فطوبى لِمَن تَخْتارُه وتُقَرِّبه فيَسكُنُ في دِيارِكَ فنَشبعُ مِن خَيراتِ بَيتكَ و مِن قُدْسِ هَيكَلِكَ.(مز 65 /5)
الآلام الفدائية - تأملات في أسبوع الآلام - الأب متى المسكين
تأملات في أسبوع الآلام
عن عظة مُسجَّلة للأب متى المسكين، ألقاها يوم الجمعة الكبيرة سنة 1977
(لم يسبق نشرها)
الآلام الفدائية
الأب متى المسكين
كانت حياة المسيح كلها آلاماً وصليباً. فقد وُلد مصلوباً من الطبيعة، في كيهك، أبرد شهور السنة، وُلد عرياناً لم تجد أُمُّه ما تغطي به جسده الغض. وُلد بين الحيوانات، في مغارة ليس بها باب. وهكذا بدأ حياته مصلوباً. جاع وعطش، تعب، حزن، بكى... آلام لا نهاية لها.
لذلك يمكن أن نلُخص حياته كلها التي قضاها على الأرض ونقول: إنه وُلد وعاش هذه الثلاث والثلاثين سنة لكي يُصلب. وهذا هو النوع الأول من الآلام التي جازها المسيح على الأرض، آلام طبيعية، دخلت عليه، فقَبِلَها، ورضي بها اضطراراً، ولكنه اضطرار الحب. فالمسيح من عمق حبه قَبِلَ تلك الآلام، لم يمنع نفسَه من قبول الأوجاع والإهانات التي آتته. قَبِلَ كل هذا من جهة الحب والحق والاتضاع.
جاء والتزم بهذه الآلام الصغيرة من جهة المشورة الإلهية التي حتَّمت التجسد، وأن يصير إنساناً، في صورة عبد، يحمل آلام العبيد وأتعابهم. كل هذا لم يكن هو مُضطراً لقبوله قط ولا كانت حُتِّمت عليه بإلزام.
كان قادراً بقدرته الإلهية أن يبيد الأشرار بنفخة فيه، ولكنه تركهم يفعلون به كما يشاءون. كان يمكن أن لا يتعب من السفر ساعات طويلة فيسير على الماء أو حتى في الهواء، ولكنه لم يفعل. كان باستطاعته أن يُفجِّر من الأرض ينابيع ماء لا تنضب، ولا يطلب من السامرية ماءً ليشرب. كان يمكن أن لا يجوع، ذاك الذي أطعم الآلاف، ولكن إذ به يطلب من تلاميذه أن يبتاعوا له خبزاً.
في كل هذا، حجز قدرته الإلهية، لتمنعه من العوز والضيق ومن الحزن والألم، من الجوع والعطش.
كل الآلام السابقة كانت شركة مع البشرية، آلام دخلت عليه دخولاً طبيعياً. يقول سفر العبرانيين عن المسيح إنه كان مُجرَّباً مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية طبعاً. ولكننا نقول إن هذه الآلام ليست هي الآلام التي فدت البشرية، فالفداء تم بالصليب والموت.
وهنا نأتي إلى النوع الثاني من الآلام التي جازها المسيح، وهي الآلام الخلاصية، آلام الفداء، الآلام التي انتهت بالموت. فبالموت وحده أكمل المسيح الفدية. "نفسٌ بنفسٍ". هذه الآلام دخل إليها المسيح دخولاً متعمَّداً مقصوداً وحتَّمها على نفسه ، وقَبِلَ حتميتها من يد أبيه الحانية، بل هو أتى إلى هذه الساعة، وارتضى أن يشرب كأس الصليب التي أعطاها له الآب. فالصليب، يا أحبائي، محسوب حسابه من قبل الزمن: «عالمين إنكم اُفتديتم لا بأشياء تفنى..بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِرَ في الأزمنة الأخيرة من أجلكم».
من هنا جاءت حتمية الآلام وحتمية الفداء، فداء الموت. بل إننا نستطيع أن نقول أن صليب المسيح كان مرسوماً ومكتملاً في التدبير الإلهي كفعل كامل تم في المشورة الإلهية ولا يُنتظر إلا استعلانه بحسب الواقع البشري الزمني فقط. يقول في سفر الرؤيا: «الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذُبح». فالمسيح مذبوح بالفعل في المشورة منذ الأزل، وهو إلى الآن قائم كأنه مذبوح.
