أما أنا فدودة لا إنسان عار عند البشر و رذالة في الشعب ( مز 22 /7)
في الموضع الذي يُقال له جلجثة - عظة يوم الجمعة العظيمة - المقالة الثانية - الاب متى المسكين
جمعة الصلبوت |
|
كتاب: تأملات في أسبوع الآلام (3)
جمعة الصلبوت
(مقالات وعظات كُتبت وأُلقيت في مناسبات متنوعة، ونُشرت ضمن طبعات كتاب: مع المسيح في آلامه حتى الصليب من سنة 1976 إلى سنة 2000).
******
المقالة الثانية
في الموضع الذي يُقال له جلجثة
+ شركة في آلامه حوَّلت الخطية إلى توبة وإلى كرازة.
?lVl?
+ «فخرج وهو حاملٌ صليبه إلى الموضع الذي يُقال له ?موضع الجمجمة?، ويُقال له بالعبرانية ?جُلْجُثة?، حيث صلبوه (هناك)!» (يو 17:19و18)
l l l
منظرٌ لا يجوز لنا أن نتصوَّره بمشاعر الحزن خلواً من هيبة ألوهيته ومجد قيامته وفرحة لُقياه! لقد أخطأَتْ بنات أورشليم إذ بَكَيْنَ عليه! فسمعن منه هذا القول: «لا تَبْكِينَ عليَّ بل ابْكِينَ على أنفسِكُنَّ وعلى أولادِكُنَّ.» (لو 28:23)
ولكن لا نستطيع أبداً أن نتصوَّر الصليب بمشاعر الفرح خلواً من حزن شديد! وإلا نكون قد فقدنا معنى الصليب ونسينا تطهير خطايانا الأولى، وصرنا كواحد من أهل العالم الذين شاهدوا صلب يسوع باستهزاء وعدم مبالاة.
«الحق الحق أقول لكم: إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح» (يو 20:16). نحن لا نبكي كإحدى الجاهلات اللاتي كُنَّ ينظرن إلى الرب كإنسان يموت عن نفسه، ولا نفرح مع العالم اللاهي لئلا نكون بشبه الصالبين!!
* * *
نحن تقابلنا مع المسيح في جثسيماني وقلنا إن شركة الآلام هي تقابُل ما بعده تقابُل. وتأكَّدنا أنه منذ تلك الساعة صارت آلامنا تُحسب مع آلام المسيح ذبيحة حب وفرح، وشركة في مجد الأُلوهة. فما بالنا نقول الآن إنه ينبغي أن نتألم ونحزن ونبكي؟
نقطة التلاقي الأولى: ألم الصليب:
نعم، يجب أن نلتقي مع الصليب، ففيه مذَّخر لنا حزن واكتئاب كثير، لأن لنا فيه مصدر تبكيت بسبب خطايانا الحاضرة. مَن ذا يستطيع أن يدنو من الصليب ولا يحس بخطاياه وينظرها أمامه حاضرة؟
نحن لا نبكي المسيح على الصليب؛ بل نبكي أنفسنا التي لم تنتفع بعد من عار الصليب وعذاب المسيح!
نحن لا نتألم لأن المسيح تألم! ولكننا نتألم لأن المسيح تألم ونحن لا زلنا نلهو.
نحن لا نحزن لأن المسيح شرب المُر على الصليب! ولكننا نحزن لأننا لم نَرْعَوِ ولم نعتبر ذلك، ولا زلنا نشرب من ملذَّات الدنيا.
نحن لا نجزع حينما نتصوَّر كيف ضغطوا إكليل الشوك على رأس المسيح، وانغرست أشواكه في رأسه وجبهته وسال الدم من هنا ومن هنا إمعاناً في احتقار ملوكيته! ولكننا نجزع حينما نتصوَّر ذلك ونحن لا نزال نسعى وراء أمجاد الدنيا وتكريم الوظيفة وعلو الدرجات!
نحن لا نرتعب من منظر المسامير وهي تُدَقُّ في اليدين والقدمين على الخشبة! بل نرتعب لما نذكر ذلك ونتذكَّر كيف امتدَّت أيدينا للسرقة والرشوة وإمضاء الزور والإساءة إلى الأبرياء، ولا تزال تمتد!
هذه هي شركة آلامنا في الصليب، حيث يصير الصليب خشبةَ تبكيتٍ وآلام ومصدرَ حزنِ توبةٍ للحياة.
+ «الآن أنا أفرح، لا لأنكم حزنتم، بل لأنكم حزنتم للتوبة... لأن الحزن الذي بحسب مشيئة الله يُنشِئ توبةً لخلاصٍ بلا ندامة.» (2كو 9:7و10)
كذلك نحن مدعوُّون أن نكون شركاء في آلام المسيح، لا بمعنى أن نحمل عنه آلامه أو نشاطره أحزانه ـ إذ هذا تفسير جدَّ خاطئ ـ بل بمعنى أن نكون مستعدِّين أن نقبل مثله ألم الرسالة واضطهاد الحق وضيق الكرازة، في كل ما يأتي علينا؛ حيث تُحسَب لنا هذه كلها كتكميل لآلام المسيح، أو كاشتراك بنصيب متواضع في أحزان الصليب: «وأُكَمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة.» (كو 24:1)
إذن، ففي ذِكرى آلامه نحن مدعوُّون، لا أن نبكي عليه بل أن نبكي معه، بأن نحمل صليبنا ونتبعه ونضيف آلامنا على آلامه!
