و ليُسر بِكَ و يَفرَحْ جَميعُ الَّذينَ يَلتَمِسونَكَ و لْيَقُلْ دَومًا مُحِبّو خَلاصِكَ: اللهُ عَظيم. (مز 70 /5)
المؤمن و التقوى - الأرشمندريت توما بيطار
المؤمن والتقوى
التقوى موقف كياني. أعمق من الفكر وأعمق من الشعور. موقف وجداني يشتمل الإنسان كلّه من الداخل والخارج. إحساس عميق ثابت بالحضرة الإلهية وميل تلقائي إلى التحرّك، في الفكر والشعور والسلوك، بوقار ومهابة، حيال الإلهيّات، في كل تفصيل.
التقيّ يَختبِر، في كل حين، القولة "حيّ هو الله الذي أنا واقف أمامه". وله موقف واعٍ منها عبَّر عنه المرنِّم في المزمور الخامس عشر بالقول: "جعلت الربّ دائماً أمام عينيّ" (الآية الثامنة).
التقوى نقتنيها من معاشرة الأتقياء ويرتشفها الأولاد من والديهم وأوساطهم إذا ما كانت على تُقىً. الأمانة، في حفظ الوصيّة، أيضاً، تعلِّم التقوى. روح الله، إذ ذاك، يكون المعلّم وفق القول الإلهي: "ويكون الجميعُ متعلّمين من الله" (يو 6: 45).
التقوى هي البنية الروحيّة التحتيّة لكل تعليم مسيحي، لكل عمل محبّي، لكل شهادة إيمانية حقّ. من دون تقوى تستحيل العقيدة شعارات جوفاء، نظاماً فكرياً مجرّداً، وتستحيل العبادةُ طقوساً صمّاء، وكلُّ فعلٍ، نزعم أنّه فعلُ محبّة، عملاً اجتماعياً بحتاً.
التقوى هي العصب الإلهي الحيّ فينا للسيرة الإيمانية الشخصية. إنْ يقرأ القارئ الكتب الإلهية، بما فيها الكتاب المقدّس، بلا تُقىً، يجعلْها مِضغةً لأهوائه لأنّه يتعاطاها كأفكار، برسم التحليل وكلّ تصوُّر ذاتي، لا كحضور إلهي، كجثّة مستباحة للتشريح، لا كجسد حيّ.
لا شكلية ولا عقلانية في التقوى.
في أوساطنا كثيراً ما يستخفّ ويستهجن قوم ما يسمّونه "تقويّات". لست مدركاً، تماماً، مدى ما يقصدون. إذا ما كانوا يقصدون التقوى الشكلية التي لا جذور لها في عمق النفس فهم مصيبون.
خشيتي أن يكون طعنهم بالمواقف التي تعبِّر عن تقوى لا يبدو كأنّ لها مضموناً فكرياً واضحاً بل تَمْثُل على سذاجة تبدو لناظرها كأنّها خرافيةٌ وهميّةُ الطابع. مثلاً إذا ما كنتَ جالساً على الأريكة وبإزائك إيقونةٌ للسيّد، فهل امتناعُك عن مدّ رجليك باتجاه الإيقونة تقوى أم تقويّة؟
كذلك إذا ما امتنعتَ عن جعل الكتاب المقدّس بين الكتب العادية، أو إذا تحفّظتَ في جعل كتاب عادي على الكتاب المقدّس، فهل في تحفّظك تقوى أم تقويّة؟
لعمري إن بعضاً من التحديد لمعنى "التقويّات" ومداها لازم لئلا يوجد مُصدِرُ الأحكام مُعَقْلِناً لما هو أعمق من العقل ولو استبانت تعابيرُه على بساطة تبعث على التسآل أحياناً.
توضيحاً للصورة نورد ملامح من تقوى الشيخ بائيسيوس الآثوسي كما وردت في الكتاب الذي ظهر حديثاً عنه والذي وضعه الأب إسحق الآثوسي. كان يقيم للتقوى موقعاً بارزاً في سلّم الفضائل حدا به إلى القول: "التقوى أهمّ الفضائل لأنّها تجلب نعمة الله".
التقوى عنده داخلية، نابعة من القلب ويرفض الأشكال الخارجية التي بلا إحساس. يميِّز بين التقوى والطقوس. كان ينتبه إلى التفاصيل. التقوى وِقفة أمام الله لا يطلبها التيبيكون بل استعدادُه الداخلي. الملائكة يعبدون ليلاً ونهاراً وحياة الشيخ معطَّرة، عميقاً، بالتقوى.
عندما يدخل إلى الهيكل يسجد إلى الأرض. ينزع السكوفا عن رأسه. عند مناولة القرابين يسجد سجدات كبيرة. يصوم ثلاثاً وثلاثين ساعة قبل المناولة الإلهية.
التقوى، في فهمه، تصون الإنسان من الأخطاء. في الترتيل وكتابة الإيقونات كان مقياسه التقوى أكثر من الفنّ. عنده أنّ الإيقونات المصنوعة بتقوى تحمل نعمة خاصة تغيِّر نفوس الكثيرين. وربما كان بعض الإيقونات عجائبياً بفعل تقوى الذي صنعها.
النعمة الإلهيّة لا تقرب الإنسان العديم التقوى بل تذهب إلى الذين يكرّمونها. روى أنّ واحداً تسلّط عليه الشيطان في اليوم الذي ساهم فيه القدسات لأنّه تفل في موضع الأوساخ. لم يكن يعتبر صحيحاً تسمية الآباء القدّيسين باسيليوس وغريغورس وسواهما مجرّد آباء. علينا أن ندعو الآباء القدّيسين آباء قدّيسين. كان لا يقبل أن نقدِّم لله شمعاً فاسداً ولا زيتاً نباتياً ولا زيتاً من نوع سيّء بل الأفضل.
