و باركوا لاعنيكم و صلوا من أجل المفترين الكذب عليكم (لو 6 /28)
بولس مُلهم الشبيبة - المطران شكرالله نبيل الحاج
بولس مُلهم الشبيبة
حديث لأخوية الشبيبة قبل تكرسها
(الرميش في 20/12/2008)
مـــقدمـــة
في حديثي اليكم سأحاول أن أتوقف، ليس على أهمية بولس الرسول في الكنيسة فقط بل، وخاصة على أهمية بالنسبة للشبيبة محاولا أن ألملم معكم بعض جوانب شخصيته الفذّة التي تلهم شبيبتنا اليوم، ودون أن أغفل عن تعاليمه الخالدة وأهميتها بالنسبة للمسيحيّة وللمسيحيين.
روح الشباب والهمة التي لاتتعب وإرادة التغيير ليست الصفات الوحيدة التي تطالعك في قراءتك لبولس الرسول بل هناك محطات فريدة في حياة هذا الانسان طبعته وجعلت منه سخصية فذة هذه المحطات تداخلت في حياته ونسجت سخصيته وصقلت مواهبه وألبست بولس خصائص عديدة سأستعرض بعضها في مايلي.
1- بولس المتطرف
يقال عن الشبيبة أنها متطرفة دائماً وترفض الحلول الوسط وإذا عدنا الى المشهد الأول الذي يظهر فيه بولس في الكتاب المقدس فنصون برؤيتنا له مشاركاً في رجم استفانس. انت تمسكه متلبّساً بالقتل لا بل بأفظع الجرائم. وبدء معرفتك بشاوول هو تطرّف انسان يكره الناصري واتباعه ولا يتراجع عن قتل واحد منهم الى ان ينتهي منه تماماً ويستحصل على رسائل وتوجيهات لسوق الجماعات المسيحية والأفراد الى السجون وتشريدهم والتنكيل بهم حتى لو كلّفه ذلك متاعب السفر وأخطاره الى دمشق الوثنية.
والغريب ان هذا التطرف في الكراهية سينقلب تطرّفاً في الحب لا بل في العشق لذلك الناصري عينه الذي حاول ان يمحو ذكره من بين البشر. أما تطرّفه في اضطهاد الكنيسة الناشئة فسينقلب هوساً وحماساً وأسفاراً شاقّة وأخطاراً وسجوناً ولداً وعطشاً وإذلالاً وأمراضاً في سبيل نشر الانجيل الذي تنادي به هذه الكنيسة. ( 2كو 11/16-33). وهو أيضاً متطرف في مخاطبته ومعاملته من يبشّر. فكان يصرخ في وجه الغلاطيين ويدعوهم أغبياء. (3/1). ولا يتراجع عن إذلال نفسه ليرتفع القورنثيين (2كو 11/7) مردداً على مسامعهم. " وحده الله يعلم كم أنا أحبكم". وحنانه على كنائسه هو حنان الأم التي تتوجّع عند الولادة لتتكوّن في أولادها صورة المسيح (غلا 4/19) ولشدّة هذه الحنان يرغب بولس في ضمّ الذين بشرّهم الى قلبه، ولا يتوقّف عند هذا الحد بل يتجاسر ويقول: أحنّ اليكم جميعاً حنان المسيح يسوع ( فليبي 1/7-8) وهل من اعتراف أصدق من اعتراف بولس الذي يود أن يراق دمه سكيباً في سبيل ابناء بشارته: " فلو سفكت دمي قرباناً مع ذبيحة ايمانكم وخدمته، لفرحت وابتهجت" (فل 2/17).