وحينما تقرأ الكنيسة أناجيل الصَّلْب بنغمة الحزن، فلنتذكَّر أننا مدعوُّون أن نسير مسيرته ونُهان إهانته ونُطرد مثله ونخرج «حاملين عاره.» (عب 13:13)
هكذا نتألم، وهكذا نعرف آلام المسيح وعار الصليب.
فهي إما تُنشئ فينا حزناً للتوبة والخلاص،
وإما تُنشئ فينا حزناً على الخراف الضائعة.
نقطة التلاقي الثانية: فرح الصليب:
هي ليست نقطة ثانية، لأنها كائنة بالأولى. فشركة آلامنا في الصليب قائمة أساساً على الفرح والعزاء.
فنحن إما نحزن ونتألم للتوبة، وأحزان التوبة تُنشئ فرحاً ما بعده فرح، فالكتاب يصفه أنه ?بلا ندامة? لأنه فرح اللُّقيا بوجه المسيح لقيامة وحياة في الخلود. وإما نحزن ونتألم في الخدمة والكرازة، وأحزان الكرازة عزاء ما بعده عزاء لأنه تكميل لرسالة الصليب وبه نؤهَّل أن نكون من التلاميذ أو التابعين: «قد امتلأت تعزية وازددتُ فرحاً جداً في جميع ضيقاتنا. لأننا لما أتينا إلى مكدونية لم يكن لجسدنا شيء من الراحة بل كنا مُكتئبين في كل شيء. مِن خارج خصومات، مِن داخل مخاوف. لكن الله الذي يُعزِّي المتضعين عزَّانا... بسببكم.» (2كو 4:7ـ7)
* *
أعماق:
نعم، وكما أن آلام الصليب لا يبلغ أعماقها إنسان، مهما كانت توبته قوية أو مهما كانت خدمته دامية؛ هكذا فأفراح الصليب قائمة بهذه النسبة عينها. وكل ما نعرفه أنه كلما ازدادت آلام الصليب في حياتنا، ازدادت التعزية بالضرورة: «لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً.» (2كو 5:1)
وليُدرك القارئ أن النسبة مطلقة، إنْ في الألم أو في الفرح، فلا ينزعج من الألم إذا كثُر وتجاوز الحدّ، فليس للألم حدود. ولكن عليه أن يُدرك أن عدم محدودية الألم هي عينها التي تُنشئ فرحاً لا يُنطق به ومجيداً!
فإن كانت آلامنا هي بلا حدود، فلكي تكون أفراحنا بلا حدود، ونحن الرابحون.
وإن كانت الآلام الشديدة تُنشئ إحساساً بالموت، فالإحساس بالموت يُنشئ إحساساً بحياة المجد.
ولكن لينتبه القارئ جداً، لأنه إذا لم يُنشئ الألم فرحاً ملازِماً وعزاءً حاضراً، فليُدرك أنه يتألم خارج آلام المسيح! ويكون متغرِّباً عن شركة آلام الحياة.
احذر، أيها القارئ، أن تقبل ألماً لا تجد فيه عزاءً، لأنه هو هو ألم الخطية الذي يورِّثك الهمّ والقلق والحزن المُفسِد الذي ينتهي بك إلى المرض والهلاك. فإذا أوقدت شمعة الضمير وفتَّشت في أعماق هذا الألم الخبيث تجده ولابد مُتسبباً عن شيء في الذات، إما أنانية، أو بغضة، أو حسد، أو حقد، أو كبرياء، أو خوف من الموت. وهذه الجذور سامة تغذِّي الذات بعصير الآلام المفسدة.
واعلم أنه ليس في المسيح ألم بلا تعزية، ولا عزاءٌ بلا ألم.
فقد زرع المسيح جسده في وسط الآلام، وأخرج لنا منها ثمرة مُبهجة للحياة.
+ «فليحمدوا الرب على رحمته وعجائبه لبني آدم.» (مز 8:107)
يا إخوة لا تتألموا خُلْواً من فرح، كبنات أورشليم الجاهلات؛ ولا تفرحوا خُلْوا من الآلام، كالصالبين أو كأحد المستهزئين.
* * *
السلام للصليب قوة التوبة لخلاص بلا ندامة.
السلام للصليب قوة الكرازة وعزاء الرعاية.
V V V
صلاة
آلام، نزيف، عطش، دوار وغصَّة وتسليم الروح.
وأخيراً وقعت حبة الحنطة بإرادتها وماتت!