Skip to Content

الحقّ - الأرشمندريت توما بيطار

 

 الحقّ

 

 كلّ الناس يدّعي الحقّ. ولا واحد، إلاّ التائب، متى كان في الباطل، قال: "أنا في الباطل!" كل يتظاهر بالحقّ. كأنّه على حقّ. حتى إبليس يتجلبب بالنور، ادّعاءً، لأنّه يعرف أنّ مَن هم بإزائه قلّما يستسيغون، عن وعي، الإقامة في الظلمة.

مشكلة الناس ليست أنّهم لا يريدون الحقّ بل أنّهم يحسبون الحقّ باطلاً والباطل حقّاً لأهوائهم. لذا قلّة تقيم في الحقّ الحلال وتثبت فيه. والسبب أنّ الحقّ مكلف. هذه الكلفة بالذات هي المحكّ. الثمن هو ما يحدّد ما إذا كان أحد في الحقّ أم في الباطل.      

لو كنتَ موظّف محاسبة، فقط إذا كنتَ متمسِّكاً بالأمانة لعملك، وإن سعى موظّف أرفع منك لأن يستميلك إلى اللعب بالأرقام، جنياً لربح حرام، وتهدّدك بتعطيل ترقيتك إن لم تفعل، فقط إذا ما ثبتَّ في الأمانة، ولمّا تبالِ، أقمت في الحقّ. قد تضغطك ظروفك. لك عائلة. ابنك في الجامعة. ابنتك بحاجة لأدوية مستديمة. عليك ديون ينبغي تسديدها في أوانها. وأنت بحاجة للترقية لتحصل على زيادة في المعاش.

قد يخطر ببالك، تبريراً، أنّ كل الناس يغشّون ويكذبون أو أنّ صاحب العمل يستغلّك. كأنّك إن غششت انتقمت. مهما كانت الأسباب لا ما يبرّر الباطل تحت أي ظرف! كلّ إناء ينضح بما فيه.

مهما كانت مكتسبات الحياة ثمينة يبقى الحقّ أثمن. وحده الحقّ يبرّر الوجود أينما كان وكيفما كان.      

مِن غير الحقّ مبرِّر وجودك وعملك كإنسان ينتفي. من دون ضياء الحقّ الإنسانُ تراب ورماد مجبولان بظلمة الأهواء. وقد تجد نفسك مكشوفاً. قد لا تكسب مادياً. قد تُطرَد من العمل لأنّ الموظّف الأعلى منك كلمتُه مسموعة ولا يتورّع عن تدبير المكائد لك ولغيرك. ماذا إذاً؟!

للحقّ مصلوبيّته. لكنّك إن أعليتَ الحقّ وتمسّكت به وغِرت له تستنزل رحمات الله عليك. الحقّ، لدى الله، ولا أعنف في اختراق الحجب السمائية.      

الملائكة، أنفسهم، إذ ذاك، يأتونك خدّاماً. الخليقة كلّها، بنعمة ربّك، تصير رهن بنانك. هذا كلّه تختبره، تعيه أو لا تعيه، في سرّ القلب. أنت لا تعرف ماذا ينتظرك. أنت لا تسلك في الأمانة، في كل حال، لأنّك تنتظر من العليّ أجراً. هذه شيمة الأجراء.

مثل هؤلاء لا يطول بهم المقام حتى يخوروا. الحقّ نَفَسٌ إلهي. ريح تنفخ في الصدر وتستقرّ في الكيان. تكون كالنار فيك إنْ عرفتَها. يصحّ عن الحقّ الإلهي ما قاله إرميا النبيّ ذات يوم: "إن قلتُ سأكفّ عن ذكره ولا أتكلّم باسمه بعد، صار كلامه في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فأعياني كتماني وعجزت عن كبته" (20: 8 - 9).

 لذا الحقّ هو القيمة. هو المكافأة إن سلكتَ فيه والضنكُ إن خالفتَه بعد ذوق. الطوبى تلقاها في مستوى الكيان أولاً. ثمّ، إلى الحقّ، بعد أن تكون قد أعطيت للحقّ كل الحقّ، يعطيك ربّك كل ما تحتاج إليه زيادة. يتّخذك بالكامل. يتعهّدك. فقط إذا آمنت تعاين مجد الله. ما لم تره عين ولم يخطر في بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبّونه. هنا وهناك! لا تظنّ أنّ ربّك يعدك فقط بما هو هناك، ما بعد الحياة على الأرض، بل يعطيك ما هو هنا أيضاً، برهاناً على صدقيّته وعلى ما هو هناك.      

ليس إلهك منظِّراً. واقعية الله، حسّياً وروحياً، أعمق وأرسخ من كل واقعية. تأخذ مائة ضعف، حلالاً، في هذا الدهر، بالبركة، وفي الدهر الآتي حياة أبدية. لا تخف! كل حاجاتك مأخوذة في الاعتبار سلفاً عند ربّك. الخوف إن استسلمتَ له أذبل فيك الإيمان وقتل عمل الله.

إيمانك بالله لا ينفعك إن لم تجسّده في محبّة الحقّ، في الإخلاص للحقّ، في الغيرة للحقّ، في الاعتراف بالحقّ كيفما أتاك، في التضحية من أجل الحقّ.      

لا الصوم ولا الصلاة ينفعانك إن لم تسلك في الحقّ كل يوم. الصوم والصلاة ينفعان طبعاً، ولكنْ في الحقّ لا في الباطل أو في أنصاف الحلول، أي إذا ما كنت أميناً للحقّ بالكامل، في مسعاك.      

