروح بإكليل اسمه «قدسٌ للرب»!!
* المسيح رجاء البشرية:
المسيح رجاء البشرية المتجدِّد، الذي مهما أحاط البشرية ظلامٌ وتجمدٌ فهو يظل النور الذي يستطيع أن يضيء داخل قلب كل إنسان ليبدِّد بسلطان قَهَّار كل عتمةٍ وكل شكٍّ، وأن يشيع في الإحساس الجامد حرارة الفرح، التي تجعل من ثليج المشاعر قوة تحرك الأرض بأسرها.
فقبل مجيء المسيح، كانت البشرية، ممثَّلة في الأُمم، ترزح في كورة ظلال الموت تحت برودة الظلمة الروحية وظلال العدم، حتى أشرق عليهم فجر يوم المسيح على صوت بُشْرى الملائكة.
وليس الأُمم فقط، بل وبنو إسرائيل أنفسهم المكنيُّ عنهم ببني الملكوت وأبناء النور، والماسكين بمفاتيح المعرفة، حكماء إسرائيل، المتعلِّمين في ملكوت الله، أبناء الأنبياء، أصحاب العهود والمواعيد، والمشرِّعين للفضيلة وناموس البر؛ هؤلاء كلهم خيَّم عليهم ظلام الموت والجهل، بل وأُغلق عليهم جميعاً في العصيان، لكي يظهر أنه بدون المسيح ليس ملكوتٌ ولا نورٌ ولا معرفة ولا حكمة ولا علمٌ ولا رجاءٌ في عهدٍ ولا قيمة لتشريع أو فضيلة أو ناموس أو برٍّ!
إذاً، فيا لفرحتنا بالمسيح اليوم! فهو وحده يكفينا، لأنه قد تعيَّن لنا من الله أن يكون هو برَّنا. فقد صار لنا برًّا وقداسةً وفداءً من الله؛ بل وماذا بعد المسيح وهو الذي فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة؟ فحينما نقبله ونُسكنه في قلوبنا، يصير قلبنا بحد ذاته هو كنز الصلاح الذي منه تخرج الصالحات، بل ويصير يُنبوع نعمة يَفيض منه الروح القدس كل معرفة وكل فهم وكل وقار ورزانة وحُب.
لقد صار لنا المسيح ناموساً بحد ذاته، لا بكلمات مكتوبة بل بفعلٍ حي، يسيطر على تفكيرنا وإرادتنا وعملنا وكل حياتنا، حتى تنتهي كلها إلى مشيئته المباركة لخلاصنا من هذا الدهر، وذلك عندما نقبله ونتقبل مشيئته بكل رضا وتسليم.
إن طاعة المسيح للآب كانت، في إحدى صورها المبدعة، هذه الطفولة المستسلمة ليد الله في وسط محيط الشر الآدمي، ولكنها حُفظت من كل أذى بكل حكمة وفطنة. وهكذا دُعينا نحن أن نكون في طاعة الطفولة عينها تحت تدبير عناية الآب السماوي، لنؤهَّل لتدبير حكمته، ليمكِّننا من ملكوته الأبدي، وليُظهر فينا مسرَّة مشيئته.
* المسيح فرح البشرية وقوَّتها:
المسيح جاء فرحاً سمائياً للبشرية، فيه تختلط أصوات المرنِّمين من بني البشر مع أصوات الملائكة بلا تفريق، تشدُّهما معاً رؤيا واحدة هي الحب الأبوي المطلق، الفائق الحنان والاتضاع، الذي تجسَّد في يسوع، هدية أبدية لبني الإنسان، الذي فيه استُعلنت كل حكمة الله وكل تدبيره، ليكون المسيح حامل مجد الآب والمتقبِّل لكل عبادة لله، والذي فيه ينتهي قصدُ الخليقة كما بدأت به.
يسوع المسيح بدأ حياته على الأرض طفلاً بلا قوة، وأنهى حياته على الأرض بالقيامة من الأموات بكل قوَّة؛ ليثبت أنه فعلاً الألف والياء، بداية كل شيء ونهاية كل شيء، حتى نجد فيه كل قوَّتنا في منتهى ضعفنا، ثم نجد فيه منتهى ضعفنا في قوَّتنا، لأنه حاملٌ لفخر القوة والاتضاع معاً. وهكذا يغطِّي المسيح ضعفات الإنسان المتوشِّح بالمسيح، ويكشف ستر الإنسان المتقوِّي بنفسه.