ننهي هذا المشهد بالعودة الى ما قلناه أعلاه عن عشقه للناصري فهو يتكلم عنه بفيض جوارح الولهان المتيّم حتى انه لا يخاف من ان يقع في التناقض. وهل من تضّاد أبلغ من اعتبار الموت ربحاً واختزال الحياة كلّها بلحظة لقاء مع الحبيب: " فالحياة عندي هي المسيح والموت ربح" (فل 1/21) ويبلغ التطرف لا بل التضاد الذروة في وصفه للحبيب فليبي وفي كولوسّي عندما يؤكد على ان المسيح هو ابن الله الذي أخلى ذاته وصار عبداً طائعاً حتى الموت والموت على الصليب. ( فل 2/6-11).
2- بولس الانسان الجديد والمتجدد دائماً.
اذا كنا توقفنا سريعاً على تطرّف بولس في أكثر من محطة في حياته فلا يغيب عن ذهننا مطلقاً ان الكلمة التي كانت تخرج من فمه كسيف ذي حدين، فكانت تارة ساحرة عندما يتدفق الحب من قلبه، وطوراً قاسية ولاذعة ومشوبة بالتحدي عندما يلزم الأمر([1])
لقد أكّد بولس بكلمات فريدة وجسورة: " المسيح هو الحيّ فيّ " غلا (2/20) وهكذا ينسب حياته الى المسيح فنفهم عندئذ كيف ان المسيح امتلك حياته لأن هذا الأخير قبل المسيح في أعماقه عندما آمن بالخلاص الذي يحمله. وصار ايمان بولس شغفاً بالمسيح وحياة حميمة معه وعلاقة فريدة به، تقاس بكثافة وعمق وبثقة كلية وتسليم كامل. هذا الايمان حرّر بولس من الشريعة المفروضة فرضاً ( غلا 3/19) والعاجزة من أن تعطينا الحياة(غلا 3/11، روم 7/10-11) او تدخلنا في علاقة واثقة مع الاب (راجع غلا 3/21-31) وجعل منه انساناً جديداً ومتجدداً باستمرار.
والايمان بالمسيح يسمح لبولس ان يصرخ: المسيح حرّرنا لنكون احراراً فاثبتوا، اذا، ولا تعودوا الى نير العبودية ( غلا 5/1) والى عالم القاصرين والعالم الشرير (غلا1/4) لقد اختبر بولس في حياته معنى الانسان الجديد من ايمانه بالمسيح. وعرف كيف ان الايمان وحده يضع الانسان، مهما كان مصدره، في حالة الاستفادة من وعود الله، وهذا يعني ان كل الامتيازات الدينية والعرقية والاجتماعية وحتى الجنسية قد تمّ تخطيها في المسيح الجديد وبصليبه. فبالصليب دخل الله مجدداً بقوته الخلاّقة في تاريخ البشر
( غلا 3/4-8) وصنع كل شيء جديداً. وهذا الجديد ألا تعشقه شبيبتنا؟
لقد وعى بولس فضل المبادرة الالهية التي قضت بأن يرسل الله ابنه، مولوداً لامرأة مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة فنحظى بالتبني(غلا4/5-4) ومع هذا التبني أرسل الله ابنه الوحيد الى قلوبنا، الروح الذي ينادي يا ابي يا ابي (غلا 4/6) وبفضل ذلك لم نعد عبيداً قاصرين بل ابناء وارثين.
أجل لقد ربط بولس حالة المسيحيين بحالة المسيح. بالمسيح حصل بولس على كينونة جديدة وحصل عليها مع كل المؤمنين بالتبني. ان التبني الذي أنعم الله بنا عليه بيسوع المسيح ابنه الوحيد، ليس وضعاً قانونياً شبيهاً بما يحصل عليه في التبني البشري بل هو ولادة جديدة بالله، بنوة الهية لم يكن الانسان ليحلم بها على ما تؤكده رسالة يوحنا الاولى: " انظروا اي محبة خصّنا بها الآب لندعى ابناء الله وأننا كذلك( 1يو3/1) لقد اختبر بولس بالعمق كينونة الانسان الجديدة الذي تخوّل المؤمن ان يعيش تحت نعمة الله بيسوع المسيح الذي وهبنا التبني. وهذه الحقيقة الكبرى تحذّرنا من الوقوع في الشكليات الدينية الفارغة ومن انزلاق الايمان في الطقوس وحسب، والادّعاء المتكبّر والفارغ بالاكتفاء وبالاستحقاقات الشخصية، ورفض الانفتاح على الأوضاع الجديدة، والخوف من التقدّم بجرأة على دروب الحريّة، والبلوغ أخيراً الى نضج أبناء الله.
