سَبَقَت عَينايَ الهَجَعات لِلتَّأَمّلِ في قَولكَ (مز 119 /148)
البشريّة المريضة بيت الداء و حقيقة الدواء (3) - الأرشمندريت توما بيطار
البشريّة المريضة
بيت الداء وحقيقة الدواء(3)
أوّل ما حصل، إثر السقوط، أن دخلتْ نفسُ الإنسان نطاق الموت. هذا لأنّه انحرم، بالخطيئة التي ارتكبها، من نعمة الله. الموت تأتّى من الشيطان (القدّيس إيريناوس الليّوني).
لم يعاقِب الله الإنسان بصورة مباشرة بل بصورة غير مباشرة إذ سمح له، إذا هو رغب في ذلك، أن ينفصل عنه ويُحرَم الحياة (القدّيس إيريناوس).
وهكذا بعد أن كان ناموس النعمة هو الفاعل فيه، صار الفاعل فيه هو ناموس الخطيئة (رو 7: 23). هذا صار له كَمِثْل طبيعة ثانية، منبثّاً، في صورة أهواء، في طبيعته البشريّة التي خلقه الربّ الإله عليها.
ناموس النعمة كان له، أيضاً، قبل السقوط، كمثْل طبيعة ثانية، لكنّه كان ناموساً للحياة، أمّا ناموس الخطيئة فصار ناموساً للموت. ولكن، إذا ما كانت الحياة الأبدية هبة الله، فالموت هو أجرة الخطيئة (رو 6: 23)، أي هو ما جرّه الإنسان على نفسه بالخطيئة (القدّيس يوحنّا الدمشقي).
ناموس الخطيئة، "الكائن في أعضائي" (رو 7: 23)، صار لي، إذاً، آليةً للموت. لذلك بالخطيئة دخل الموت إلى العالم (رو 5: 12).
نذكّر هنا بأنّ تحوّل الإنسان من النعمة إلى الخطيئة كان، في المستوى الوجودي، تحوّلاً من حبّ الله إلى حبّ الذات. إلى حبّ الذات صار الإنسان مائلاً، بصورة تلقائية، بعد السقوط. ناموس الخطيئة والموت، إذاً، هو، في عمقه الكياني، ناموس حبّ الذات.
آدم وحوّاء، الجدّان الأوّلان، سقطا، بدءاً، لأنّهما خطِئا. وهما خطِئا لأنّهما عصيا الله. خطيئتهما كانت عن جهل. شخصياً، تابا وسلكا، بعد ذلك، في بركة الله. إذ لمّا ولدت حوّاء صبيّاً أسمته قايين لأنّها قالت "اقتنيت رجلاً من عند الربّ" (تك 4: 1).
لذلك حُسِبا صدِّيقَين ولهما ذِكْرٌ، بين الأبرار، في الكنيسة، في أحد الأجداد، قبل عيد الميلاد.
أمّا أوّل مَن انطلق فيه فِعلُ ناموس الخطيئة واستبان لديه التعاون الواعي بين الإنسان والشيطان، باتجاه بلوَرَة الخطيئة وتحويلها إلى عالم قائم بذاته له تراثه، فكان قايين.
كِلا الأخوَين، قايين وهابيل، كانت له فرصة السلوك في وصايا الله. هابيل كان قويماً. قدّم لله ذبيحة "من أبكار غنمه ومن سمانها" (تك 4: 4).
الذبيحة لاقتناء رضى الله. وهذا يعني أنّه قرَّب من خيرة ما لديه. فنال حظوة في عيني الرب. أمّا قايين، الذي كان عاملاً في الأرض، فـ "قدَّم من أثمار الأرض [ما اتفق له] قرباناً للربّ".
فإذا لم ينظر الربّ إلى قربانه، وهو علاّم القلوب، فلأنّ قايين لم يكن سليم النيّة أمامه. وهذا استبان في أنّه قدَّم من ثمار الأرض، رخيصَها، ولم يقرِّب من بكورها وأفضلها. احتفظ بالجيّد لنفسه. استبان طمّاعاً.