وهكذا فإن آلام الصليب الفدائية لها في الحقيقة وجهان:
وجهٌ بشعٍ يمثله حقد اليهود وشرهم المريع، والعداوة التي أضمروها والشهود الكذبة والقضاء الظالم، ثم عذابات الصلب والمسامير والجلد والبصق...، لهذا السبب أُعثِر غيرُ المؤمنين في الصليب، ظنوا أنه عن عجز وضعف. ولكن هذا هو الوجه الظاهر للصليب.
ولكن هناك وجه آخر مُشرق: إنه مشورة الآب المحتومة منذ الأزمنة الأزلية، قبل تأسيس العالم. هذا الوجه ينضح حباً ومسرة، ويرتفع إلى أعلى مفهومات البذل الإلهي الفائق الوصف من نحو العالم، كما تقول الآية: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». إنه حب مكنون في قلب الآب من جهة الابن، والذي على أساسه سلَّم ابنه للذبح. فهنا خطة الصليب لم تقم على شر الأشرار وظلم الظالمين ولكن على أساس الحق الإلهي والعدل الذي لابد أن يُستوفى هنا على الأرض. هذه الصورة مُبهجة جداً لذلك يقول: «احتمل الصليب، مُستهيناً بالخزي، من أجل السرور الموضوع أمامه». فـ "أمامه"أي في الأزل، أي قبل أن ينـزل ويتجسد، أي أن المسيح كان يعرف مُسْبقاً تماماً ما هو سوف يُتممه في الزمن.
ونقول يا أحبائي، إن هذا الوجه المخزي المؤلم للصليب، لم يُثنِ المسيح عن تتميم مطالب الوجه السماوي المملوء طاعةً وكرامةً للآب، ثم حبه العميق من نحو البشرية. وقد كان من نتيجته انتصار الحب الإلهي، انتصاراً فيه تمجيد الله الآب بكل طاعة الابن. وانتصاراً لخلاص الإنسان على مدى الأيام والدهور كلها. نعم كان الصليب هو طريق الاتضاع والمذلة الإرادية المُذهلة؛ ولكنه كان هو هو في نفس الوقت الذي أوصل المسيح إلى قمة الانتصار والمجد السماوي، ومعه ملايين من الخليقة الجديدة من بني الإنسان الذين رفعهم إلى ذات المجد وذات النصرة وأدخلهم معه على الحياة الأبدية في شركة الآب وإلي ملء الفرح الأبدي.
وجهٌ بشعٍ يمثله حقد اليهود وشرهم المريع، والعداوة التي أضمروها والشهود الكذبة والقضاء الظالم، ثم عذابات الصلب والمسامير والجلد والبصق...، لهذا السبب أُعثِر غيرُ المؤمنين في الصليب، ظنوا أنه عن عجز وضعف. ولكن هذا هو الوجه الظاهر للصليب.
ونقول يا أحبائي، إن هذا الوجه المخزي المؤلم للصليب، لم يُثنِ المسيح عن تتميم مطالب الوجه السماوي المملوء طاعةً وكرامةً للآب، ثم حبه العميق من نحو البشرية. وقد كان من نتيجته انتصار الحب الإلهي، انتصاراً فيه تمجيد الله الآب بكل طاعة الابن. وانتصاراً لخلاص الإنسان على مدى الأيام والدهور كلها. نعم كان الصليب هو طريق الاتضاع والمذلة الإرادية المُذهلة؛ ولكنه كان هو هو في نفس الوقت الذي أوصل المسيح إلى قمة الانتصار والمجد السماوي، ومعه ملايين من الخليقة الجديدة من بني الإنسان الذين رفعهم إلى ذات المجد وذات النصرة وأدخلهم معه على الحياة الأبدية في شركة الآب وإلي ملء الفرح الأبدي.
والآن ما هي قيمة آلام المشاركة بالنسبة لنا؟
المسيح أخذ طبيعتنا بكل أتعابها التي دخلت فينا بسبب الخطية واللعنة، شارك البشرية في آلامها الطبيعية التي كانت محسوبة أنها لعنة بسبب الخطية. هو يسألنا: أتبكون؟ يقول لنا: لا تحزنوا، لقد بكيت مثلكم. أتجوعون وتعطشون؟ لقد جُعتُ وعطشتُ أنا أيضاً. َأظـُِلمتـُمْ؟ لقد كنتُ مُستهدفاً لكل أنواع المظالم وأقصاها. لقد شاركتُ البشرية في كل أتعابها وأوجاعها وآلامها التي ورثتها بشريتكم وصارت في أجسادكم نتيجة لعنة الخطية.