من كالشبيبة تفتش عن هذه المفاهيم الجديدة والمتجددة دائماً؟ من كالشبيبة تتوق الى كسر فئوية، فالفئوية بحد ذاتها انغلاق على الآخر؟ من كالشبيبة المؤمنة، الملتزمة بالانجيل وبتعاليم بولس تعرف ان البشارة المسيحية لا تشبه أية ثقافة، ولا تخضع لأية مؤسّسة ولا لأية تنظيمات، بل هي تشملها كلها، واذا اقتضى الأمر، وعند الضرورة، تجابهها كلها كما فعل بولس العظيم مع الشريعة؟!
وأخيراً ان كينونة المسيحي الجديدة هذه كما وصفها بولس وخبّرها تنفتح على كل ما هو شمولي وترفض كل تشرذم وتقاسم وانقسام. ألم يؤكد الرسول ويقول:" لم يعد هناك لا يهودي ولا يوناني ولا عبد ولا حرّ، لا ذكر ولا انثى، لأنكم كلكم واحد في يسوع المسيح " (غلا 3/22). نقول اخيراً ان التجديد الذي حققه المسيح بفدائه ليس هو فقط تجديد روحي وأخلاقي بل تجديد "وجودي" كامل يطال جذور الوجود البشري والكون بأسره.
3- بولس الحرّ والداعي الى الحرية
لا شك في ان الحرية هي الأغلى على قلوب شبيبتنا، وفي كل مرة نتكلم عن الحرية يخطر على بالنا ما قالته عن الحريّة "La Grande Demoiselle "
احدى بطلات الثورة الفرنسية والتي راحت هي أيضاً لهذه الثورة التي قامت من أجل الحرية:" أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك: ففي لفظة حرية كثير من الالتباس، ولكن ماذا يقول بولس عن الحرية في رسالته الى أهل رومة يصرخ بولس قائلاً: " الآن، تحرّرنا من الشريعة "، لأننا مُتنا عما كان حتى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم
(روم 7/6) ولقد سبق لبولس أن أكّد في رسالته الى أهل غلاطية ان المعمّدين هم أبناء ابراهيم من الأم الحرة، لا من الأم الأمّة، وهم كذلك أبناء اورشليم العليا. ومن حيث ان المسيح حرّرهم، لذا لا عودة الى العبوديّة (غلا 4/31و5/1) فالحرية هي تحرّر والحرية هي حياة بنظام الروح لا بنظام الجسد والحرية هي عطيّة الله لنا. لذلك يعتبر بولس ان المسيحي لا يمكنه ان يسلك في الخطيئة سيما وأن الخلاص بالمسيح حرّره من صفات الانسان العتيق وكسر قوة الخطيئة والشر ولهذا فكل مسيحي هو بالأساس مدعو الى التحرّر من كل العبوديات وبالأخص عبوديّة الخطيئة.
الحريّة اذاً هي دعوة المسيحي الأولى، " الدعوة الحقّة " ! وهذه الدعوة تعني ان يكون المسيحي حرّاً من الخطيئة ويخصّ الله اي ان يكون قديساً( روم 1/7). وهذه الحريّة، وبالمفهوم البولسي " لا تعاش مجتزأة بل بكاملها وبكليتها فلا تسخّر للجسد الذي يحدّها ويهلكها ولا لما هو دنيوي، فأعمال الجسد تمثّل الخطر الذي يشوّه الحرّية في المسيح".