هيرودس الملك أراد أن يقتل الطفل يسوع، لأنه ظنَّ أن ضعف الطفولة فرصة مواتية لسيفه الأحمق. ولكن ضعف الله يستحيل أن يقع في متناول ذراع الأحمق والظالم، «فضعف الله أقوى من الناس» (1كو 1: 25). وعلى الصليب وبالصليب انهزم الشيطان هزيمة أبدية.
الإنسان بحد ذاته ضعيف، مهما بلغ من القوة والبطش والسلطان، بل مهما بلغ من القداسة والبر والتقوى؛ أما القوة الحقيقية، القوة التي تظل أبداً قوة، والتي تخرج منها كل النصرة، فهي لا تُستمد إلاَّ من المسيح بالنعمة مجاناً، وذلك حينما يؤمن الإنسان ويتحقَّق تماماً من ضعفه وييأس كلية من كل اعتماد على قوة الإنسان ووسائل تغلُّبه المصطنعة بالعقل والمال والحيلة. فحينئذ يستمد قوة المسيح نفسه من مصادرها الإلهية غير المحدودة.
* المسيح عزاء البشرية:
بميلاد المسيح سمع الإنسان لأول مرَّة - بعد خطيئة آدم - صوتاً من السماء يعزِّي قلب الإنسان ويدعوه للسلام والسرور. مباركٌ هذا اليوم لأنه يوم عزاءٍ للبشرية، وقوة سرور قادرة أن تحوِّل دائماً وباستمرار كل أحزان الإنسان إلى رجاء.
إن القارئ للنبوات الأخيرة، وخاصة بعد إشعياء النبي، لَـيُصدم من كثرة الويلات والأحزان والتهديدات التي صبَّها الأنبياء الواحد تلو الآخر على نصيب كل الأُمم والشعوب: «وحي من جهة ...»، «وحي من جهة ...»، «وحي من جهة ...»؛ حتى ليكاد قلب الإنسان ينخلع من فرط التهديدات السمائية الغاضبة ... ولكن شكراً لله القادر على كل شيء الذي أنهى عهد الغضب والويلات، وفتح صفحة جديدة كلية لمصير كل الشعوب والأُمم يوم ميلاد المخلِّص: «نور إعلان للأُمم ومجداً لشعبك إسرائيل.» (لو 2: 32)!
ما أجمل إشعياء وما أروع صوته المعزِّي: «عزُّوا عزُّوا شعبي.» (إش 40: 1)
«هذا هو اليوم الذي صنعه الرب. نبتهج ونفرح فيه» (مز 118: 24)، لأنه يوم خلاص مجَّاني، يوم فداء من لدن الله، يوم عهد صادر من طرف واحد هو الله فقط، أما الإنسان فلم يشترك فيه إلاَّ بتقديم جسد طاهر من العذراء لله ليتخذه خيمة يحل فيها ليكمِّل عهده بذراعه هو!!
لا نحن شركاء فعليون في العهد الجديد، ولكن لا كمسئولين وإنما كمتقبِّلين!
يا لهذا السخاء في الشركة! ويا للتساهل المفرط! فالدم المسفوك دمنا، أحمر قاني ملتهب، ولكن القوة التي فيه إلهية فائقة الفعل والمفعول، هو جسد وهو دم حامل لضعفنا وحامل لقوة خلاصنا في آنٍ واحد.
انظروا إلى بيت لحم وتأمَّلوا، فالمولود هو ابنكم وهو ربكم! هو الحامل لطبيعتكم وهو المقدِّس لها والفادي. اليوم لبس اللاهوتُ طبيعتنا، لكي تلبس طبيعتنا اللاهوت. اليوم تحوَّل الضعف إلى قوة، والخطيئة اضمحلت، وحل مكانها برٌّ أبدي.
