قالَ الرَّبُّ لِسَيِّدي: (( اِجلِسْ عن يَميني حتَّى أَجعَلَ أَعداءَكَ مَوطِئًا لِقَدَمَيكَ )) (مز 110 /1)
صناعة القدّيسين - الأرشمندريت توما (بيطار)
صناعة القدّيسين
سألتْ إحدى الصبايا: "نقرأ عن بعض القدّيسين أنّ الله اختارهم وهم بعد أجنّة في بطون أمّهاتهم أو أطفال لا يعرفون يمينهم من يسارهم. تراءى ملاك الربّ لأمّهاتهم أو أسبغ عليهم بركات خاصة. فهل القدّيسون يختارهم الله منذ الصِغر قدّيسين؟"
الله، في كل حال، يا أُخيَّة، هو الذي يختار، ولكنْ ليس منذ الصغر بالضرورة وحسب. تعرفين أنّ هناك قدّيسين سلكوا في القداسة بعد سيرة رديئة تابوا عنها توبة صدوق. الله عارف بكل واحد ويشاء الخلاص للجميع. والخلاص قداسة. هذا واضح عندنا وضوح الشمس. ولكنْ، ليس الله، في اختياره، خاضعاً لمنطق الناس. كل ما يأتيه يأتيه بمحبّة كاملة، أما تدابيره فلا نفقهها تماماً. طرقي ليست مثل طرقكم.
تَعَامُلُنا مع الله لا يكون على أساس فهمنا لما يأتيه بل على أساس ثقتنا به وتسليمنا له. هو العارف ونحن الجاهلون. لكنّه هو أيضاً المحبّ المبادر ونحن المحبوبون المتلقّون، حتى إلى أصغر صغير بيننا.
لكنْ، اعلمي، يا أُخيَّة، أننا لسنا مع الله في وضع مَن يتلقّى وحسب بل في وضع مَن يتعاون أيضاً. نحن أيضاً لنا دورنا، لا لأنّ دورنا يُكمِّل عمل الله كناقص، بل لأنّه، جَلّ جلاله، ارتضى، عن محبّة، أن يجعلنا مساهمين في عمله لا منفعلين وحسب. لذلك، يا أُخيَّة، إذا كان هناك قدّيسون يُصْطَفَون قدّيسين من نعومة أظفارهم، وحتى من بطون أمّهاتهم، فليس هذا، في الحقيقة، من دون تعاون ذويهم. بلى، الأهل، بنقاوتهم، بسلوكهم في الرضى الإلهي، بتربيتهم الطيِّبة لأولادهم يُهيِّئون لنعمة الله، لتفتّحها، لعملها في حياة أولادهم. الوالدان يساهمان في إعداد أولادهم للقداسة حتى قبل أن يُبصروا النور.
أعرف رجلاً، لما اختلى في خدر الزوجية بعروسه انتحى زاوية الغرفة وركع وصلّى بحرارة أن يمنّ عليه الربّ الإله بنعمة من لدنه حتى لا يتعاطى جسده وجسد زوجته أهوائياً ويُساقَ، غير واعٍ، بما في جسده من توتّرات حيوانية رعناء. كان يعرف أنّ للجسد توثّباته، ويخشى على نفسه منه. الجسد، أساساً، لغة الحبّ، لغة التواصل في المسيح.
الجسد بركة لأنّه مطرحُ تجلٍ إلهي. لكنْ للجسد، في الواقع، استعداد للجموح وميل، لذلك يحتاج إلى لجم حتى تبقى لصاحبه سطوة صاحية عليه، يديره كما يشاء ويصل به إلى الشاطئ الآخر بأمان، فلا يتسيّد جسدُه عليه ولا يستاقه إلى حيث لا يشاء في متعة تُمسي غاية في ذاتها، تختلس اهتمام الكيان وتحول دون تلاقي القلوب لكثافة جسدانيتها وتُماهي ذاتها بالحبّ كما لو كان الحبّ تلاقي أبدان، مثلما يحسب الذين لا يعلمون.
وأعرف أيضاً زوجَين مَنّ عليهما ربّهما بمولود ذكر بعدما تقدّما في السنّ بعضاً. كان الرجل فاضلاً، يصلّي ويصوم ويبكي ويلتمس ثمرة البطن نعمة من لدن العليّ. وكانت المرأة، وهي حبلى، بناء لتوصية الطبيب، تلازم الفراش طويلاً. تلك السحابات من الوقت كانت تقضيها في صلاة شبه متواصلة وقراءة روحيّة. كلاهما، الأب والأم، كان فكرهما في الله وعمرت نفساهما بمخافة الله والضراعة إليه.