ليست الحرية خروجاً عن الاعراف والقوانين، ولا هي التضحية بكل واجب أخلاقي. الحرية ليست التصرف دون مانع او رادع بل هي التصرف بحسب الحب الالهي، لأن المسيحي غير حرّ تجاه حب الله له ووصاياه الالهية. لا بل ان الشريعة الالهية هي بذاتها الحرية، فشريعة الله هي ميراثنا وهي ترجمة لحب الله لنا:" من أحبني سمع كلامي فأحبه أبي، ونجيء اليه ونقيم عنده " (يو 13/23) كما انها تعبير عن حبّنا له ": اذا كنتم تحّبوني عملتم بوصاياي( يو 14/15).
بالنهاية، الأبناء يرثون صفات أبيهم السماوي، ومنها " الحرية الالهية " هذه الحرية أعطيت لنا بدم المسيح القائم من الموت والحي أبداً. ولأنها حريّة الهية فهي تتطلب ثورة ضد حرية الجسد، وتمرداً على ما هو ميل نحو الأمور السفلى لأنها، بالأساس، مترفعة عن الميول والغرائز والنزورات الجسدية (روم13/9). هذه الحرية هي أخيراً في خدمة المحبة الأخوية، والمحبة الحرة، هذه الحرية هي بالنهاية في خدمة النعمة الالهية.
4- بولس المحب والمحبوب
لقد وعى بولس أكثر من غيره محبة الله المجانية تجاهه. لقد عرف هذا المضطهد لكنيسة المسيح ان نعمة الله هي في أساس ارتداده وهي الأساس في كل محبة بين الله والانسان. الله يبادر والانسان يتلقّى، لذلك نسمعه يصرخ في رسالته الى الرومانيين: " لكن الله برهن عن محبته لنا بأن المسيح مات من أجلنا، ونحن بعد خاطئون، فكم بالأولى الآن بعدما تبررنا بدمه... (روم 5/8-9) حب الله لنا سابق لكل أعمالنا لأنه مجاني ولا يبتغي اي مقابل. هذا الحب المجاني، يقدّره الشباب خير تقدير. أما النفوس الكبيرة فتعرف ان عليها هي أيضاً ان تحبّ بمجانية وبسخاء وأيضاً بحرية.
نعم، بفضيلة " المحبة الحرة " يصير المسيحي عبداً للمحبة: " عليكم ان يصير بالمحبة بعضكم عبيداً لبعض " (غلا 5/13). اذا وصية " الحب الالهي " هي خدمة بمحبة، ومحبة حرّة، وحرية الهية من هنا تلتقي مجدّداً الحرية مع المحبة والمحبة مع الحرية. واذا كان لبولس ان يختصر معنى الحرية والمحبة والخدمة بعبارة تجمع الشريعة القديمة والجديدة فيقول كما قال سيّده:" أحبب قريبك مثلما تحبّ نفسك" (غلا 5/14). بينما يبدو الناس عكس ذلك، وكما على أيام بولس وأهالي غلاطية، فهم ينهشون بعضهم البعض، ويأكلون بعضهم البعض حتى الموت، فيدمّرون جماعتهم ومجتمعهم بأنفسهم وشعارهم المفضّل: " إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب". فهل تختار شبيبتنا اليوم ان تعود الى شريعة الغاب بعد الفي سنة من المسيحية؟
ان حب القريب هو الصفة الأهم للمسيحي وهو مركز حياته ونبض قلبه. كل عمل نقوم به يجب ان يكون تعبيراً عن حب الله لنا وحبّنا له وللقريب:" اعملوا كل شيئ بمحبة" (1 كو16/14). ان الحب هو أهم عطايا الله لنا، وهو أول ثمار الروح المقدس:" المحبة، الفرح، السلام، طول الأناة، الطيبة، الأخلاق، الأمانة، الوداعة، العفاف...( غلا 5/22-23) الحب هو أكبر النعم التي يجب تنميتها فتثمر كل ما هو حنان ورأفة ولطف وتواضع ووداعة وصبر( كولو 3/12 ? 14).
