رَجَوتُ الرَّبَّ رَجاءً فحَنا علَيَّ و سَمعِ صُراخي ( مز 40 /2)
التي لكَ مما لكَ - الأرشمندريت توما بيطار
التي لكَ مما لكَ
"فإنّه منعمٌ على غير الشاكرين والأشرار" (لو 6: 35). كل ما يعطيه الله نعمة لا أَجْرٌ. النعمة مجّانية. ليس أحدٌ مستحقاً. الله يعطي لا لأنّنا مستحقّون بل لأنّه صالح.
وعلامة صلاحه أنّه "يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويَمطُرُ على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45). ليس الفضل لمَن يشاء ولا لمَن يسعى بل "لله الذي يرحم" (رو 9: 16). نحن نسعى لا لتكون لنا المكافأة.
هذه شيمة النفعيِّين. ليس عند الله شيء يعطينا إيّاه. يعطينا نفسه. نسعى ليكون لنا المسيح. بغير كلام، نسعى لأنّنا نطلب أن نُحِبّ. في مقابل إعطاء يسوع ذاته لنا: "خذوا كلوا، هذا هو جسدي، اشربوا منه كلّكم، هذا هو دمي..."، لا شيء نعطيه. نعطي ذواتنا.
"أعطني قلبك يا بنيّ. "إذاً يسوع معلِّمنا أن نعطي ذواتنا له، لله، بالحبّ. "تعلّموا منّي...".
ومحبّة الله تظهر، بخاصة، في الخاطئ. في غير الشاكرين والأشرار. الله يحبّهم رغم كل شيء. لا يحبّ جحودهم ولا شرّهم. هذه مسألة تقع في خانة العلاج. الخاطئ مريض والخطيئة مرض. الخاطئ بحاجة إلى عناية لا إلى إعراض.
وأول العناية أن تحبّ الخاطئ رغم كل شيء. لا بالكلام بل في القلب. هذه معركتك. أن تقوى على نفسك. على كل فكر يُقصي أخاك عنك. ليست مشكلة في العالم إلاّ وتنبع من ههنا: موقفك من أخيك في العمق! تؤاخيه في الحقّ في كل حال. المشكلة ليست في أخيك. ما تعانيه من جهته يعانيه أخوك من جهتك أنت أيضاً. لا تبحث عن العلاج في أخيك. لن تتوصّل إلى نتيجة.
اعرف نفسك وعالج نفسك تجدْ أخاك أحلى لأنّ نفسك تكون أنقى. الجمال ليس فيه بل فيك وأنت تضفي به عليك من فيض قلبك. هكذا الحال بالنسبة لأخيك من جهتك. فقط إن فعلت ذلك يمكنك لا أن تنفع نفسك فقط بل أخاك أيضاً، إذا ما أراد أن ينتفع. الإصلاح قدوة. قدّم نفسك برهاناً، بكلام ومن دون كلام.
يسوع قدّم نفسه قدوة. بلا خطيئة كان في تعامله والناس. لكنّه قال في آن: "إن أراد أحد أن يتبعني...". هذا رهن بإرادة كل واحد منا. الخلاص لا يُفرَض. يؤخذ أو لا يؤخذ. المهم أن يكون ما يراه أخوك فيك أميناً لله، مطابقاً لله قدر طاقتك. الكلام أحياناً لا ينفع. الإنسان قد يسمع لكنّه، على نحو غير منظور، يقيس الكلام على واقع المتكلِّم. لذا الكلام ينفع إذا كنت على قامة الكلام وإلا فالكلام في فيك يدينك ويشكِّل لأخيك معثرة. من هنا قول آبائنا: لا تعلِّم ما لست تعمله.
أقلّه لا تعلِّم ما لا تخوض فيه. لقد بتنا في التجسّد. ليس يسوع كلمة الله وحسب بل الكلمة المتجسِّد أيضاً. كل ما قاله فعله وما فعله كان على ما قاله. ما لم يتركّز سعينا في تجسيد ما نعرف ولو اعترفنا بتجسّد الكلمة بالأقوال نكون قد أنكرناه بالأفعال.
لذا لا نمتدّ صوب الأشرار وحسب بل ننعم على الجاحدين أيضاً لا لسبب إلاّ لأنّ يسوع فعل كذلك. الجدّة أن نصير على مثال آدم الجديد.
وقال أيضاً: "أحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً" (لو 6: 35). لا نحسن فقط ونحن لا نطلب شيئاً، بالأحرى لا نرجو شيئاً. المحبّة مبادِرَة لكنّها لا تطلب ما لنفسها.
طالما أنت تؤمِّل النفس ولو بالقليل ففي إحسانك هوى. الإحسان عطاء حرّ من كل غاية شخصية. طبعاً إذا حسبت أنّ لديك شيئاً تعطيه امتلأتَ، والحال هذه، كبرياء. مُنطلقك أنك فقير وليس لك شيء. تعطي من عند ربّك. هذا لا تكتفي بالكلام لتعبِّر عنه. تعبِّر عنه بالتواري. تهرب ممن يشكرونك أو يمدحونك.
والفكر عينه، إذا خطر ببالك، تقاومه وتدحضه بتذكير نفسك أنّك تراب ورماد، بردّ المجد لله. وقد يلحّ الفكر عليك فتلحّ أنت في التواضع بإزاء ربّك. دودةٌ أنا لا إنسان. تسترحم حتى على الفكر إذا راودك وكأنّك اقترفت فعلةَ شناعة. تحسب أنّ الفكر النجس ما كان ليراودك لو كنت على نقاوة. تأبى إلاّ أن تبقى وتراً مشدوداً حتى يعطيك العليّ نصرة لا على خطاياك فقط بل على أوهانك التي لولاها ما كنت لتهتز لكل فكر ناشز غريب. فقط حين تبلغ اللاهوى وتصبح كل أفكار الهوى فيك كأنّها السِقْط ترتاح نفسك.
حتى عند ذاك لا تحطّ الرحال بل تبقى في الصحو ولا تحسب نِعَم الله عليك تحصيل حاصل. لا مهادنة حتى يلقيك الجهاد في القبر. "أخرج من الحبس نفسي لكي أشكر اسمك".
إن تُحسِنْ تدركْ أنّه ليس لأخيك ما يعطيك لأنّك إنْ أحسنت بالله مَنّ عليك ربّك بالكلّ. قد تأخذ من أخيك القليل أو الكثير لكنّك تأخذه حرّاً لأنّك لا تأخذه لنفسك. تأخذ كَمِن الله لتعطي مَن يشير الله به عليك.
وأنت تأخذ القليل القليل لنفسك لتتّقي التجربة أنّك بتّ فوق الناس. تأخذ لتتّضع. فيما عدا ذلك تمرّ بك العطايا إن تعاطيتها وكأنّها بك عابرةُ سبيل حتى تكون للناس بالناس بركة من عند أبي الأنوار. المهم في كل حال أن يكون هو الألف والياء، أن يصدر كل شيء منه، أن يُرَدّ إليه، وأن يُعمَل الكلُّ باسمه. تبارك اسمه إلى الدهر