على هذا، المحكُّ في الحقّ أن تتمسّك به مهما كلّفك. إرميا النبيّ عظّمه ربّه لأنّه لم يحد عن كلمة الحقّ قيد أنملة لينجّي نفسه. هدّده مواطنوه، رجال عناثوث. ألقاه الرؤساء، بموافقة الملك، في جبّ موحل ليموت. عنّفوه فكانت كلمة الحقّ فيه أعنف. رغم كل شيء لم يلن ولا تراجع. كلمة الربّ له كانت هذه: "لا تخف من حضرتهم... ها أنا قد جعلتكَ قويّاً... لتجابه كل أهل الأرض... فيحاربونك ولا يقهرونك لأنّي أنا معك" (1: 17 ? 19).

هذا الكلام، بإرميا، هو لكل مَن ثبت في الحقّ. ويوحنّا السابق المجيد شهِد له الربّ بأنّه أعظم الأنبياء لأنّه امّحى بإزاء الحقّ. قال لهيرودوس قولة، وثبت عليها حتى الموت: لا يحقّ لك أن تكون لك امرأة أخيك. ودفع الثمن. سجنه وقطع رأسه. ماذا إذاً؟! الأهم أنّ رأس الحقّ بقي مرفوعاً فيه ورأس الباطل انقطع في هيرودوس. هكذا جعل روح الربّ يوحنّا لنا معلّماً على مدى الأجيال، فيما قضى هيرودوس في باطله.

الحقّ يستأهل! أنت محبّ للحقّ إن تفوّهت به في أحلك ظرف، في وجه الغنيّ ولما تخشَ خسراناً. "لتكن فضّتك معك للهلاك..." (أع 8: 20). أنت محبّ للحقّ إن جاهرتَ به في حضرة المقتدر ولما تبال حرماناً من حظوة أو انتقاماً. أنت محبّ للحقّ لو تمسّكت به وسخر الناس منك أجمعون وقالوا عليك: "غبي، جاهل!" حين يأتيك الحقّ ولا تؤدّي عنه ثمناً من لحمك يكون، بالأكثر، في معرض الهوى والباطل!      

ولا تحسب الحقّ أن تتكلّم في الإلهيات أو تتعاطاها وحسب. حتى إن لم تعرفْ يسوع وجهاً لوجه يعرفك. فلو عرفت الحقّ دنوتَ منه. في أي مجال كنتَ، في أية بيئة، في أي زمان، لا فرق. قريباً مما هو، في الاعتبار، الكنيسة، أو بعيداً. ما دمت تتعاطى الحقّ فأنت من يسوع على قاب قوسين وأدنى.

في الاجتماع، في السياسة، في الاقتصاد. في كل قطاع. ومتى تجلّى لك عرفته لأنّه فيك وأنت لا تدري. وحده الحقّ يبرّر ويغفر الخطايا لأهل السياسة. ولو زادت خطاياهم على رمل البحر في سابق عهدهم، إن أتوا إلى معرفة الحقّ وقالوه واستماتوا من أجله ولمّا يخشَوا طغياناً أو إرهاباً فإنّهم يمسون آنية لروح الربّ، في عداد الأنبياء بمعنى.      

لكنْ، حاذر! هذا لا يقبل الزيغ. سهل أن ترائي. سهل أن تقدّم في السرّ أو في العلن أنصاف حلول. لكنّك، في حقيقتك العميقة، إن تمسّكت بالحقّ بأمانة، بغير مواربة، سرى فيك نَفَس يسوع. أوليس هو الحقّ؟ أوليس كل حقّ إليه؟ بارتشافك الحقّ، بشوقك إليه، بسعيك، بأمانتك تستدعي السيّد. ولو كنتَ لا تعرف من الإنجيل ولا كلمة يصير فيك قُبسٌ من الإنجيل ما دام الإنجيل خارجاً من فِيه يسوع وأنفاسه. السيّد، إذ ذاك، مبلِّغك الكلمة، بالأكثر، بطريقة أو بأخرى. هو يبثّ فيك حضوره الفائق على الكلام حتى بلا كلام!      

واعلم أن مصلوبية الحقّ، في هذا الدهر، مردّها أن أكثر الناس، ولو كان لهم، بالفطرة، إحساس بالحقّ فإنّهم مؤثرون أهواءهم ولا يستسيغون الحقّ بعدُ. لذلك الحقّ على الأكثرين ثقيل. يحاولون، أبداً، أن يقمعوه، أن يشوِّهوه، ليوافق مراميهم.

لذا المتمسّكون بالحقّ يُضطهَدون. لا بدّ للحقّ، في هذا الدهر، من أن يبقى مظلوماً. لكنّه باق علامة حياة، علامة ضمير. له دائماً شهود حتى في أحلك الظروف. لم يترك الله أمة، ولا في زمن، بغير شاهد. الحقّ يأتيك التماعات.

وحسب الشهود أن يشهدوا بغير عنف، بالكلمة، بالموقف، بالاحتجاج، بكل تعبير يبلِّغ الرسالة ولا يقمع أحداً بالقوّة.      

القوّة، في هذا الدهر، تقتل الحقّ. الحقّ خروف أبداً. ذبيح. يُذبَحُ ولا يَقتل. لأنّه يحبّ. حتى عدوّه يحبّه. لا يحضر الله في الزلزلة بل في النسيم العليل. وحده الحقّ يخاطب القلب همساً وسرّاً. فيما عداه كل هوى يأتيك إرهاباً. الحقّ تقبله والعنف ترضخ له.

الحقّ باق لأنّه الأدنى إلى قلب الإنسان، بل في القلب، والعنف تسلّط من الخارج يزول متى زالت أسبابه. لذا كان الحقّ، في الوجدان، إلى الأبد.

"هذا هو حَمَل الله الرافع خطيئة العالم!"

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +