كُلُّ شَجَرةٍ لاتُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً تُقطَعُ و تُلْقى في النَّار ( مت 7 /19)
مقالة لاهوت / التألّه والأرثوذكسية - الأرشمندريت جاورجيوس
التألّه والأرثوذكسية
الأرشمندريت جاورجيوس، رئيس دير القديس غريغوريوس في جبل آثوس
نقلها الأب أنطوان ملكي
في كنيسة المسيح الأرثوذكسية، يحقق الإنسان التألّهَ لأن نعمة الله، بحسب تعليم الكتاب المقدس وآباء الكنيسة، غير مخلوقة. الله ليس جوهراً وحسب، كما يؤمن الغربيون، بل هو قوة أيضاً. لو كان الله جوهراً فقط، لما كنا نستطيع أن ننضمّ إليه وأن نشترك به، لأن جوهر الله مهيب وغير مدرَك من الإنسان، بحسب القول الكتابي: "لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خروج 20:33).
فلنُشِر هنا إلى بعض الأمثلة المتعلّقة بالبشر. إذا لمسنا سلكاً كهربائياً غير مغطى نموت. من ناحية ثانية، إذا وصلنا إلى السلك مصباحاً نستنير. نحن نرى قوة التيار الكهربائي ونتمتّع بها وتساعدنا، بينما لا نستطيع أن نمسك جوهره. ما يجري مع النعمة الإلهية مماثل إذا جاز التعبير. إذا استطعنا أن نتّصل بجوهر الله، نصير بالجوهر آلهة، أي أن كل شيء ممكن أن يصير إلهاً، وسوف يكون هناك تشوّش مما يؤدي على أن لا يكون هناك أي إله بالجوهر.
إن ما يؤمن به الأديان الشرقية، كالهندوسية مثلاً، هو أن الإله غير موجود بشكل شخصي بل هو قوة غامضة منتشرة في كل الكون، في البشر كما في الحيوانات والمواد".
أيضاً، لو لم يكن لله سوى جوهر إلهي غير قابل للشركة لبقي إلهاً مكتفياً بذاته مغلِقاً على نفسه دون أن يشترك مع خليقته. بهذه القوى غير المخلوقة خلق الله العالم ويستمر في الاهتمام به. إنه يعطي عالمنا الجوهر والوجود بقواه التي تخلق الجوهر.
إنه موجود في الطبيعة ويؤازر الكون بقواه المؤازرة. إنه ينير الإنسان بقواه المنيرة. إنه يقدّس بقواه المقدّسة. وفي الختام إنه يجعل نفسه إلهاً بقواه الإلهية. بقواه غير المخلوقة يدخُل الله الطبيعةَ، العالم، التاريخ، وحياة الناس.
إن قوى الله مقدّسة. إنها الله من دون جوهره. إنها الله ولهذا هي تجعل الإنسان إلهاً. لو لم تكن قوى الله مقدّسة وغير مخلوقة لما كانت الله، ولا كانت قادرة على جعلنا آلهة، ولا على ضمّنا إلى الله. من دونها تكون المسافة بين الله والناس غير قابلة للردم. لهذا، بامتلاك الله لقوى إلهية وضمّنا إلى هذه القوى، يمكننا أن نتّصل بالله وننضمّ إلى نعمته، من دون أن نتساوى به، كما لو كنا ننضمّ إلى جوهره. لهذا، نحن ننضمّ إلى الله من خلال قواه غير المخلوقة وليس من خلال جوهره. هذه هو سرّ الإيمان الأرثوذكسي وسرّ حياتنا.
هذا ما لا يمكن للاعتقاد الخاطئ الغربي أن يقبله، لأن الغربيين عقلانيون لا يستطيعون أن يميّزوا بين جوهر الله وقواه وبالتالي يتمسكون بأن الله هو جوهر فقط. لهذا السبب لا يستطيعون أن يتحدّثوا عن تألّه الإنسان. كيف يقبلون أن الإنسان يصير إلهاً إذا كانوا لا يقبلون أن قوى الله غير مخلوقة بل يقولون بأنها مخلوقة؟ كيف يستطيع ما هو مخلوق أن يجعل الإنسان المخلوق إلهاً؟
جرى في القرن الرابع عشر اضطراب كبير في الكنيسة [الأرثوذكسية] حرّض عليه راهب غربي اسمه برلعام. لقد سمع أن الأثوسيين يتحدّثون عن التالّه، وعرف أنّهم يصيرون مستحقين، بعد جهاد كبير، لأن يطهّروا أنفسهم من الأهواء وبالصلوات الكثيرة ينضمّون إلى الله لكي يكتبوا خبرة الله ويعاينوه. لقد سمع أنّهم يرون النور غير المخلوق الذي رآه الرسل عند تجلي الرب على طور ثابور.
مع هذا، كون برلعام من أصحاب الروح العقلانية الغربية، لم يتمكن من إدراك الخُبُرات الحقيقية الإلهية التي كانت لهؤلاء الرهبان المتواضعين، فراح يتّهمهم بانهم مخدوعون وهراطقة ووثنيون. فكان يقول، على سبيل المثال، إن من المستحيل أن يرى الإنسان نعمة الله، لأنه لم يكن يعرف الفرق بين الجوهر وقوى الله غير المخلوقة. من ثمّ جلبت نعمة الله معلماً للكنيسة مستنيراً هو الآثوسي القديس غريغوريوس بالاماس، رئيس أساقفة تسالونيكي. بحكمة عظيمة واستنارة من الله، كما بخبرة شخصية، قال وكتب الكثير وعلّم بحسب الكتاب المقدّس وتقليد الكنيسة المقدّس، بأن نور نعمة الله غير المخلوق هو قوة إلهية. كما علّم أن الذين يرون هذا النور فعلياً يصيرون إلهيين بالنعمة لكون هذه الرؤيا هي الخبرة الأسمى والأرفع للتأله ومعاينة نور الله.
هذا هو مجد الله، بهاؤه، نور ثابور، نور قيامة المسيح والعنصرة والسحابة المنيرة التي في العهد القديم. نور الله غير المخلوق حقيقي وليس رمزياً كما ادّعى برلعام وغيره من أصحاب الإيمان الخاطئ.
استمراراً لهذا، كل الكنيسة، من خلال ثلاث مجامع عظيمة عُقدَت في القسطنطينية، أثبتت أهلية القديس غريغوريوس بالاماس وأعلنت أن الحياة في المسيح ليست بمجرد تهذيب الإنسان بل بتألهه، الذي يعني الاشتراك بمجد الله ومعاينته ونعمته ونوره غير المخلوق.
إلى اليوم ما يزال الغربيون يعتبرون النعمة الإلهية، قوة الله، مخلوقة. للأسف، هذه إحدى الفروقات الكثيرة التي ينبغي حملها على الجدّ في الحوار اللاهوتي مع الكثلكة. الفرق الأساسي بين الكنيسة الأرثوذكسية والبابويين ليس "الفيليوكفيه" وحدها، ولا أولية البابا وعصمته.
إنه أيضاً ما سبق ذكره. لا نستطيع أن ننضمّ إلى الكاثوليك إن لم يقبلوا أن نعمة الله غير مخلوقة، حتى ولو قبلوا كل شيء آخر. مَن سوف يفعّل التالّه إذا كانت النعمة الإلهية وقوة الروح القدس مخلوقتين؟