"لا تُفكروا بالغد، فالغد يهتم بشأنه" (متى 6/34)
سمات من أخلاق الله - الأرشمندريت توما بيطار
سمات من أخلاق الله
الأخلاق موضوع إنساني. فقط نتكلّم على أخلاق الله من باب الاستعارة. والمقصود هو كيفية تعامل الله مع الناس. طالما هناك تعامل بين طرفَين فهناك أخلاق تحكم هذا التعامل.
أولى سمات الله أنّه محبّ. كل شيء فيه محبّة. كل ما يصدر عنه فعل محبّة. لذلك ليست اللامبالاة من أخلاق الله ولا الأذيّة ولا الانتقام ولا الظلم. صحيح أنّه لا شيء يحدث لنا وللعالم من دون سماح الله، لأنّه الضابط الكل، ولكن ليس الله هو مَن يؤتينا الآلام والويلات.
حتى حين يتكلّم العهد القديم على غضب الله أو على انتقامه فما ذلك إلاّ من قبيل التعبير البشري الفظّ عن ترك الله لنا وشأننا بعدما نكون قد أصررنا على اتّباع طرقنا من دونه.
خطايانا، إذ ذاك، تنتقم منّا، وتأثيرها يكون كالغضب الساطع فينا لأنّ ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد. نسبة الرزايا إلى الله، إذاً، غير محقّة. نحن مَن يؤذي نفسه والآخَرين. مصيرنا في يدنا. نحن نقرِّره بإرادتنا. والله يحترم رغبتنا لأنّه خلقنا أحراراً لا في قفص. نفعل الشيء أو نفعل عكسه. هذا رهن بنا.
ولكن بسبب طبيعة تركيب الناس، وتماسك الجنس البشري، قراراتنا لا تؤثّر فينا وحدنا بل في الآخَرين أيضاً. ليس أحد منا جزيرة. الخير ننفع به الآخَرين، عن وعي وعن غير وعي، وكذلك الشرّ، نؤذي به.
في الدينونة العامة سيكتشف كل منّا أنّ هناك جمّاً من المساوئ تسبّبنا به ما كان ليخطر لنا ببال.
إذاً، الله غير مسؤول عن الشرور التي اقترفها ويقترفها الناس. الإنسان خلقه الله للمحبّة، فإذا لم يُحبب فهذا منه لا من الله.
وما يتأتّى عن ذلك منه لا من الله. ثمّ الله لا يفرض نفسه ولا أخلاقه على أحد. "مَن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه كل يوم ويأتي ورائي". محبّة الله وأخلاق الله معروضة للناس، لخيار الناس، إذا رغبوا فيها.
يقبلونها أو يرفضونها. طبعاً، أنا عارف أنّ الله قادر على كل شيء! فلعلّك تقول لي: "لماذا لا يتدخّل، إذاً، ليمنع الظلم ويضع حدّاً للحروب؟" الله يتدخّل، ويتدخّل في كل حين. "أبي، إلى الآن، يعمل وأنا أعمل".
لكنّه لا يتدخّل بالطريقة التي نرغب نحن فيها. لله منطق غير منطقنا. "طرقي ليست طرقكم يقول الربّ".
نحن محكومون بأنانياتنا الفرديّة والجماعيّة، فيما الله يتحرّك بقوّة المحبّة. المظلوم يريد الله أن ينصره على الظالم والفقير على الغني. يستعمل الظالمُ الله ليبرِّر ظلمه ويحاول الغني شراءه لحماية ثروته. كلٌّ يريد الله لنفسه على الآخَرين.
الإله الذي يرغب فيه الناس، بعامة، أو نريده أن يكون إلهاً لنا، لا يتطابق والإله الحقيقي. الإله الذي يرغب فيه الناس، بعامة، هو إله على صورة أهوائهم وأخلاقهم. يرومون صنماً لا إلهاً. نحن نحبّ أقرباءنا، أو مَن نعتبرهم أقرباءنا، ونبغض أعداءنا.
أما الله فأخلاقه تحدوه إلى محبّتنا وإلى محبّة أعدائنا سواء بسواء. يحبّ الظالم ويحبّ المظلوم. يحبّ الغنيّ ويحبّ الفقير. طبعاً هو لا يحبّ ظلم الظالم. لذلك يميِّز بين الإنسان وما يعمله. الظلم عنده مرض والظالم مريض.
وهو لا يشاء موت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا. على هذا يتدخّل، بطرق هو يعرفها، ليصلح نفس الظالم والمظلوم معاً. المرض الذي يصيب الظالم هو قهر الناس لأنّه، في قرارة نفسه، يخشاهم. والمرض الذي يصيب المظلوم هو النقمة أو الخنوع لأنّه، في قرارة نفسه، حاقد على ظالمه.