وطبعاً المسيح هو من غير خطية وبدون لعنة، إذن، فكونه يشارك آلامنا، تكون مشاركته عالية القيمة جداً جداً، فهي تنضح علينا، وتعود علينا قوة القدوس البار الذي بلا لوم، الذي صار رئيس كهنة، لكي يكون رحيماً فيما لله، لكي يعيننا نحن المُجرَّبين. كذلك فإن الجهد والتعب، والأحزان بأنواعها، الضيقات بكل صنوفها، هي أيضاً شارَكَنا المسيح فيها. تنازل عن مجده، رفع العصمة عن نفسه، قال مَرحباً بالآلام، مع أن الألم لا يستطيع أن يَقْرَبَـه؛ فمن هو الذي يستطيع أن يؤلمِّ ابن الله؟! ولكن هذا هو مسيحنا الذي رفع اللعنة عن عرق الجبين لأكل الخبز، ورفع اللعنة عن جميع الأوجاع والأمراض وحوَّلها إلى شركة حب. لذلك نحن عندما ندخل في مثل تلك الآلام ننظر لمن تألم معنا بها، مثلنا تماماً، ونستمد منه العون.
إن من يحيا في المسيح، من يمُسك في المسيح، لن يصير له الألم بعد لعنة، لن يُحسب عليه أي ظلم أو جور أو حزن أيّاً كان أنه لعنة أو غضب أو تخلية؛ بل ستتحول الحياة كلها إلى لذة، إلى حب ومشاركة حب. نحن لم نعُد نعيش بعد لأنفسنا؛ بل للذي مات من أجلنا وقام. لقد صرنا مربوطين بالمسيح ارتباطاً لا انفصال فيه، لا يُخلخله ألم، ولا تؤثر فيه مظالم أو أمراض أبداً. لا تخلية بالنسبة لأولاد الله أبداً. آلامك لم تعد لك، يا حبيبي، أفراحك هي أيضاً ليست لك، كل الحياة أصبحت له. بل أقول سرّاً: إنك ستحس بالمسيح في أحزانك وآلامك أكثر من إحساسك به في أفراحك.
لقد دخلت الحياة برمتها في المسيح يسوع هذا الذي عاش حياتنا مثلنا تماماً.
سؤال: هل نحن عملنا شيئاً ولم يعمله هو؟! هل نحن مررنا على أية قامة وهو لم يمر عليها؟! هل تألمنا نحن بنوع ألم لم يختبره أو يَجُزْهُ المسيح؟!
لقد استقطب المسيح كل الآلام اليومية الطبيعية، رفع عنها عنصر اللعنة المتغلغلة في سائر حياتنا. وبالتالي صارت أتعابنا وأمراضنا وأوجاعنا كلها الآن، لا تمتُّ للَّعنة الأولى بصلة. لم يعُد للخطية سلطان. أما الآلام التي قد نجوزها الآن، فهي بركة، إنها شركة في المسيح. فكل ضيق وألم نجوزه الآن، هو من يد الله، لكي ننمو في الله.
صورة عجيبة، يا أحبائي، لقد تحولت الحياة اليومية إلى حياة فوق الزمن.
فمع الله في المسيح يسوع، لم يعد هناك بعد لعنة، لم يعد هناك انفصال عن الله، والانفصال هو اللعنة بعينها. الآن، نحن نحيا لا لأنفسنا، ونتألم لا لأنفسنا؛ لأن ابن الله مات عنا، ليعيدنا إلى الله كاملين في الحب. لذلك أصبحت الآلام اليومية لكل أولاد الله هي شركة حب ووقود لإشعال القلب كل يوم بحبه. وكأننا لا نتألم وحدنا ولا نحيا لذواتنا بل نتألم لنـزداد قُرباً من الله، ونزداد حباً فيه وحياة.
صلاة
والآن، يا ربنا يسوع المسيح،
ننظر إلى صليبك فتسيل دموعنا ولا نعرف كيف نُمسِكُ أنفسَنا.
آه يا ربُ، كم مرةً استعفينا من شركة آلامِك ومذلة موتِك وانسحاقِ صليبِك، وفي كل هذه المرات وجدنا أن إكليلَ المجدِ قد طار من على رؤوسِنا، وانسكبت حياتُنا في الطين، ولم تعد أعمالنا إلا حِفنـةَ تراب.
