إياكم أن يضلكم أحد فسوف يأتي كثير من الناس منتحلين اسمي فيقولون: أنا هو قد حان الوقتفلا تتبعوهم (لو 21 /8)
اسمَحْ لي أن أكون غير ما تظنّني! - الأرشمندريت توما بيطار
اسمَحْ لي أن أكون غير ما تظنّني!
عندما تكون عينُك على نواقص قريبك لا على نواقص نفسك، عندما يرضيك أن تَشهر عيوب إخوتك وتجد، في ذلك، مفخرة لك، حتى لا نقول تخترع عليهم عيوباً، إذ ذاك تكون في الباطل ولا تكون في الحقّ. شهادتك، لدى ربّك، تكون نقيصة وما تدين به إخوتك، عن حقّ أو عن باطل، لا فرق، تُدان عليه.
لا كذلك يسلك خائفو الله.
أحبّة الله، عينهم، بالعكس، على عيوبهم، وقريبُهم مرآةٌ تعكس نقائصهم ومعايبهم ورذائلهم.
عينهم على عيوبهم لأنّهم يعرفون أنفسهم ويهمّهم أن يعرفوا أنفسهم أكثر.
ينطلقون من مسلّمة أنّه ليست فيهم صالحة وما صالح إلاّ الله. يُهمّهم أن يعرفوا المزيد عن أنفسهم لأنّ بُغيتَهم إصلاحُ أنفسهم. ماذا ينتفع الإنسان إذا لاحظ أو عيّر أو عاب، عن حقّ أو عن بهتان، الآخرين؟
ليس فقط لا ينتفع بل يتأذّى لأنّه إذ يلهو عن نفسه ونجاسة نفسه بما للإخوة ينتفخ عليهم وكأنّه خير منهم. هذه تزيده اعتلالاً على اعتلال. تضربه بالعمى، لأن مَن ينشغل بمعاينة معايب الإخوة يعمى عن معاينة معايب نفسه.
وبالعكس، كلّما قصد المرء أن يلاحظ نفسه تعامى عن معايب إخوته. نقول تعامى لا عَمِي لأنّه يعمل، إذ ذاك، على غضّ الطرف عن مساوئ الآخرين.
والحقيقة أنّه يفعل ذلك لأنه يستعظم خطايا نفسه. خطايا الآخرين، إذ ذاك، تكون في عينيه طفيفة.
وليس ذلك وحسب بل كلّما واجه أحدنا خطيئة نفسه، بصدق وواقعية، كلّما استفظعها. وكلّما استفظعها شعر بعجزه إزاءها.
وكلّما شعر بعجزه إزاءها عرف أنّه لا نفاذ له منها إلاّ برحمة من فوق. وكلّما شعر أنّه لا نفاذ له من خطيئته إلاّ برحمة العليّ قارب قريبه، وخطايا قريبِه، بواقعية أكبر ورحمة أشدّ.
إذ ذاك ينعصر قلبه عليه لأنّه بعدما أدرك ما فعلته الخطيئة في نفسه هو بات بإمكانه أن يدرك ما تفعله الخطيئة في الآخرين.
وهذا لا يسعه، من بعد، أن يقابله إلاّ بالرأفة والرحمات لكي يكون له نصيب مع مَن قال: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم". لا أحد منّا يخلص بصلاح نفسه بل بصلاح مَن لا صالح سواه.
يخلص الإنسان إذا ما عرف خطيئته ورحم واسترحم. "الحقّ الحقّ أقول لكم إن لم يزد برّكم على الكتبة والفرّيسيّين فلن تدخلوا ملكوت السموات".
ليس فخراً لي أن أظهر أو أتظاهر كأنّي بلا عيب. علاّم القلوب يعلم أن سعياً كهذا باطل. فخري أن أعرف وأعترف بخطيئتي. "أنا قلت أعترف للربّ بذنبي وأنت صفحت عن خباثة قلبي".
فخري أن أعرف أنّه ليس فيّ، أي في جسدي، شيء صالح. ما يقدّمني إلى العليّ أن أكون وطيئاً، متواضع القلب. "القلب الخاشع المتواضع، هذا لا يرذله الله". ما يقدّمني إلى الطبيب أن أعرف أنّي مريض. لعازر، الذي أنا إيّاه، مريض.
ما يمتّعني برحمة ربّي أن أصرخ إليه كغريب: "ارحمني يا سيّد، يا ابن داود". ما يسبغ عليّ راحة من لدنْه أن آتيه كمتعَب وثقيل الأحمال، وتعبي نفسي ونفسي تقلقني وأنا أناجيها أبداً: "لماذا تقلقينني يا نفسي، توكّلي على الله لأنّه خلاص وجهي وإلهي".
ملكوت السموات يؤخذ غِلاباً، يُغتصب اغتصاباً. بكلمة، بنظرة، بحركة قلب، بنأمة تواضع. "أذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك".
أما أنا فبحقّ وعدل أصابني ما أصابني، لكنّك أنت الرحيم! أغتصبُ نفسي إليك بانكسار القلب لا بشيء آخر لأنّك أنت لا تنظر إلاّ للقلب.