بالنهاية يدعو بولس الى عدم الانصياع الى أهواء الجسد التي تجعل المسيحي ينهش أخية ويبتلعه في وجوده وشخصه وكرامته، وبالتالي ينهش بنوّته الالهية، فمن شأن رغبات الجسد ان تؤدي الى كل خطيئة وفقدان المسيحي للحرّية الحقيقية.
اما اذ طلبنا من بولس ان يساعدنا في تنمية المحبة والحرية معاً فإنه يحيلنا على مدرسة الروح القدس. وحده الروح ينمّي فينا الحرية الالهية والمحبة الخادمة. الحرية الالهية تدمّر شهوات الجسد والمحبة تدرّب على الارادة الروحية... والروح يساعدنا في معركتنا المتواصلة بين الانسان الجديد والانسان العتيق. وبانتظار رجوع يسوع الأخير نصلي الى الروح كي يملأنا من ثمار البر لمجد الله وحمده( فيلبي 1/9-11).
5- بولس رجل الالتزام والتضامن
غالباً ما يضع بولس الرسول المعمّدين الجدد أمام اختيار حياتي لتحديد موقفهم المبدئي. ومن هنا منطقيّة الالتزام في السلوك الذي نستطيع التعبير عنه ضمن اختيارين:" اما... وإما "([3])
فإما أنت مع شريعة المسيح، واما مع شريعة العهد القديم، اما ان تعيش حياة الروح... واما ان تعيش بحسب الجسد. هذا الاختيار المعروض على الانسان يذكّرنا بأقوال السيد له المجد عندما كان يطلب من سامعيه! اما الله... واما المال(مر10/23...) اما الطريق الضّيقة واما الطريق العريضة (متى 7:13...) الخ....
بالنسبة للأخلاقية المسيحية، التي توسّع بها بولس خاصة، ليس للحلول الوسط او للمواقف المزدوجة، مكان. ولعلّ خير تعبير عن ذلك، ما جاء في سفر الرؤيا: " إني عليم بأعمالك، فلست بارداً ولا حاراً. وليتك بارداً او حاراً! أما وانت فاتر، لا حار ولا بارد، فسألفظك من فمي" (رؤ3/15-16). من هنا يضع بولس المسيحيين أمام اختيار وحيد والالتزام به فيقول للغلاطيين. مثلاً: " فإذا كنا نحيا حياة الروح، فلنسر أيضاً سيرة الروح " (غلا 5/25) بقوله: "فلنسر أيضاً سيرة الروح، يغدو بولس " شرطي سير "على حد قول أحدهم وهكذا يتحوّل عمله الى توجيهنا نحو الالتزام بوجهة السير الصحيحة.
والسير في الروح ومعه يتطلب التواضع والوداعة والابتعاد عن الحسد... وكلها فضائل تقي صاحبها من الانزلاق ومن الحوادث الخطرة في مسيرته الروحية.
ما يميّز بولس في تعليمه انه، ككل ملتزم، منطقي مع ذاته. فنجد في كل رسالة من رسائله صدى لما يقوله في رسالة أخرى. ففي رسالته الى الرومانيين، يعود ويلزمنا بمسيرة الروح التي حدّثنا عنها في غلاطية، لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حرّرتني من شريعة الخطيئة والموت(...) عليّ أن أسلك لا سبيل الجسد، بل سبيل الروح.(راجع روم 8/2و5).
وبما أن بولس هو رجل الالتزام، والالتزام هو دائماً إلتزام بالآخرين فليست المسيرة الروحية عند بولس، مسيرة أنانية، فردية، بل هي مشاركة مع الآخرين. لا بل هي عملية اصلاحية مفروضة على الجميع، فإذا زلّ أحد، مثلاً، فعلى الملتزمين أن يهبّوا لنجدته وإخراجه من فخ الشرّ( 2 تسا 3/14-15) ولكن " بروح الوداعة " أي أصلح أخاك أيها الشاب بلطف وليونة فبولس يحذّرك من الغرور ويقول لك " لئلا تجرّب أنت ايضاً، فكلنا معرضون للوقوع في شرك الخطيئة".
ولعلّ مفهوم الالتزام عند بولس يذكّرنا بما كان يردّده الأب بيار: اننا لا نستطيع أن نكون سعداء بمفردنا، اي بمعزل عن الآخرين. كذلك يقول بولس لا نستطيع ان نعيش حياة الروح بمفردنا، اي بمعزل عن الآخرين.
من هنا مسؤولية واحدنا تجاه الآخر، ومن هنا أيضاً التضامن والمشاركة والوحدة في الحياة الروحية، لأنك لو أردت أن تصل بمفردك الى السماء فلن تصل ابداً ومن معنى وجود كل أخوية!
جاء في أحد الكتب التي تتحدّث عن متسلّقي الجبال أن متسلّقي الجبال الثلجية يقومون برحلتهم الاستكشافية، معاً ويكون واحدهم موثوقاً الى الآخر بحبل خشية الانزلاق او الضياع. وتقع على متقدم المسيرة مهمة فتح الطريق وشدّ سائر رفاقه من ورائه. وعندما يتعب المتقدم يأخذ مكانه رجل آخر حاملاً عنه عبء المسؤولية. يدعوك بولس أيها الشاب وأيتها الشابة ان تكونا على رأس قافلة متسلّقي القمم فهل لبّيتما النداء وكنتما على استعداد، كما يوصيكما بولس، " بحمل أثقال " الآخرين( غلا 6/2 )! وكم أثقال في حياة الجماعة التي تنتميان اليها فها انتما مستعدان لمدّ العون ولزرع الخير والبسمة والتفاؤل في محيطكما؟ .
6- بولس رجل التعايش
لقد ركّز بولس في رسائله على عرض المبادئ من جهة، وعلى كيفية تطبيقها عملياً، بحيث يحيا المسيحي عاملاً ضمن الجماعة الى ما غايته السلام والبنيان المتبادل " فيسّبح الجميع " الله أبا ربنا يسوع المسيح بقلب واحد ولسان واحد.
ولكن لا تمضي الحياة المسيحية على أيام بولس ولا حياة الجماعات المعمّدة حديثاً بدون صعوبات واشكاليات ومعظمها يتعلّق بالتعايش الأخوي بين المؤمنين المسيحيين من أصل يهودي، وبين من هم من اصل وثني. هذه الثنائية وما اليوم التعددية الثقافية محكوم على شبابنا ان يتعايش معها اليوم لا بل ان يتفاعل معها ليبقى الوطن، كما قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة تعايش وانفتاح وحوار بين الديانات والحضارات، ومن كشبيبتنا في أخوياتها تستطيع حمل هذه الرسالة واغنائها وعيشها بقناعة وسلام؟.
لقد كان التعايش صعباً وهشّاً، بين مسيحيي روما، وظهر عدم قبول الآخر، بحيث أرادت كل فئة أن تجبر الفئة الأخرى، بالعيش حسب قوانينها وطريقتها. لقد أصبحت الكنيسة الرومانية تواجه خطر الانقسام الى جماعتين، تنحدر الأولى من أصل يهودي، وتمارس ايمانها بيسوع محافظة على شريعة موسى التي تغلق الباب في وجه كل وثني راغب بالانضمام الى جماعة المسيحيين. والأخرى تعود الى جذور وثنية قطعت كل الروابط بينها وبين المسيحيين من أصل يهودي. إن خطراً كهذا ليس بسيطاً، لأنه قادر على نسف أهم الأسس للحياة الكنسية.