* المسيح حياتنا الجديدة:
ميلاد المسيح هو الذي نبدأ به سنتنا أو سنة الرب المقبولة، بل نبدأ به حياتنا في الله وخلاصنا الأبدي. هي حياة يسميها الكتاب حياة أخرى، لها سمات روحية لا تخضع لمؤثرات هذا الزمان، ولا تستمد سعادتها من الجسد: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه.» (يو 2: 19)
وإن كانت الحياة التي عاشها المسيح على الأرض هي حياة «في الجسد»، وكان لها كل السمات الجسدية وخضعت لكل المؤثرات الزمانية، إلا أنه بالقيامة ثبت أنها كانت حقًّا ليست من الجسد ولا بالجسد، بل حياة إلهية أُظهرت في الجسد وحسب: «فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا.» (1يو 1: 2)
هذا السر الإلهي المتضاعف قوة وعمقاً بدأ بسيطاً في بيت لحم وكأنه طبيعي، ولكن استُعلن عجبه واستُعلنت آيته العُظمى يوم العماد في الأردن، لذلك عُلم يقيناً أن المولود في بيت لحم هو الحياة الأبدية قد تجسَّدت، حسب مسرَّة الآب، وهو أقنوم الابن صار متأنساً. لذلك كان من حكمة الكنيسة الأُولى أن تعيِّد للميلاد والغطاس معاً في يوم واحد باعتبار أن الغطاس هو استعلانٌ لسر الميلاد الأزلي القائم في الميلاد الجسدي، بحيث أنه من غير الممكن بل ومن المستحيل أن نفصل أحدهما عن الآخر.
وعلى نفس النمط تماماً نحن نبدأ حياتنا الإلهية، التي هي الحياة الحقيقية والأبدية، بالمعمودية عندما نأخذ روح المسيح أي روح الابن، أو على وجه أدق روح الآب، المنبثق من الآب في الابن الذي يلدُنا من جديد أو يلدنا ثانية، أو على وجه أدق يلدُنا من البدء لله. وهكذا تبدأ الحياة الأبدية تتحرَّك وتنمو في أحشائنا سرًّا، فنبتدئ نعيش مع المسيح في الله حياة أبدية تتخطَّى كل مؤثِّرات هذا الزمان وتتجاوز كل عيوب ونقائص الجسد، لا تزيدها هذه وتلك إلا وضوحاً وقُرباً من جوهرها الإلهي القادر أن يبتلع الموت والفساد ابتلاعاً، حتى يتجلَّى الجوهر الروحي بكل جماله وكماله الإلهي، وحينئذ يهتف كل لسان بعظمة رحمة الله في المسيح الذي عوَّض الإنسان عن كل ضعفه وألمه ودموعه فرحاً وعزاءً وسروراً.
* المسيح بكرُ الخليقة الجديدة:
اليوم أُخصبت البشرية بعد عقم الروح الذي أصاب أبوينا. اليوم وُلد للإنسان ابنٌ يُدعى إلهاً أبدياً!! نحن نعيِّد اليوم عيد باكورة ثمر البشرية الذي صار بكراً بين إخوة كثيرين ورأس كنيسة روحية ملء السماء. هذا هو الوسيط الوحيد بيننا وبين الآب، لأنه أخونا - بالتدبير - وابن الله بآن واحد! قادر بحق وجدارة واستحقاق أن يشفع في كل ذنب وكل ضعف من جهتنا، لأنه ارتضى أن يحمل أمام الآب والملائكة كل خطيئة الإنسان ويتقبَّل عنها كل تعيير وعقاب. وبعد أن أكمل كل تطهير لازم لطبيعتنا، أَلبسَنَا جسده الطاهر لنظهر به أمام الآب بلا عيب ولا لوم.
فمباركٌ هذا اليوم في عداد كل أيام الإنسان، الذي فيه سلَّمْنا جسدنا للروح القدس بواسطة العذراء ليأخذه المسيح عنا ويصيِّره له خاصة، فيتراءى أمام الآب به مصالحاً كل إنسان فيه!! ومباركٌ هو كل إنسان له روح المسيح بالإيمان، لأنه لن يعود يظهر بعد في جسده الميت الفاسد أمام الآب، لأنه سيُعْطَى جسد المسيح ليتراءى به، فينال نعمة ويحل عليه مجد الله.