ولكن، في كل مرة وطدنا العزم أن نحمل صليبَك ونشربَ من كأسِك ونصطبغَ بالصبغة التي أنت اصطبغتَ بها، ونتقدم بجسارةٍ حاملين عارَك، وفي ذلك ننتظر المرارة والموت؛ هنا نجد أنفسنا في فرح وسلام وكرامة وتختفي المُفزِعات والمُروِعات كلها، بل ونرى المجد عياناً.
هذا هو سرُّ صليبك العجيب، كل من ارتعب منه وهرب، ضاع منه مجد الصليب، وهربت من أمام عينيه الجُعالة العُليا.
أما كل من تماسك وتمالك عزائمه وقال: "أَحملُ صليبي، وليكن ما يكون"، "أَشهدُ لإلهي وأشرب المرارة حتى الثُمالة، وأموت، وليكن ما يكون"، ولكن إذ به يجد نفسه على عتبة المجد، ورؤية الله تشع على قلبه بأمجاد لانهائية وأفراح سماوية تُطمئن النفس للقيامة المجيدة.
عجباً يا رب، هكذا أخفيتَ آلامك في مجدك، وهكذا أخفيتَ أمجادك مع ألمك بسر عجيب، حتى لا يستطيع إنسان قط أن يقبل الواحدة دون الأخرى.
لن نستطيع أن نقبل أمجادك بلا آلام، يا ابن الله.
ولن نقبل آلامك بشجاعة دون أن يشع علينا مجدك. هذا هو سر صليبك العجيب.
أشرقْ يا رب، الآن في قلوبنا بسر آلامك، لكي نُدرك سر مجدك، حتى لا نجزع من آلام صليبك، بل نجري وراءها بحبك، ونعاهدك أن نحمله كل يوم، لنكون بالحق تلاميذك.
أعطِ يا رب، كنيستك الجرأة والشجاعة أن تدخل في هذه الأيام لا باللحن الجميل فقط؛ ولكن بسرِّ آلامك، والتي لابد أن تتكلل بالمجد.
أعطِ لكل إنسان خائفٍ الشجاعة، لكي لا يخاف أن يتألم، وأن يثق أن المجد مخفي في كل ألم، ولن يتألم إنسان قط دون أن يتمجد فيك وبك.
أعطنا يا رب، في هذا اليوم سر هذا الصليب يعيش فينا ونعيش فيه. لتشرق جُلجثَتك في قلوبنا ونمضي عليها بأسمائنا أننا قبلنا أنشودتها لتكون لنا لحن حياة.
لك المجد في كنيستك من الآن وإلى أبد الآبدين أمين
هذا هو سرُّ صليبك العجيب، كل من ارتعب منه وهرب، ضاع منه مجد الصليب، وهربت من أمام عينيه الجُعالة العُليا.
أما كل من تماسك وتمالك عزائمه وقال: "أَحملُ صليبي، وليكن ما يكون"، "أَشهدُ لإلهي وأشرب المرارة حتى الثُمالة، وأموت، وليكن ما يكون"، ولكن إذ به يجد نفسه على عتبة المجد، ورؤية الله تشع على قلبه بأمجاد لانهائية وأفراح سماوية تُطمئن النفس للقيامة المجيدة.
عجباً يا رب، هكذا أخفيتَ آلامك في مجدك، وهكذا أخفيتَ أمجادك مع ألمك بسر عجيب، حتى لا يستطيع إنسان قط أن يقبل الواحدة دون الأخرى.
ولن نقبل آلامك بشجاعة دون أن يشع علينا مجدك. هذا هو سر صليبك العجيب.
أشرقْ يا رب، الآن في قلوبنا بسر آلامك، لكي نُدرك سر مجدك، حتى لا نجزع من آلام صليبك، بل نجري وراءها بحبك، ونعاهدك أن نحمله كل يوم، لنكون بالحق تلاميذك.
أعطِ يا رب، كنيستك الجرأة والشجاعة أن تدخل في هذه الأيام لا باللحن الجميل فقط؛ ولكن بسرِّ آلامك، والتي لابد أن تتكلل بالمجد.
أعطِ لكل إنسان خائفٍ الشجاعة، لكي لا يخاف أن يتألم، وأن يثق أن المجد مخفي في كل ألم، ولن يتألم إنسان قط دون أن يتمجد فيك وبك.
أعطنا يا رب، في هذا اليوم سر هذا الصليب يعيش فينا ونعيش فيه. لتشرق جُلجثَتك في قلوبنا ونمضي عليها بأسمائنا أننا قبلنا أنشودتها لتكون لنا لحن حياة.
لك المجد في كنيستك من الآن وإلى أبد الآبدين أمين