ثمّ لم يتّضع قايين، وهو المفترض أن يكون عارفاً بما في نفسه (1 كو 2: 11)، ولا قال "خطئت، سامحني!" بل اغتاظ واغتمّ، إمعاناً في البِرّ الذاتي. لكنْ نبّهه الربّ الإله عسى أن يعود إلى نفسه.
لا حقّ لك يا قايين في أن تغتاظ وتغتمّ! فلو كنتَ أحسنتَ فعْلاً أفما كانت ذبيحتك قُبِلت؟ لم يتخلّ الله عن خليقته بعد السقوط. اعتنى بهابيل واعتنى بقايين أيضاً. لذلك حذّر قايينَ بكلام واضح ومعبِّر جداً: "إن لم تُحْسِن فعند الباب خطيئة رابضة وإليك اشتياقها وأنتَ تسود عليها" (تك 4: 7).
انتبه لنفسك يا قايين! الخطيئة الرابضة عند باب قلبك، والتي تتحفّز للإنقضاض عليك هي الحسد! أنتَ مائل إليها، مشتاق إليها. ولكنْ، لا زال في طاقتك أن تمتنع عنها، أن تتّضع، أن تقي نفسك شرّها. القرار قرارك أنتَ!
الخطيئة لا تفرض نفسها عليك فرضاً ولو كانت عند الباب. أنت تسود عليها وهي لا تسود عليك. فقط إذا فتحتَ لها قلبك دخلتْ إليك وفعلتْ فعلها فيك. لم ينتصح قايين بل أسلم نفسه، طوعاً، للحسد فـ "قام على هابيل أخيه وقتله".
هكذا يكون بآدم قد دخل ناموس الخطيئة، أي حبّ الذات، وأوّل ما تفعّل هذا الناموس كان في قايين إذ أفرخ حبُّ الذات، فيه، طمعاً والطمعُ حسداً والحسدُ موتاً. على هذا استبان، بإزاء ناموس الخطيئة، فريقان: فريق تَمثّل بهابيل الذي قاوم الطمع وغلبه.
نقول ذلك لأنّه لا بدّ أن يكون قد خطر بباله فكرُ طمعٍ طالما أخذ عن أبويه الميل إلى حبّ الذات. لكن هابيل قاوم الطمع وغلب فاستبان أميناً لله وبورك. هذا هو الذين عملوا الصالحات بعد السقوط وقبل المسيح.
وفريق تمثّل بقايين الذي استسلم للطمع فجرَّه الطمع إلى الحسد والحسد إلى الموت. هذا هو الذين عملوا السيئات من السقوط إلى المسيح.
ولكنْ إذا ما أمكن الإنسان، بعد السقوط، مقاومة ناموس الخطيئة فلم يكن بإمكانه، لا باراً ولا آثماً، أن يتفادى الموت.
لم تُعطَ الغلبةُ على الموت، عن تدبير إلهي، إلاّ للربّ يسوع وبه. وسيكون للأبرار، المؤمنين بالربّ يسوع، أن يقوَوا على الموت، في منتهى الدهور، إلى حياة أبدية، لأن "آخر عدوّ يُبطَل هو الموت" (1 كو 15: 26). عَامِلو السيئات أيضاً سيقومون ولكنْ إلى عذاب أبدي (مت 25: 46).
ولله في إبقاء الموت إلى النهاية، وفق آباء الكنيسة، قصد ولطف وحكمة وتدبير. فهم يوردون لذلك ثلاثة أسباب:
1. لكيما بالموت لا تكون للإثم فرصة أن يتخلّد.
2. لكيما، بمعاينة الموت، يدرك الإنسان مرضه وحاجته إلى الله ليخلص.