المسيح رجاء البشرية المتجدِّد، الذي مهما أحاط البشرية ظلامٌ وتجمدٌ فهو يظل النور الذي يستطيع أن يضيء داخل قلب كل إنسان ليبدِّد بسلطان قَهَّار كل عتمةٍ وكل شكٍّ، وأن يشيع في الإحساس الجامد حرارة الفرح، التي تجعل من ثليج المشاعر قوة تحرك الأرض بأسرها.
فقبل مجيء المسيح، كانت البشرية، ممثَّلة في الأُمم، ترزح في كورة ظلال الموت تحت برودة الظلمة الروحية وظلال العدم، حتى أشرق عليهم فجر يوم المسيح على صوت بُشْرى الملائكة.
وليس الأُمم فقط، بل وبنو إسرائيل أنفسهم المكنيُّ عنهم ببني الملكوت وأبناء النور، والماسكين بمفاتيح المعرفة، حكماء إسرائيل، المتعلِّمين في ملكوت الله، أبناء الأنبياء، أصحاب العهود والمواعيد، والمشرِّعين للفضيلة وناموس البر؛ هؤلاء كلهم خيَّم عليهم ظلام الموت والجهل، بل وأُغلق عليهم جميعاً في العصيان، لكي يظهر أنه بدون المسيح ليس ملكوتٌ ولا نورٌ ولا معرفة ولا حكمة ولا علمٌ ولا رجاءٌ في عهدٍ ولا قيمة لتشريع أو فضيلة أو ناموس أو برٍّ!
إذاً، فيا لفرحتنا بالمسيح اليوم! فهو وحده يكفينا، لأنه قد تعيَّن لنا من الله أن يكون هو برَّنا. فقد صار لنا برًّا وقداسةً وفداءً من الله؛ بل وماذا بعد المسيح وهو الذي فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة؟ فحينما نقبله ونُسكنه في قلوبنا، يصير قلبنا بحد ذاته هو كنز الصلاح الذي منه تخرج الصالحات، بل ويصير يُنبوع نعمة يَفيض منه الروح القدس كل معرفة وكل فهم وكل وقار ورزانة وحُب.
لقد صار لنا المسيح ناموساً بحد ذاته، لا بكلمات مكتوبة بل بفعلٍ حي، يسيطر على تفكيرنا وإرادتنا وعملنا وكل حياتنا، حتى تنتهي كلها إلى مشيئته المباركة لخلاصنا من هذا الدهر، وذلك عندما نقبله ونتقبل مشيئته بكل رضا وتسليم.
إن طاعة المسيح للآب كانت، في إحدى صورها المبدعة، هذه الطفولة المستسلمة ليد الله في وسط محيط الشر الآدمي، ولكنها حُفظت من كل أذى بكل حكمة وفطنة. وهكذا دُعينا نحن أن نكون في طاعة الطفولة عينها تحت تدبير عناية الآب السماوي، لنؤهَّل لتدبير حكمته، ليمكِّننا من ملكوته الأبدي، وليُظهر فينا مسرَّة مشيئته.
* المسيح فرح البشرية وقوَّتها:
المسيح جاء فرحاً سمائياً للبشرية، فيه تختلط أصوات المرنِّمين من بني البشر مع أصوات الملائكة بلا تفريق، تشدُّهما معاً رؤيا واحدة هي الحب الأبوي المطلق، الفائق الحنان والاتضاع، الذي تجسَّد في يسوع، هدية أبدية لبني الإنسان، الذي فيه استُعلنت كل حكمة الله وكل تدبيره، ليكون المسيح حامل مجد الآب والمتقبِّل لكل عبادة لله، والذي فيه ينتهي قصدُ الخليقة كما بدأت به.
يسوع المسيح بدأ حياته على الأرض طفلاً بلا قوة، وأنهى حياته على الأرض بالقيامة من الأموات بكل قوَّة؛ ليثبت أنه فعلاً الألف والياء، بداية كل شيء ونهاية كل شيء، حتى نجد فيه كل قوَّتنا في منتهى ضعفنا، ثم نجد فيه منتهى ضعفنا في قوَّتنا، لأنه حاملٌ لفخر القوة والاتضاع معاً. وهكذا يغطِّي المسيح ضعفات الإنسان المتوشِّح بالمسيح، ويكشف ستر الإنسان المتقوِّي بنفسه.
هيرودس الملك أراد أن يقتل الطفل يسوع، لأنه ظنَّ أن ضعف الطفولة فرصة مواتية لسيفه الأحمق. ولكن ضعف الله يستحيل أن يقع في متناول ذراع الأحمق والظالم، «فضعف الله أقوى من الناس» (1كو 1: 25). وعلى الصليب وبالصليب انهزم الشيطان هزيمة أبدية.
الإنسان بحد ذاته ضعيف، مهما بلغ من القوة والبطش والسلطان، بل مهما بلغ من القداسة والبر والتقوى؛ أما القوة الحقيقية، القوة التي تظل أبداً قوة، والتي تخرج منها كل النصرة، فهي لا تُستمد إلاَّ من المسيح بالنعمة مجاناً، وذلك حينما يؤمن الإنسان ويتحقَّق تماماً من ضعفه وييأس كلية من كل اعتماد على قوة الإنسان ووسائل تغلُّبه المصطنعة بالعقل والمال والحيلة. فحينئذ يستمد قوة المسيح نفسه من مصادرها الإلهية غير المحدودة.
بميلاد المسيح سمع الإنسان لأول مرَّة - بعد خطيئة آدم - صوتاً من السماء يعزِّي قلب الإنسان ويدعوه للسلام والسرور. مباركٌ هذا اليوم لأنه يوم عزاءٍ للبشرية، وقوة سرور قادرة أن تحوِّل دائماً وباستمرار كل أحزان الإنسان إلى رجاء.
إن القارئ للنبوات الأخيرة، وخاصة بعد إشعياء النبي، لَـيُصدم من كثرة الويلات والأحزان والتهديدات التي صبَّها الأنبياء الواحد تلو الآخر على نصيب كل الأُمم والشعوب: «وحي من جهة ...»، «وحي من جهة ...»، «وحي من جهة ...»؛ حتى ليكاد قلب الإنسان ينخلع من فرط التهديدات السمائية الغاضبة ... ولكن شكراً لله القادر على كل شيء الذي أنهى عهد الغضب والويلات، وفتح صفحة جديدة كلية لمصير كل الشعوب والأُمم يوم ميلاد المخلِّص: «نور إعلان للأُمم ومجداً لشعبك إسرائيل.» (لو 2: 32)!
ما أجمل إشعياء وما أروع صوته المعزِّي: «عزُّوا عزُّوا شعبي.» (إش 40: 1)
«هذا هو اليوم الذي صنعه الرب. نبتهج ونفرح فيه» (مز 118: 24)، لأنه يوم خلاص مجَّاني، يوم فداء من لدن الله، يوم عهد صادر من طرف واحد هو الله فقط، أما الإنسان فلم يشترك فيه إلاَّ بتقديم جسد طاهر من العذراء لله ليتخذه خيمة يحل فيها ليكمِّل عهده بذراعه هو!!
لا نحن شركاء فعليون في العهد الجديد، ولكن لا كمسئولين وإنما كمتقبِّلين!
يا لهذا السخاء في الشركة! ويا للتساهل المفرط! فالدم المسفوك دمنا، أحمر قاني ملتهب، ولكن القوة التي فيه إلهية فائقة الفعل والمفعول، هو جسد وهو دم حامل لضعفنا وحامل لقوة خلاصنا في آنٍ واحد.
انظروا إلى بيت لحم وتأمَّلوا، فالمولود هو ابنكم وهو ربكم! هو الحامل لطبيعتكم وهو المقدِّس لها والفادي. اليوم لبس اللاهوتُ طبيعتنا، لكي تلبس طبيعتنا اللاهوت. اليوم تحوَّل الضعف إلى قوة، والخطيئة اضمحلت، وحل مكانها برٌّ أبدي.