وأيضاً في الصلاة أن نقدِّم قوّتنا. من المناسب، عند اللزوم، أن نقطع كيلومترات لنجد قربانة جيِّدة للذبيحة الإلهية. والقربانة كان يمسكها من الأطراف ولا يلمس الطابع. بداعي محبّته الكبيرة كان يقدِّم لله الأفضل ويتصرّف لديه بدقّة وحسّ روحي مع تقوى، وكان الله يسكب عليه نعمته الغزيرة.
إذاً، بالمعنى الذي أبنّاه للتقوى، كلُّ مواقفك من نفسك ومن الناس والموجودات يكون باعتبار تقواك. لا تنظرُ في وجوه الناس لحماً ودماً وأفكاراً ومشاعر بل مرآة ربّك. لا تتعاطى شيئاً في ذاته، لا الطعام ولا الشراب ولا اللباس. الأشياء تحسبها مطارح للحضرة الإلهيّة. لا شيء ينأى عن ربّك في عينك إلاّ الخطيئة. فيما عداها الكل لله وفي الله. "الكلّ به وله... وفيه يقوم الكلّ" (كو 1: 16 ? 17).
إذاً لا تتعاطى شيئاً إلاّ كمحطّ لله، كخلفية لإقامة الله لديك. من هنا أنّ التنشئة عندنا، في الكنيسة، هي، قبل كل شيء، على التقوى. غير صحيح أنّ الأزمة العميقة، في كنيستنا اليوم، هي أزمة جهل للناس بما في الكتب. لا شكّ أنّ ثمّة أزمة على هذا الصعيد. لكن أزمتنا الكبرى، بالأَولى، هي أزمة تقوى. تراث التقوى، لدينا، تآكَل. لم تعد لنا مواقع كثيرة نأخذ عنها التُقى.
البيت المسيحي يَفرغ من إرثِ تقوى الأجيال المبارَكة التي سبقتنا. والرعيّة قِبلتُها، اليوم، بالأحرى، التعليم بما في الكتب والأنشطة الكنسيّة والطقوس والأخلاقيات. الهمّ في الكنيسة، حاضراً، بالدرجة الأولى، هو كيف نعدّ كهنة متعلّمين. موضوع التقوى، بعامة، مسيَّب. قلّما يُشار إليه كأساس للسيرة القويمة والنهضة في الكنيسة.
إذا ما كان لديك كاهن متعلِّم، ولمّا تبالِ بتقواه فالأغلب أن جلّ ما سينشغل به هو التنظير في شأن التقوى. لكن التقوى، تنظيراً، خطاب فكري. طبعاً الفكر يضيء الفكر، فيما تبقى السيرة، بالأكثر، خالية من التقوى. لا تنقدح النفس بالتقوى إلاّ إذا عاشرت الأتقياء. ثمّ متى خَبِرَ القلبُ التُّقى طلب الحضرة الإلهيّة في كل شيء بما في ذلك الكتب. الأتقياء يلتمسون التأدّب بالكتب الإلهيّة تلقائياً. ينجذبون إليها بالمحبّة لمَن يتمثّل فيها. أما الخالون من التقوى فإنّهم ولو عاشروا الكتب فقلّما تأتي المصنّفات بهم إلى التقوى.
بالعكس تمسي المعارفُ الكتبيّة، أحياناً كثيرة، لديهم، بديلاً عن التقى، ويمسي الانطباع أن معرفة ما قيل في شأنها معرفةٌ بها. وهذا وهم وشطط كبير.
سأل أسقف روسي، مرّة، الأب الشيخ بائيسيوس الآثوسي: طلاّب الكهنوت كُثُر لديّ. كيف أختار منهم مَن هم الأوفق للخدمة؟ فأجابه: "اختر الأنقياء والأتقياء!" لم يقل له اختر المتعلّمين. وليس هذا لأنّ المتعلِّمين وغير المتعلِّمين يستوون بل لأنّ رأس الكلام التّقى وكل شيء، بعد ذلك، يتبع. طالما الهمّ في كيفية تعهّد الأدمغة دون الكيانات فإنّنا نبني لأنفسنا، في الكنيسة، آباراً مشقّقة لا تضبط ماء. نبحث عن الماء في الصحراء. ما لم يتركّز همّنا، في الكنيسة، في اقتناء التقوى فإنّنا نخبط خبط عشواء مهما أتينا من أعمال.
ثمّ الواقع، الذي نحن فيه اليوم، يجعل أنّنا لو ابتغينا النهضة الحقّ لكان علينا أن نتربّى، من جديد، على أيدي الآباء الرهبان، بخاصة، وكذا على أيدي الأتقياء من الأساقفة والكهنة والعامة. نلتمس عِشرة هؤلاء دون أن نتخلّى عن التأدّب بما في الكتب حتى تكون كتُبيَّتُنا، كنسياً، هادفة.
فقط إذا ما التمسنا عِشرة الكلمة المقروءة والمسموعة في إطار العبادة بالروح والحقّ، في إطار مخافة الله، في إطار الأمانة لله، في إطار التحرّك، كما في حضرة الله، بإزاء كل فكر وقول وعمل، فقط إذا ما التمسنا عِشرة الكلمة في هكذا إطار يستقيم سعيُنا ونأتي إلى نهضة قياميّة حقّانية.
بغير ذلك نبقى ساعين وراء سراب!