هو يصرخ العدالة لأنّه في موقع المظلوم، ولكن لو تسنّى له أن يتحرّر من نير الظلم عليه لاستبان، بيسر، مستعداً لأن يظلم سواه، إما انتقاماً، وإما لنفس الأسباب التي جعلت الظالم ظالماً.
الواقع المأساة في معظم الحالات أنّ القلب ساقط لدى الظالم والمظلوم سواء بسواء. في قرارة نفسه، كلا الظالم والمظلوم ظالم. نيّته غير سليمة. قلبه غير محبّ.
لذلك جواب الله على مآسي الإنسان غير جواب الإنسان على مآسي نفسه. مأساة إسرائيل، وهذه صورة عن الإنسان بعامة، لم تكن أنّها لم تُردْ إلهاً بل لأنّها أرادت إلهاً ينصرها على أعدائها. لذلك صلبت إسرائيلُ مسيحَها.
الربّ الإله أراد أن ينصر إسرائيل ولكن لا على أعدائها بل على نفسها. عدو الإنسان، في الحقيقة، ليس الإنسان الآخَر. ليس أحدٌ صالحاً. عدوّ الإنسان نفسُه، أن موقفه من الإنسان الآخَر فاسد. لا تصطلح الدنيا إذا أزلت عدوّك لأنّك لست خيراً من عدوِّك.
المسألة مسألة مواقع تلوِّن النفسيّات. في العمق، علّة هذا وذاك واحدة. تصطلح الدنيا متى أصلحت موقفك من عدوِّك. لذلك أعظم الوصيّة وأعظم الدواء للبشريّة هو هذا: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم". متى تنقّت أحشاؤك، بنعمة الله، تكون قد شُفيت من علّتك وكذا غريمك.
هذا ما يشاؤه الربّ الإله لك ولغيرك علاجاً. ولا بشكل من الأشكال يقبل الأكثرون حلاًّ كهذا! لماذا؟ لأنّ خطيئتهم أعمتهم!
والحقيقة أنّ تدخّل الله في حفظ العالم أمر يقيني وإلاّ ما كان ثبت العالم إلى الآن. الإنسان قادر أن يدمِّر الأرض بشروره لو تُرك وشأنه. لكن الله لا يسمح لشرور الإنسان أن تزيد عن حدّها. هذا يفعله الربّ الإله لا لأنّ الظالمين يصلّون إليه ولا لأنّ المظلومين يبكون لديه.
لا هؤلاء، بعامة، دموعهم نقيّة ولا صلاة أولئك. الله يحفظ العالم استجابة لصلوات الذين يحبّونه ويتخلّقون بأخلاقه. إلى هؤلاء، إلى القدّيسين، في الحقيقة، يعود الفضل في استمرار الحياة على الأرض.
هؤلاء يصلّون أبداً من أجل سلام كل العالم. وصلاتهم يسمعها الله ويستجيبها لأنّهم هم يسمعون كلام الله ويحفظونه. عمل القدّيسين، بالدرجة الأولى، هو حفظ العالم وهدايته. هم نور العالم. لذلك الوصيّة الأخيرة للتلاميذ كانت: "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به..." (متى 28).
"مَن سمع منكم فقد سمع منّي ومَن رذلكم فقد رذلني" (لو 10: 16). "مَن آمن واعتمد خلص. ومَن لم يؤمن يُدَنْ" (مر 16: 16).
في أول الخليقة أخذ الربّ الإله آدم ووضعه في جنّة عدن ليعملها ويحفظها (تك 2: 15).
الذين يعملون الأرض ويحفظونها هم القدّيسون. هؤلاء يملكون الأرض لا بالعنف بل بالوداعة. لذا قالت التطويبة الثالثة: "طوبى للودعاء لأنّهم يرثون الأرض" (مت 5: 5). ليس هذا كلاماً عن الآتي بل عمّا هو حاصل هنا والآن. هؤلاء هم الذين يحكمون من لدن الله. غيرهم يهدّد العباد والأرض وهم يحفظونها.
غيرهم يستعبد بالباطل وهم يحرِّرون بالحقّ. يفترون عليهم كأنّهم مُضِلّون وهم الصادقون. لا يقيم لهم الأقوياء في هذه الدنيا وزناً وهم، عند ربّهم، المعروفون. يُعامَلون كمجهولين، كمائتين وهم الأحياء الحقيقيّون. يَبدون، في الأرض، كأنّهم الحزانى وهم دائماً فرحون. كفقراء وهم يُغنون كثيرين. كأنّ لا شيء لهم وهم يملكون كلّ شيء (2 كو 6).
هؤلاء هم ملح الأرض: المتخلِّقون، أبداً، بأخلاق ربّهم! القدّيسون!