ميلاد المسيح هو الذي نبدأ به سنتنا أو سنة الرب المقبولة، بل نبدأ به حياتنا في الله وخلاصنا الأبدي. هي حياة يسميها الكتاب حياة أخرى، لها سمات روحية لا تخضع لمؤثرات هذا الزمان، ولا تستمد سعادتها من الجسد: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه.» (يو 2: 19)
وإن كانت الحياة التي عاشها المسيح على الأرض هي حياة «في الجسد»، وكان لها كل السمات الجسدية وخضعت لكل المؤثرات الزمانية، إلا أنه بالقيامة ثبت أنها كانت حقًّا ليست من الجسد ولا بالجسد، بل حياة إلهية أُظهرت في الجسد وحسب: «فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا.» (1يو 1: 2)
هذا السر الإلهي المتضاعف قوة وعمقاً بدأ بسيطاً في بيت لحم وكأنه طبيعي، ولكن استُعلن عجبه واستُعلنت آيته العُظمى يوم العماد في الأردن، لذلك عُلم يقيناً أن المولود في بيت لحم هو الحياة الأبدية قد تجسَّدت، حسب مسرَّة الآب، وهو أقنوم الابن صار متأنساً. لذلك كان من حكمة الكنيسة الأُولى أن تعيِّد للميلاد والغطاس معاً في يوم واحد باعتبار أن الغطاس هو استعلانٌ لسر الميلاد الأزلي القائم في الميلاد الجسدي، بحيث أنه من غير الممكن بل ومن المستحيل أن نفصل أحدهما عن الآخر.
وعلى نفس النمط تماماً نحن نبدأ حياتنا الإلهية، التي هي الحياة الحقيقية والأبدية، بالمعمودية عندما نأخذ روح المسيح أي روح الابن، أو على وجه أدق روح الآب، المنبثق من الآب في الابن الذي يلدُنا من جديد أو يلدنا ثانية، أو على وجه أدق يلدُنا من البدء لله. وهكذا تبدأ الحياة الأبدية تتحرَّك وتنمو في أحشائنا سرًّا، فنبتدئ نعيش مع المسيح في الله حياة أبدية تتخطَّى كل مؤثِّرات هذا الزمان وتتجاوز كل عيوب ونقائص الجسد، لا تزيدها هذه وتلك إلا وضوحاً وقُرباً من جوهرها الإلهي القادر أن يبتلع الموت والفساد ابتلاعاً، حتى يتجلَّى الجوهر الروحي بكل جماله وكماله الإلهي، وحينئذ يهتف كل لسان بعظمة رحمة الله في المسيح الذي عوَّض الإنسان عن كل ضعفه وألمه ودموعه فرحاً وعزاءً وسروراً.
اليوم أُخصبت البشرية بعد عقم الروح الذي أصاب أبوينا. اليوم وُلد للإنسان ابنٌ يُدعى إلهاً أبدياً!! نحن نعيِّد اليوم عيد باكورة ثمر البشرية الذي صار بكراً بين إخوة كثيرين ورأس كنيسة روحية ملء السماء. هذا هو الوسيط الوحيد بيننا وبين الآب، لأنه أخونا - بالتدبير - وابن الله بآن واحد! قادر بحق وجدارة واستحقاق أن يشفع في كل ذنب وكل ضعف من جهتنا، لأنه ارتضى أن يحمل أمام الآب والملائكة كل خطيئة الإنسان ويتقبَّل عنها كل تعيير وعقاب. وبعد أن أكمل كل تطهير لازم لطبيعتنا، أَلبسَنَا جسده الطاهر لنظهر به أمام الآب بلا عيب ولا لوم.
فمباركٌ هذا اليوم في عداد كل أيام الإنسان، الذي فيه سلَّمْنا جسدنا للروح القدس بواسطة العذراء ليأخذه المسيح عنا ويصيِّره له خاصة، فيتراءى أمام الآب به مصالحاً كل إنسان فيه!! ومباركٌ هو كل إنسان له روح المسيح بالإيمان، لأنه لن يعود يظهر بعد في جسده الميت الفاسد أمام الآب، لأنه سيُعْطَى جسد المسيح ليتراءى به، فينال نعمة ويحل عليه مجد الله.
