هو وَحدَه صخرَتي و خَلاصي هو حِصْني فلا أتزَعزَع (مز 62 /3)
عيد الرسل و إيمان الكنيسة - الـأب متى المسكين
عيد الرسل وإيمان الكنيسة
الأب متى المسكين
يا كنيسة الرسل يا جليلة القدر،
يا جالسة على الاثني عشر كرسيًّا محيطاً بالعرش،
يستمدون المجد من صاحب المجد،
أينما وُجد الرب حتماً توجدون،
لازمتموه في التجارب ولازمتموه في التجديد وتلازمونه في التمجيد،
حُكم عليكم بالجلد من رؤساء الختانة ـ فخرجت كلمة القضاء الذي لا يُرَد أن تحكموا وتدينوا الاثني عشر سبطاً الذين عبدوا الختانة ورفضوا رب الختان.
موسى النبي استُؤمن على شبه السموات وظلها،
وأنتم استؤمنتم على تجسيد نور السموات بلمعانها،
ووضعتم أساس كنيسة الدهور التي أساسها في السماء وبناؤها على الأرض،
المدينة التي لها الأساسات الحاملة ربوات القديسين وملايين أهل بيت الله،
التي تلبس البز وتحملها تبررات القديسين،
التي ستُستعلن يوم يُستعلَن عريسها وهي مزيَّنة كعروس تُزفُّ لعريسها، هابطة من فوق أعلى السموات وعليها اسمها القديم أورشليم، وقد استُعلن البرّ والسلام الحقيقي على وجوه كل مواطنيها.
أول من نطق باسم الكنيسة هو الرب يسوع، وكان ذلك بمناسبة اعتراف بطرس الرسول بالإيمان المسيحي: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (مت 16:16).
فكان هذا الاعتراف هو أول تعريف لاهوتي للمسيح والكنيسة. وهذا بحد ذاته يُفرِّح قلوبنا ويُبهج أرواحنا أن الإيمان المسيحي أول ما جاء جاء على لسان رسول دون إملاء.
وبهذا يُحسب الإيمان المسيحي أنه استعلان وليس تلقيناً، والاستعلان ليس بجهد بشري أو بتسليم ولكنه استعلان من الآب السماوي حينما كشفه الرب وأعطى معه صورة كاملة بديعة لما هي الكنيسة، ومَنْ هو مصدرها، وما هو سلطانها، وما هي قوتها السمائية المؤمَّن عليها ضد الشيطان وسلطانه، شيء يملأ القلب بالإيمان والرجاء الحي.
+ «وأنتم مَنْ تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس (صخر) وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلُّه على الأرض يكون محلولاً في السموات.» (مت 15:16-19)
وهكذا، ما ضيَّعه آدم من مفاتيح الفردوس بسبب عدم إيمانه بالله الذي ألهمه به الشيطان، استردَّه بطرس بإيمانه الذي ألهمه به الله.
وهذا ليس مجالاً لوصف الكنيسة وشرح لاهوتها، ولكن المجال هو الإيمان الذي ألهمه الله لبطرس الرسول برضى ومسرة ليصبح إيمان الكنيسة كلها.
