إِلى اللهِ وَحدَه تَطمَئِنُّ نَفْسي و مِن عِندِه خَلاصي (مز 62 /2)
مقالة المجامع كعيادات لطب النفس - 1 - الأب يوحنا رومانيدس
المجامع كعيادات لطبّ النفس - 1
الأب يوحنا رومانيدس
نقلها إلى العربية الأب أفرام كرياكوس
علينا أن نكون أصحاب رؤية واضحة للإطار الذي رأت فيه الكنيسة والدولة مساهمةَ "الأنبياء" في معالجة مرض الشخصية البشرية وكمالها في سبيل فهم رسالة المجامعSynods ، وفهم السبب الذي دعا الإمبراطورية الرومانية إلى ضمّ هذه المجامع إلى قوانينها وإدراجها في قوانين الدولة. لا الكنيسة ولا الدولة اختصرت رسالة الكنيسة على الخلاص بمجرّد غفران الخطايا من أجل الدخول إلى السماء بعد الموت.
هذا وكأنه يعني أن الأطباء يغفرون ضعفَ مرضاهم من أجل شفائهم بعد الموت. الكنيسة والدولة معاً كانتا تعلمان جيّداً أن غفران الخطايا كان بدايةَ الشفاء من مرض الإنسانية في السعي إلى السعادة.
عملية الشفاء لا بدّ أن تعبر مرحلة التطّهر (تطّهر القلب) (purification) ومرحلة استنارة القلب (illumination) وتنتهي بحالة التمجّد (glorification). هذا يحدو بنا ليس فقط إلى التهيئة للحياة بعد الموت بل وأيضاً إلى تحوّل المجتمع هنا والآن من الأنانية والفردية المركزّة على الأنا المحبّة اللاأنانية التي لا تطلب شيئاً لذاتها.
أ - السماء والجحيم
سوف يرى كلُّ واحد مجد الله في المسيح وسوف يصل إلى درجة الكمال التي اختارها وعمل من أجلها. تبعاً للقدّيس بولس ولإنجيل يوحنا، يقول الآباء أن الذين لم يروا المسيح القائم في المجد في هذه الحياة إما في مرآة جزئياً عن طريق الصلاة المستمرة في القلب، وإما وجهاً لوجه في حالة المجد، سوف يرون وجهه كنارٍ أبدية محرقة وظلمة خارجية في الحياة التالية.
إن مجدَ المسيح غيرَ المخلوق الذي عنده بالطبيعة من الآب، هو السماء للذين شفوا المحبة الأنانية وإستبدلوها بالمحبة اللاأنانية وهو في الوقت نفسه الجحيم للذين رفضوا مثل هذا العلاج واختاروا البقاءَ بلا شفاء في تعلّقهم بذاتهم (هكذا يتحدّث القديس افرام السرياني مرات عديدة عن المحبة اللاأنانية ? الشفاء).
الوضوح في هذا الموضوع ليس فقط في الكتابُ وعند الآباء، بل وأيضاً في الأيقونات الأرثوذكسية حول الدينونة: النورَ الذهبي نفسه، الذي هو نور المجد، الذي يُحيط بالمسيح وبأصدقائه يُصبح أحمرَ عندما ينزل الحكم بالمحكوم عليهم.
هذا هو مجد المسيح أو حبّه الذي يطّهر خطايا الجميع لكنه لا يمجّد الجميع. الناس كلّهم سوف يُقادون عن طريق الروح القدس إلى الحقيقة كلها التي تتمّ في رؤية المسيح في المجد، لكن لن يُمجّدوا كلّهم. "الذين برّرهم فهؤلاء مجدهم أيضاً" (رو8: 30). إن مثل لعازر في حضن إبراهيم والغني في مكان الشقاء واضح: الغني يرى ولكنه لا يشترك (لوقا 16: 19-31)
إن الكنيسة لا ترسل أحداً إلى السماء أو إلى الجحيم لكنها تُهيء المؤمن لرؤية المسيح في المجد، الذي سوف يراه كلّ واحد. الله يحبّ المحكوم عليهم كما يحب قدّيسيه. يريد الكلّ أن يخلصوا (أن يشفوا) لكن ليس الكل يرضى بعلاجه. هذا يعني أن غفران الخطايا (المعمودية والمناولة... الأسرار كلّها) غيرُ كافية لرؤية المسيح في المجد.
التقليد المعروف عند أنسلم Anselm والقائل بأن المخلّصين هم الذين تصالح الله معهم بالمسيح، تقليد لا تؤيّده الكنيسة الأرثوذكسية ولا توافق عليه، ولا تشاطره. عندما يفسّر القدّيس يوحنا الذهبي الفم المقطع 2كور5: 19 ("إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غيرَ حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمةَ المصالحة") يوضح أن الرسولَ قال: صالحوا أنفسكم مع الله (تصالحوا مع الله) ولم يقل صالحَ المسيحُ الله مع العالم (أي بالمسيح تصالح الله مع العالم) "لأن الله لا يحقد بل نحن، الله لا يحقد أبداً".
في هذا الإطار فهمت الدولة رسالةَ الكنيسة الطبيّة داخل المجتمع. إذ لولاها لكانت كلّ الديانات التي تعد بالسعادة بعد الموت غير مختلفة عن بعضها البعض.
ب- نافذة بولس الرسول على الكنيسة
التفسير التالي مبني على التقليد الآبائي.
تشكل الإصحاحات كورنثوس الأولى 12 إلى 15 النافذة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يتطلّع الواحد إلى حقيقة الكنيسة كجسد المسيح. العضوية في الكنيسة لها درجاتها من أجل المعالجة ومن أجل الكمال ضمن فئتين: المستنيرين والممجَّدين. أمّا أعضاء الكنيسة فهم مذكورون في 1كور12: 28 "فوضع الله أناساً في الكنيسة أوّلاً رسلاً ثانياً أنبياء ثالثاً معلّمين ثم قوات وبعد ذلك مواهب شفاء أعواناً تدابير وأنواع ألسنة".
يبدأ الواحد بأن يكون مؤمناً فرداً خاصاً، يقول "آمين" في الخدمة المشتركة المسموعة. في هذه المرحلة يلتزم بتطهير قلبه تحت إرشاد أولئك الذين صاروا هياكلَ للروح القدس وأعضاء في جسد المسيح.
بعد درجة التطّهر، تبدأ مرحلة الإستنارة بإنشاء موهبة (charisma) بدءً من "أنواع الألسنة" التي تأتي في آخر اللائحة في الدرجة الثامنة إلى أن يصل الواحد إلى درجة "المعلّمين" في الدرجة الثالثة.
على رأس الكنيسة المحلية هناك "الأنبياء" الذين يأتون في الدرجة الثانية وهم الذين اقتبلوا إعلان "الرسل" نفسه (أفسس 5:3) في الدرجة الأولى. يشكّل الرسل والأنبياء أساسَ الكنيسة بطريقة مشابهة للأطباء في تأسيس المستشفيات.
"أنواع الألسنة" هي الأساس الذي تبنى عليه المواهب كلّها. وهي تعلّق وقتياً خلال فترة التمجّد 1كور 13:8 ("المحبة لا تسقط أبداً. وأما النبؤات فستُبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيُبطل"). يرتّب بولس نفسه كرسول على رأس لائحة أعضاء الكنيسة الذين وضعهم الله. وهو يتمتع أيضاً بموهبة "أنواع الألسنة".
يقول الرسول بولس "أشكر إلهي بأني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم" (1كور18:14). هذا يعني أن أنواع الألسنة تنتمي إلى درجات المواهب كلّها ضمن جسد المسيح. سؤال بولس الرسول "هل يتكلّم الكل بألسنة؟" هو إشارة إلى الأفراد العاديين الذين لا يتمتعون بعد بموهبة الألسنة والذين لم يصبحوا بعد أعضاء في جسد المسيح وهياكل للروح القدس.