* المسيح عطاء الحب وهبة الاتضاع:
مباركٌ الآب الذي أعلن لنا حبه وكشف لنا اتضاعه في شخص يسوع المسيح، لأنه ليس فقط بإعلان عرَّفنا بالسر الذي احتفظ لنا به في قلبه، بل بإرسال ابنه الوحيد المحبوب. والمسيح أتى ليس فقط لكي يعرِّفنا عن سر حب الآب من نحونا ولا لكي يعلن لنا عن سر اتضاعه الذي قَبِلَه ليكمِّل به خلاصنا فحسب، بل ولكي يعطينا نفس حب الآب عطاءً متجسِّداً ملموساً، ويهبنا سر اتضاعه لكي يكون قوة ساكنة فينا تضمن خلاصنا ضماناً كليًّا. أما عطاء الحب وهبة الاتضاع، فهما في المسيح نفسه، ولا يمكن التعرُّف عليهما بدونه، ولا يمكن الحصول عليهما منفصلين عن شخصه الحي، ولا إلى لحظة واحدة أو طرفة عين. فالحب الذي يعطينا إيَّاه المسيح هو الروح الأبوي المنسكب فيه، والاتضاع الذي يهبنا إيَّاه المسيح هو جسده المُهان المضروب المجروح الميت الحي!
* ماذا نرى في بيت لحم؟
ماذا نرى في بيت لحم اليوم إلاَّ حبًّا خالصاً ملفوفاً باتضاع مذهل، وأُمًّا سَكْرَى بالروح لا تعي من ألم المخاض إلاَّ ملائكة تصعد وتنزل عبر السماء، وجسدها المتعب الملقى على تبن المذود! الطفل هو ابنها تماماً، وهو الحامل لكل صفات الإنسان وطبيعته، ولكنه هو هو الابن الأزلي القائم في حضن الآب ظهر متجسِّداً ليجمع في شخصه كل ما للآب وكل ما للإنسان.
ماذا نرى في بيت لحم اليوم إلاَّ حضوراً إلهياً، مضمونه الحب، ووسيلته الاتضاع، وغايته الخلاص، ونحن موضوع هذا الحب، وطبيعتنا وسيلة هذا الاتضاع، وخطيئتنا وذلُّنا ومسكنتنا هي ميدان هذا الخلاص وعمله! نحن اليوم موضوع بيت لحم، نحن نعيِّد عيد الحب الأبوي، ونطوِّب البشرية المسكينة التي صارت مسكناً للاهوت، ونهلِّل للخلاص الذي صار.
فما أعجب هذا الحب والاتضاع بصورتيهما المتجسدتين، اللتين صارتا في لحظة الميلاد قوتين جديدتين حاضرتين في طبيعتنا بمجرد قبولهما أو الرضى بهما!
* المسيح عريس الكنيسة:
الميلاد عيد الكنيسة الأول الذي فيه تعيِّد لميلاد عريسها.
في هذا اليوم افتقد الله كنيسة البريَّة (العهد القديم) العاقر، التي تمخَّضت بصراخ الأنبياء وعويلهم، ولم تلدْ إلاَّ شعباً جافياً مات في القفر والبقية فسدوا.
اليوم صار الوعد بميلاد كنيسة الأبرار، الشعب المُقْتَنى؛ فسرُّ بيت لحم كُشف لنا بالمعمودية، وميلاد ابن الله بالجسد أعطانا حقَّ الميلاد بالروح. فاليوم هو عيد الكنيسة، هو سر معموديتها وقوَّة قيامها ودوامها.
الكنيسة في أصل اللغة اليونانية معناها المدعوِّين للظهور، أو بمعنى آخر المدعوين للانتقال من غير المنظور للمنظور، تماماً كما دُعي ابن الله ليلبي نداء حب الآب السماوي للظهور والاستعلان من غير المنظور للمنظور. فالكنيسة تستمد اسمها وحقيقتها من يوم الميلاد الإلهي الذي فيه «ظهرت نعمة الله المخلِّصة لجميع الناس» (تي 2: 11). اليوم نحن مدعوون للظهور علناً بفرح وبشارة، كما ظهرت كنيسة السماء - ممثَّلة في جوقات الملائكة - وتراءت لبني البشر.
نحن نعلن أصواتنا المكتومة داخل قلوبنا، بتسبيح علني في وسط الكنيسة، لنعلن فرحتنا لدى الملائكة، كردِّ فعل واستجابة لبشارتهم لنا؛ هم أعلنوا لنا بُشرى الميلاد مرَّة ونحن نعلن استجابتنا وترديدنا للبُشرى يومياً وإلى الأبد.