كل الناس خير منّي لأن ما أعرفه، وما أُعطي لي أن أعرفه، هو نفسي. الآخرون لست أعرفهم حقّ المعرفة. أعرفهم، بعض المعرفة، من الخارج لا من الداخل، كما أعاني منهم لا كما يعانون هم من أنفسهم.
أنا أعاني من نفسي لذا في وسعي أن أعرف نفسي. لذا قلت الآخرون لست أعرفهم حقّ المعرفة. أعرفهم من خلال هواي وخطيئتي. ولا طاقة لي على معرفتهم إلاّ متى تنقّيت من خطيئتي.
إذ ذاك روحُك فيّ، يقيم فيّ، يملأني ويهبني أن أعرفهم متى تشاء أنت أن أعرفهم، حتى بغير ما يعرفون هم أنفسَهم. أعرفهم، إذ ذاك، بالحب الذي تكون قد أحببتني به وأصير أنا فيهم كما أنّك أنت أيّها الربّ يسوع في أبيك وأبوك فيك.
وحتى ذلك الحين أبقى، وتُبقيني أنت، بالرضى، في الصلاة لأجلهم. مهما عانيت منهم أضع يدي على فمي ولجاماً على فكري وأنزل بالسوط على مشاعري، فقط لأنّه لم يُعطَ لي، بعدُ، أن أعرفهم ولست قادراً على حمل حملهم ولا على رفع أثقالهم. أنتظرُ خلاصك، "وخطيئتي أمامي في كل حين".
لا يحتاج الملكوت للكثير ليُشرى. فقط حركة بسيطة في القلب ثابتة تكفي. قالت لي نفسي وتقول لي نقائصُ الآخرين كل يوم: "لا خلاص له بإلهه". "أما أنت يا ربّ فناصري ومجدي ورافع رأسي". فقط عليّ، في الشواش، أن أثبت ومَن يثبت إلى المنتهى هذا يخلص.
الخطيئة الوحيدة التي لا مغفرة لها، في نهاية المطاف، هي اليأس. كلٌّ برسم الخلاص. لذا أبدأ كل يوم من جديد. أُسامح من جديد. أستسمح من جديد. البارحة مضى. لا أحملنّ حقداً على أحد. الحقد نهايته اليأس.
لماذا لا أتطلّع إلى أخي، كل يوم، جديداً؟ البارحة كان حيثما كان. ما الذي يمنع أن يتغيّر اليوم؟ ألست أنا نفسي أطلب أن أتغيّر؟ لماذا أحمّل الآخرين وزر أمسهم؟ في الأمس نالهم ما نالهم من الجراح.
لماذا أُجرّحهم مرّة بعد مرّة وبما نالهم من جراح الأمس؟ كلٌ بحاجة لأن يتحرّر من أمسه ومن غده أيضاً. لِمَ أُثقِلُ نفسي بأحمال الأمس ولِمَ يُثقل بعضُنا بعضاً؟ ولِمَ أندفع ويدفع بعضُنا بعضاً إلى غدٍ لست أطاله مهما ركضت وراءه لاهثاً؟
لم يُعطَ لي إلاّ اليوم. هذه اللحظة بالذات. كل الخلاص مدّخر فيها. كل الحياة. كل الأبدية. لا يحتاج الخلاص لأكثر من لحظة.
تاريخ المؤمن لحظات. إن لم أعرف السيّد الآن فلست أعرفه. البارحة فات ومات. كل لحظة إضافية تُلغي الماضي. المهم ما أفعله الآن. يؤخذ الإنسان بالحال التي يوجد فيها الآن.
ولو تعبتُ البارحة لا أنتفع شيئاً إن استرخيت في اللحظة التي أنا فيها. مَن كان معافًى البارحة لا يكون معافًى اليوم إذا مرض.
المهم أن أحفظ نفسي اليوم بتوبة، باسترحام، برحمة للإخوة، بالنظر جديداً إليهم. لست ألتمس غير أن أكون حرّاً، من بارحة نفسي ومن غدها. ما أسأت به في الأمس أسأل الصفح عنه ولا أحلام غدٍ لي. يكفيني، سيِّدي، أنّك أعطيتني أن أدخل إليك من الباب الضيِّق، باب اللحظة التي أنا فيها. ما أسأت بالأمس أستسمحك عليه اليوم، وغدي أنت كافله إذا ما أعطيتَه لي.
لا أرغب سوى في أن أكون حرّاً، في أن أحبّ في هذه اللحظة اليوم وغداً. بعد ذلك لا يعنيني أن لي ماضياً ولا أنّه لي حلمُ غدٍ. يكفيني أن أطأ الأبدية الآن ومنذ الآن.
فقط أعنّي على نفسي وأعن إخوتي عليّ أيضاً. كلّنا كغنم شردنا وأنت وحدك راعي نفوسنا. لتكن يا ربّ رحمتك علينا كمثل اتكالنا عليك