وإكراماً لموقف الرسل النبيل دُعيت الكنيسة كلها باسم الكنيسة الرسولية أو كنيسة الرسل، وعبَّر عن هذه اللفتة الإلهية الكريمة القديس بولس الرسول بالإلهام أيضاً، لأنه لم يكن حاضراً هذا الحدث الكبير، وذلك في رسالته إلى أفسس، وذلك لما كان يخاطب الأمم الذين فتح لهم الرب باب الإيمان قائلاً:
«فلستم إذن بعد غرباء ونُزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله. مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح.» (أف 19:2-22)
ويُلاحِظ القارىء هنا أن بولس الرسول لا يركز على المستويات الروحية في ذكره الرسل والأنبياء قبل يسوع المسيح، ولكنه يركز على الإيمان الذي تأسس فعلاً على الرسل أولاً واستلمه الأنبياء. ولكن إن كان هؤلاء أو أولئك، فهم مجرد أساس في بناء كنيسة الله الروحية المبنية ليس من حجر وأعمدة وقِبَاب بل من صَخْر حيٍّ وحجارة كريمة يقع فيها المسيح موقع حجر الزاوية،
وهو تاج المبنى الذي لولاه لانفرط المبنى كله. فحجر الزاوية هو التاج الذي يربط البناء كله:
«الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو (في الروح والإيمان) هيكلاً مقدساً في الرب.» (أف 21:2)
الأساس عمل حسابه المهندس العظيم ليحمل كنيسة الدهور الأبدية بكل إيمانها وأضعف مؤمنيها وأخطر تجاربها وجيوش أعدائها الخفيين والظاهرين، لكي تكون حصناً يحمل الدهور كلها دون أن يُفلَّ. ليس بها منفذ واحد يتسرب منه شيطان الجحيم. وقد سلَّحها ربها بوجوده في القمة، يرعى من بُعدٍ وعن قُربٍ، يسوع المسيح الذي تجرَّب في كل شيء مثلنا وأشبه إخوته في كل شيء ما عدا الخطية. فهو القدوس الباقي قدوساً ملء كل السماء والأرض.
مَنْ يقترب إليه يتقدس به. وإيمان بطرس أَعْجَبَ المسيح ليكون المسيح هو الأساس الصخري الذي يدعى عليه اسم الرسل. وأما المتصرِّفون فيها على مدى السنين فهم المؤمنون على مستوى بطرس للفتح والغلق.
فلا يدخلها ذئب ولا يخرج منها حمل. هو أصلاً وفي ترتيب الأزل ملكوت الابن الوحيد الوريث، ولكن الابن رأى أن يكون له من بني الإنسان أهل على مستوى إبراهيم حبيبه وموسى قديسه، فانتسب لداود واختار منه عذراء هي أقدس قديسيه، وقدَّسها هو بالأكثر وملأها بروح الله وقوته وحلَّ فيها مدة لتكون له سماء ثانية بجنودها وملائكتها، وبنى فيها أول ما بنى رَحِمَها الذي يولد منه كمن يخرج من سماء إلى سماء. فكل من اختاره يسوع جعله ابناً للسماء. واختار التلاميذ أطهاراً، وطهَّرهم ليكونوا أدوات بيته الأول، ولكن اندسَّ في وسطهم واحد مندوب مخفي للشيطان، لم يحتمل أن يكون واحداً بين إخوة، فخرج مفضوحاً.
أما يسوع فطرح نفسه على تلاميذه وقال لهم: ماذا ترون فيَّ فرأوه بعين بطرس ابن الله منذ الأزل، ورآه يوحنا الحياة الأبدية المخفية كسرٍّ مغلق لا يفتحه إلا رسول في لحظة استعلان سماوي، ورآه بولس أخيراً أكثر لمعاناً من الشمس وقت الظهر، ورآه لوقا وقد اصطُفَّت كل ملائكة الله حول بيت لحم سجوداً وجمهور جند السماء يهنِّىء الأرض بالسلام بعد اللعنة وبني آدم بالمسرة عوض أحزان الموت، واستطاعوا أن يفسروا رؤيا إشعياء النبي أنه الملك الجالس على كرسيه وأذياله تملأ كل الهيكل، والسرافيم يصرخون الواحد قُبالة الآخر بأعلى صوتهم:
قدوس قدوس قدوس قد امتلأت كل الأرض بكل المجد.
واجتمعت قوات السلاطين والرؤساء والسيادات والأرباب وعملوا وليمة استعداد لاستقبال ابن الله الآتي في جسم آدمي بكل خضوع، وأفسحوا السماء لخلائق جديدة سماوية أحضرها وراءه، كلها تعكس بهاء مجده ــ فأجلسوه عن يمين عرش العظمة في السموات عن يمين الله.
أما وُجهاء أهل بيت الله الذين تعبوا معه في التجديد فأجلَسوهم من حوله على اثني عشر كرسيًّا. واحتفظت الكنيسة على الأرض بسرِّ إيمان الرسل.
