إِنَّكَ تُشفِقُ على كُلِّ شيَء لأنَ كُلَ شيَء لَكَ أيُّها السّيدُ المُحِب لِلحَياة (حك 11 /26)
الزواج المسيحي و النسك - الأرشمندريت توما بيطار
الزواج المسيحي والنسك
الزواج المسيحي حدث فريد. لا حدث مثله. لا هو زواج وفق سنّة الطبيعة ولا هو زواج شرعي خاص بالمسحيّين. ليس الزواج المسيحي زواجاً بالمعاني المتداولة لكلمة زواج. لا الرجل هو الغرض ولا المرأة ولا الرجل والمرأة معاً، كوحدة اجتماعية. حين نقول إنّ الرجل يترك أباه وأمّه ويلتصق بامرأته فيصير كلاهما جسداً واحداً، قد يخطر بالبال أنّهما يصيران وحدة إنسانية واحدة.
بعد تجسّد ابن الله صار لقولة "الجسد الواحد" معنى جديد. في المسيح يصير الرجل والمرأة جسد المسيح. الغرض من الزواج المسيحي هو أن يصير المسيح في الزوج والزوجة والجامع بينهما. الجسد الواحد هو الكنيسة. الشريكان مدعوّان، في الزواج المسيحي، لأن يصيرا كنيسة للمسيح.
في خدمة الإكليل يدور العروسان حول الطاولة التي عليها الإنجيل. حياتهما، مذ ذاك، تأخذ في الدوران، كشريكَين، حول المسيح. يتزوّجان، في الحقيقة، للمسيح لا لنفسيهما. "كل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرب ليس للناس" (كو 3: 23). ينتظم الأمر بينهما متى انتظم كشركة بإزاء يسوع وفيه. في توحّد الكواكب بالشمس تتوحّد فيما بينها.
إذاً الغرض من الزواج المسيحي هو يسوع معنا وفيما بيننا.
هذا معناه أن يطلب كل من الشريكَين المسيح في الآخر. المسيح، بالنسبة للزوجَين، لا يأتي كَمِن الخارج، كَمَن يبارك ما لهما وحسب. المسيح يأتي كشريك، لا بل يأتي باعتبار أنّ العروسَين يدخلان معه، تحدوهما إرادة واحدة، في شركة.
الشركة هي بين الزوجَين كفريق معاً ويسوع كفريق آخر. زواجهما هو مع يسوع. وإن لم يكن زواجهما مع يسوع فلا زواج مسيحي بينهما.
وهذا يستدعي أن يخرج كل منهما من نفسه، وفق كلمة يسوع، باتجاه الآخر. الآخر، إذ ذاك، يصير صورة ليسوع ومطرحاً له. هو يلتمس يسوع فيها وهي تلتمس يسوع فيه فيجعلهما يسوع واحداً فيه. يصير زواجهما مسيحياً.
الزواج المسيحي لا يبدأ مسيحياً إلاّ كوعد من العروسَين في مقابل البرَكَة التي يسبغها الروح عليهما ليتسنّى لهذا الوعد أن يتحقّق. الزواج المسيحي مشروع يتحقّق بنعمة الله وإرادة الشريكَين.
من هنا حاجة الزوجَين إلى النسك. لا النسك بمعنى شظف العيش بالضرورة، مع أنّ شيئاً من هذا ينفع، ولكنْ النسك بمعنى الخروج من الذات باتجاه يسوع في الآخر. الحبّ بطبيعته نسكي وإلاّ لا يكون. لا جدوى من حبّ تحبّ فيه نفسك في عشيرك. ولا جدوى أيضاً من حبّ تبذل فيه نفسك من أجل قرينك. في الزواج المسيحي خروج من دائرة الأنا والأنت والنحن إلى يسوع الكائن معنا وفيما بيننا.
هذا، بالذات، هو ما يجعل النسك لازماً. الزواج المسيحي، بهذا المعنى، نمط خاص من حياة التوحّد بالله. إذا كانت سيرة التوحّد مرادفة للرهبانية في الكنيسة، فالرهبانية، والحال هذه، ليست عازبة وحسب بل زوجية أيضاً.