3. لكيما، إذا ما أَذَلّ الإنسانَ واقعُ الموت تاب إلى ربّه وتمرّس، بالتجارب، في حياة الفضيلة والكمال، فأمسى الموتُ له سبيلاً إلى الخلاص المحقّق بالمخلِّص، الربِّ يسوع المسيح، الذي لا اسمٌ آخرُ أُعطي لنا تحت السماء به ينبغي أن نخلص (أع 4: 12).
على هذا يكون الموت، من جهة الشيطان، صنيعةً للقضاء على البشريّة، ومن جهة الله تدبيراً لخلاصها من حيث إنّ المسيح وطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور.
ولكنْ، كيف استعبد الشيطان الجنس البشري بالموت؟
أوقع الشيطانُ الإنسانَ، بالحيلة، في الخطيئة / المعصية فانحسم الإنسان وانقطع عن نعمة الله.
إذ ذاك حلّ الموت. والموت أدخل الإنسان في دوّامة الخوف على الذات، والخوف على الذات دفع الإنسان باتجاه الخطيئة لأنّ الخطيئة قائمة في حبّ الذات، على قاعدة "داوني بالتي كانت هي الداء".
الخطيئة صارت له بليّة وملاذاً معاً. هكذا صار الموتُ باعثاً على الخطيئة. على هذا النحو دخل الإنسان في حلقة مفرغة: الموت يدفعه، بقوة الخوف، إلى الخطيئة من حيث إن الخطيئة هي شوكة الموت (1 كو 15: 56)، ثمّ تُعمِلُ فيه الخطيئةُ موتاً وتلقيه في الموت. حلقة الوصل بين الموت والخطيئة كانت الخوف!
هكذا استعبَدَنا الشيطان، في الحقيقة: بالخوف! من هنا قول الرسالة إلى العبرانيين عن الربّ يسوع إنّه "إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويُعتِق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية" (عب 2: 14 ? 15).
لمّا كان الإنسان مكتَنَفاً بنعمة الله كان في سلام عميق، فلمّا خسر النعمة بالخطيئة المعصية حلّ، في كيانه، الخوفُ والقلق. صار همُّه، في إطار الواقع الجديد، واقع الخطيئة والموت، حفظَ البقاء، أولاً وأخيراً.
بات، في إطار منطق الخطيئة والموت، مستعداً لأن يُخضع ذاته "لأي شيء"، بتعبير الذهبي الفم "اجتناباً للموت".
هذا جعله يُقبل على الخطيئة بالأكثر لأنّ للخطيئة، دائماً، جاذبيتها. نفسه تشتهيها لأنّها "جيِّدة للأكل وبهجة للعيون" (تك 3: 6). الخوف، في أعماقه، جعله، كيانياً، يهرب إلى الخطيئة.
لكن الخطيئة لا تروي الغليل. النعمة تروي، أما الخطيئة فتُلقي بالخاطئ، بعد متعة عابرة، في فراغ. لذلك وُجد الإنسان قايينياً ملعوناً "تائهاً هارباً في الأرض" (تك 4: 12). ولكي يُقنِع نفسه بأنّ لحياته، في هذه الخلفيّة، معنى، أخذ يُقَارب الخطيئة بتفنّن.
أعمَلَ فيها تصوّراً وتعاطاها كمَعين أحلامٍ وخيالات. إلى أرض الأوهام فرّ لأنّ الواقع المحسوس كان أقسى وأضنى من أن يتمكّن من مواجهته.
في كل ذلك لم يكن الربّ الإله بعيداً عن الناس ولا ترك نفسه بلا شاهد في كل أمّة (أع 14: 16 ? 17). كان له دائماً قطيعُه الصغير "الذين بالإيمان قهروا ممالك صنعوا بِرّاً... تقوّوا من ضعف... عُذِّبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل... جُرِّبوا... طافوا... معتازين مكروبين مُذَلِّين. وهم لم يكن العالم مستحقّاً لهم..." (عب 11: 32 ? 39).
فيما عدا ذلك، فيما عدا البقية الأمينة، كانت عبادة الله ملتوية وكذا كانت سيرة المجتمعات والعالم