يعلّق القديس سمعان اللاهوتي الحديث على المقطع (1كور27:12-28) ويقول: [من أجل إظهار مَن هم الأعضاء وما هي الفروقات بينهم، قال بولس "وأما أنتم فجسد المسيح... وأنواع الألسنة"]
درجات المستنيرين والممجّدين في جسد المسيح ليست درجات سلطة يختارها البشر. هي أولئك الذين هيأهم الله ووضعهم في الكنيسة من أجل التقدم إلى درجات أعلى في العلاج والكمال. عندما يدعو بولس الدرجات كلّها كي تتقدم نحو الدرجات الروحية العالية، يبرهن بوضوح أنّ على الكل أن يصبحوا أنبياء، أن يصلوا إلى المجد: "إني أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة ولكن بالأولى أن تتنبئوا" (1كور5:14).
ج- عيادة طب النفس
الكنيسة البولسية شبيهة بعيادة طبّ النفس. لكن مفهومها لمرض الشخصية البشرية أعمق من كلّ ما عرفه الطبّ الحديث. من أجل التحقق من ذلك علينا أن ننظر من خلال بولس إلى المفهوم الكتابي لما هو طبيعي عند الإنسان ولما هو غير طبيعي.
الإنسان الطبيعي هو الذي أرشد إلى الحقيقة كلّها بموجب روح الحق وأيضاً أُرشد إلى رؤية المسيح في مجد أبيه (يوحنا17، أنظر إلى تفسير هذا الإصحاح عند القدّيس يوحنا الذهبي الفم). بسبب تمجيد الرسل والأنبياء في المسيح آمن الشعب بالله الذي أرسل ابنه، وكذلك صار باستطاعة الشعب هو أيضاً أن يشفيَ عن طريق المحبّة التي لا تطلب شيئاً لذاتها. الناس الذين لا يرون مجدَ الله غيرَ المخلوق ليسوا بطبيعيين "إذ الجميعُ أخطئوا وأعوزهم مجد الله" (رو23:3).
بعبارة أخرى، الإنسان الوحيد الذي وُلد طبيعياً هو ربُّ المجد الذي باختياره كابد الآلام التي لا عيب فيها (الجوع، العطش، النوم، الخوف من الموت الخ...) بالرغم من كونه بالطبيعة مصدر المجد الذي يُلغي هذه الآلام كلّها.
ومن جهة ثانية لا يكشف الله عن مجده لكل واحد لأنه لا يريد أن يؤذي أولئك الذين ليسوا مهيئين لمثل هذه الرؤيا. المفاجأة هي في أنبياء العهد القديم الذين رأوا الله ومع ذلك يحيون، وكذلك في طلب الشعب من موسى أن يتوسّل إلى الله لكي يحجب مجده الذي لم يستطيعوا احتماله، وكل ذلك يوضح ما قلناه سابقاً.
مهمّة الكنائس الرسولية ليست في البحث عن الله نفسه طالما يبقى الله سراً بالنسبة للعقل حتى عندما يكشف عن نفسه للذين يشتركون في سرّ صليب ابنه عن طريق تمجيدهم. مهمتها الوحيدة هي معالجة أو شفاء كلّ واحد في المسيح. هذا يحصل عن طريق التطّهر واستنارة القلب والتمجّد في هذه الحياة من أجل خدمة المجتمع: "فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه. وإن كان عضوٌ واحدٌ يُكرّم فجميعُ الأعضاء تفرح معه" (1كور 26:12)، "والذين برّرهم فهؤلاء مجّدهم أيضاً" (رومية30:8).
هذا يعني أن الاستنارة والتمجّد مرتبطان ببعضهما البعض من دون أن يتحدا