ليست هناك فضيلة، في مستوى الحياة الداخلية، قصراً على الرهبانية العازبة بل تشترك فيها الرهبانية الزوجية أيضاً. حدّث عمّا شئت ترَ الحاجة إليه في كِلا الحالين. الصلاة؟ مشتركة! الصوم والقطاعة والسهر؟ مشتركة! الصبر والتواضع والرحمة؟
مشتركة! المحبّة واللطف والفرح؟ كلّها مشتركة! لا فرق بين الرهبانية العازبة والرهبانية المتزوِّجة في نوع الحياة الداخلية بل في درجة الانكباب على اقتناء الفضائل. لذا كان الرهبان معلّمي المتزوّجين في المسيحيّة أصول الحياة الزوجية أي الروحية. القصد واحد والمسير واحد: العلاقة بالختن السماوي. كلاهما للقداسة وكلاهما مبارَك. المسيح، هنا وهناك، هو مَن نعيش من أجله ومَن نموت من أجله.
لذا ليس المهمّ في الزواج هو الإنجاب. غير صحيح أنّ الزواج مبرَّر بالإنجاب، مع أنّ الإنجاب جانب من الزواج مبارَك. ولكنْ ثمّة مَن لا ينجبون في الجسد عن قصور.
هؤلاء لا عيب فيهم طالما الهمّ الأساس لديهما هو الخصب الروحي، أن يُولد الزوجان، أولاً، لملكوت السموات، أن يمتلئا فضيلة، أن يقتنيا روح الربّ.
مشروع كهذا في الحياة المسيحيّة بحاجة إلى تكامل بين الشريك وشريكه في الفكر، في الروح، في الإيمان. لذا كان بديهياً أن يبحث كلٌّ عن شريك يوافقه في الوجدان المسيحي أولاً. لا يليق بالمقبلين على الزواج المسيحي الفعلي أن ينشغلا، أولاً، بالشروط العاطفية أو المادية أو الثقافية للزواج. التكامل الإيماني هو الإطار. وضمن هذا الإطار تصير واردةً شروطٌ كالانسجام العاطفي والفكري والتكافؤ البيئي، أي ما هو إنساني. لا يجوز حسبان يسوع كغريب أو الأخير في مشروع الزواج المسيحي. هو صاحب العلاقة الأول. الزواج يصير معه.
والشريكان يهتمّان بإعانة أحدهما الآخر ليسيرا يداً بيد باتجاه يسوع. فقط في إطار العلاقة بيسوع تأخذ الشروط الإنسانية موقعها المناسب وقيمتها الروحية. أما إذا كان أي شرط ليكون على حساب حياة العروسَين في المسيح، فإنّ زواجهما، إذ ذاك، ولو تمّ في الكنيسة، فلا يتعدّى كونه زواجاً وفق ناموس الطبيعة أو الشرع.
لا يكون مسيحياً في مضمونه. مسيحيّته تكون في الشكل، وتالياً في غير موقعها. كل الكلام على البرَكَة التي ينالها الشريكان إنْ لم يكن مقروناً بسلامة قصدهما ووعدهما السيرَ في دروب القداسة لا يكون في محلّه. لا الزواج الطبيعي ولا الزواج الشرعي بحاجة إلى برَكَة الكنيسة ليكتمل. الزواج الطبيعي تفرضه الطبيعة. والزواج الشرعي تفرضه القوانين المرعية. برَكَة الكنيسة هي لمَن يرومان، في زواجهما، القداسة، ولمَن جعلا ملكوت السموات قِبلتهما ويسوع ختنهما. هذا وكلّ شكلية في خدمة العرس تعدٍّ على ما لله. في الخدمة، إذ ذاك، ما هو نفساني شيطاني. المقاصد الإلهية لا تحتمل الزغل. القصد، أولاً، لا بدّ أن يكون إلهياً نقيّاً أو تجري خدمة الإكليل على نحو لا يخلو من الكفر وتعهير القدسات!
فمَن له أذنان للسمع فليسمع !