فلماذا يكون الإيمان الرسولي المسيحي هو الأصح لاهوتياً؟
لأنه الإيمان الذي لم يُفرض عليهم فرضاً، ولا تلقَّنوه تلقيناً، ولا تعلَّموه تعليماً، أي أن الفكر البشري والذكاء البشري والعلم البشري لم يشترك فيه!
ولكنه كما يقول السيد المسيح وهو يركِّز جداً على ما يقول لأهميته القصوى، ثم جعل هذا الإيمان هو أساس الكنيسة المزمعة أن تكون أو التي صارت من لحظتها:
«فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يُعلن لك، لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي.» (مت 16:16-17)
قول المسيح لبطرس: طوبى لك هو عائد الإيمان السماوي. فبطرس تلقَّاه من الآب السماوي دون كافة التلاميذ لأمور كثيرة، أهمها انفتاح الذهن، وقبوله الاستعلان السماوي، مع جرأة وشجاعة أن يصف المسيح بأوصاف إلهية لم ينطقها أحد قبله. فاعتُبر القديس بطرس الرسول أول وعاء كنسي تقبَّل أول وأهم مقولة إلهية في لاهوت الكنيسة حُسبت أنها بناء على صخر روحي.
وكون المسيح نفسه ينفي نفياً قاطعاً أن لحماً ودماً تدخَّل في هذا الإعلان اللاهوتي فهذا معناه أنه ينفي أن يكون القديس بطرس قد تلقَّاه بالمعرفة، لا بمعرفته ولا بمعرفة مخلوق بشري من دم ولحم. ثم بعد النفي القاطع بأن بطرس لم يتلقَّ إيمانه من بشر بأية وسيلة كانت، أعلن المسيح المصدر السري الوحيد للإيمان الحق والسماوي والوحيد الذي تلقاه بطرس من الآب السماوي!!! وهل حافظت الكنيسة على هذا الإيمان الرسولي؟
هذا يؤكده بولس الرسول تأكيداً قاطعاً أن: «وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (1 كو 3:12)،
بمعنى أن أية صورة للإيمان بالمسيح يسوع إن لم تكن بدافع وبقوة الروح القدس تكون صورة إيمانية ناقصة ليست لها الطوبى، بمعنى أنه يكون إيمان بلا نتيجة ولا جزاء. لهذا أكَّد المسيح:
«ومتى جاء المعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء» (يو 26:15-27)،
وصحتها: ?وأنتم كنتم معي من البدء.? فالأُولى: «تشهدون أنتم أيضاً» شهادة؛ والثانية ?كنتم معي من البدء? معاينة، وهي أكثر من الشهادة:
+ «بل قد كنَّا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أَقـْبَـل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررتُ به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس.» (2بط 16:1-18) على أن الرب منذ أن اختار الاثني عشر، اختارهم: «ليكونوا معه» (مر 14:3) أي لينظروا مجده (يو 14:1).
والقصد من الكلام أن المسيح أرسل الروح القدس الذي من عند الآب ينبثق ليشهد للمسيح لأنه روح المسيح وروح الآب. فشهادة الروح القدس أعظم شهادة وأعظم من الرؤيا. أما الإيمان الرسولي فهو من شهود معاينين والروح القدس المتكلم فيهم، لذلك كان الإيمان الرسولي إيمان شهادة بالروح القدس ومعاينة أيضاً.
لذلك أصبح إيمان الرسل لا يضاهيه إيمان مهما كان، والكنيسة فخورة بأنها كنيسة مبنية على أساس الرسل والمسيح نفسه حجر الزاوية.
فحلول الروح القدس على الرسل حتى الملء يوم الخمسين، وهم أصلاً كانوا معاينين المسيح ومعاينين عظمته على الجبل المقدس، جعلهم أساساً للإيمان المسيحي بالدرجة الأولى.
ومن أجل هذه الشهادة أعطى الرب الرسل الاثني عشر أن يتكلموا بلغة الروح القدس التي يفهمها كل لسان وشعب وأمة على الأرض. فهي لغة الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة الناطقة بروح الله.
+ «تلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف 24:4)
+ «ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقهمجده تعالى