ولكن ليس بالأصوات والحناجر فقط تُعلَن البُشرى أو تنطق الكنيسة وتبشِّر، ولكن بحياة أتقيائها وعُبَّادها. وهم وإن عاشوا وماتوا صامتين، ولكن الكنيسة تستطيع أن تقدمهم كآية لاستجابتها لحب الله المعلَن في المذود، كما تستطيع أن تقدمهم كنموذج متواضع نجح في استعلان تواضع الملفوف بالخِرَق!
ماذا نرى في بيت لحم اليوم إلاَّ حبًّا خالصاً ملفوفاً باتضاع مذهل، وأُمًّا سَكْرَى بالروح لا تعي من ألم المخاض إلاَّ ملائكة تصعد وتنزل عبر السماء، وجسدها المتعب الملقى على تبن المذود! الطفل هو ابنها تماماً، وهو الحامل لكل صفات الإنسان وطبيعته، ولكنه هو هو الابن الأزلي القائم في حضن الآب ظهر متجسِّداً ليجمع في شخصه كل ما للآب وكل ما للإنسان.
ماذا نرى في بيت لحم اليوم إلاَّ حضوراً إلهياً، مضمونه الحب، ووسيلته الاتضاع، وغايته الخلاص، ونحن موضوع هذا الحب، وطبيعتنا وسيلة هذا الاتضاع، وخطيئتنا وذلُّنا ومسكنتنا هي ميدان هذا الخلاص وعمله! نحن اليوم موضوع بيت لحم، نحن نعيِّد عيد الحب الأبوي، ونطوِّب البشرية المسكينة التي صارت مسكناً للاهوت، ونهلِّل للخلاص الذي صار.
فما أعجب هذا الحب والاتضاع بصورتيهما المتجسدتين، اللتين صارتا في لحظة الميلاد قوتين جديدتين حاضرتين في طبيعتنا بمجرد قبولهما أو الرضى بهما!
الميلاد عيد الكنيسة الأول الذي فيه تعيِّد لميلاد عريسها.
في هذا اليوم افتقد الله كنيسة البريَّة (العهد القديم) العاقر، التي تمخَّضت بصراخ الأنبياء وعويلهم، ولم تلدْ إلاَّ شعباً جافياً مات في القفر والبقية فسدوا.
اليوم صار الوعد بميلاد كنيسة الأبرار، الشعب المُقْتَنى؛ فسرُّ بيت لحم كُشف لنا بالمعمودية، وميلاد ابن الله بالجسد أعطانا حقَّ الميلاد بالروح. فاليوم هو عيد الكنيسة، هو سر معموديتها وقوَّة قيامها ودوامها.
الكنيسة في أصل اللغة اليونانية معناها المدعوِّين للظهور، أو بمعنى آخر المدعوين للانتقال من غير المنظور للمنظور، تماماً كما دُعي ابن الله ليلبي نداء حب الآب السماوي للظهور والاستعلان من غير المنظور للمنظور. فالكنيسة تستمد اسمها وحقيقتها من يوم الميلاد الإلهي الذي فيه «ظهرت نعمة الله المخلِّصة لجميع الناس» (تي 2: 11). اليوم نحن مدعوون للظهور علناً بفرح وبشارة، كما ظهرت كنيسة السماء - ممثَّلة في جوقات الملائكة - وتراءت لبني البشر.
نحن نعلن أصواتنا المكتومة داخل قلوبنا، بتسبيح علني في وسط الكنيسة، لنعلن فرحتنا لدى الملائكة، كردِّ فعل واستجابة لبشارتهم لنا؛ هم أعلنوا لنا بُشرى الميلاد مرَّة ونحن نعلن استجابتنا وترديدنا للبُشرى يومياً وإلى الأبد.
ولكن ليس بالأصوات والحناجر فقط تُعلَن البُشرى أو تنطق الكنيسة وتبشِّر، ولكن بحياة أتقيائها وعُبَّادها. وهم وإن عاشوا وماتوا صامتين، ولكن الكنيسة تستطيع أن تقدمهم كآية لاستجابتها لحب الله المعلَن في المذود، كما تستطيع أن تقدمهم كنموذج متواضع نجح في استعلان تواضع الملفوف بالخِرَق!
الفرح اليوم هو قوَّتنا والمسرَّة هي طعامنا