أخيراً وفد المولود الجديد فرعياه طفلاً كما رعياه جنيناً بالرفق الإلهي عينه والصلاة والمحبّة. فلمّا تجاوز سنُّه السنةَ وبضعةَ الأشهر أخذت تظهر فيه ظواهرُ اختيار إلهي لا لَبس فيه. كان حسّاساً للصلوات يُصغي إليها كالكبار. عيناه كلّما التقتا إيقونة كان يستجيب لحضرة مَن فيها وكأنّه في ألفة معه من زمان. لما كان يعاين ويسمع مَن يُصلّون كان يؤخذ، في مكانه، طويلاً يرتشف مما يُعرَض، بمتعة ودهش، ويتفاعل مع ما يفعلون. لما أخذ يمشي أبدى ما لم يعلّمه أحد إيّاه.
كان يقف أمام الإيقونات مشدوهاً ويرفع ذراعيه ككبار القدّيسين فلا تعرف ما إذا كنت، من وقفته وثباته وسكونه، بإزاء طفل أم بإزاء قدّيس صغير. لم يكن الأمر عنده تمثيلاً. كان ينتبه ويسائل ويحاور بوعي أخّاذ. وبعدما صار له أخ لم تبدُ عليه علامات الغيرة كما للصغار بل أخذ يُبدي لأخيه من الرفق والحنان ما لا يتعاطاه، في العادة، إلاّ الكبار الناضجون في محبّة الله.
وأعرف أيضاً طفلاً أنشأه والداه على محبّة الله والكنيسة والصلوات، فكان، من ذاته، حتى قبل أن يُكمل السنتين من عمره، لا يشاء، في الآحاد، أن يتناول زجاجة الحليب قبل أن يذهب مع والديه، أولاً إلى الكنيسة ويساهم القدسات، ثم بعد ذلك يطالب، على طريقته، بطعامه الخاص. وكان والداه، في الصوم الكبير، يستبدلان الحليب الحيواني إليه بالنباتي، وكان هو يتآلف وما له علاقة بالإيقونات والصلوات والكنيسة على نحو لافت.
أجل، يا أُخيَّتي، في القلوب المهيّأة لله، قبل الزواج وقبل تلاقي الأبدان، شروع لدى المؤمنين، في إعداد القدّيسين في العائلة. الأجنّة التي تتكوّن في أحشاء مشبعة بالنعمة الإلهية، هذه تَخرج، إلى النور، أطفالاً للنعمة. أيستوي الذين يُحبَل بهم في بطونٍ ثَمِلَةٍ بشهواتها عَجَنَتْها توتّراتُ حيوانية اللقيا، والذين حُبل بهم في الصلاة والصوم والدموع والمحبّة والرفق والفضيلة؟ مَن قال متى التقى رجل وامرأة في الجسد لا بدّ لهما أن يأتيا ما لا يليق، والله يغضّ الطرف عنهما استعياباً؟!
كلا بل النجاسة في فكرهما قائمة وليست قهّارة إذا ما رغبنا في النقاوة. طبيعة التلاقي، في تلك الأويقات، تجعل حضور الله أشدّ كثافة لديهما لأن في تلاقي الرجل والمرأة، في الجسد، تعبيراً عن محبّة واحدة لله يتبادلانها تمثُّلاً لنعمة الله وتفعيلاً لمحبّته فيهما تفعيلاً مباركاً. هذا لا يأتي عفواً؟ بالطبع لا! هذا بحاجة إلى نسك كبير في مستوى تعاطي كلٍ جسدَه بعامة. والجسد إن لم نخضعه لمرامي القلب الخاشع المتواضع يُضنينا ويشوّش علينا، يُفرغنا ويُذلّنا.
مَن قال إنّ الأجساد ينبغي أن تكون عاصفة بركانية؟! العواصف تدمّر وتقتلع، والبراكين تُحرق وترمّد. والحبّ بطبيعته نسيم عليل. الرفق أبقى وأعمق. الحبّ يَجعل واحداً ويُغني حتى لا يستحيلَ عملَ عنفٍ يختلس فيه الرجل المرأة أو كلٌّ الآخر، في أنانية مروّعة، ثمّ يُخليه فارغاً، وفي العمق حزيناً حزيناً.
يا أُخيَّة، تلاقي العروسَين في المسيح، في خدر الزوجية امتحان كبير. إذا لم يستقم هذا التلاقي لا تكون سيرتهما، أو أحدِهما، قويمة. هذه بوصَلَة الحياة المشتركة بينهما. إذا لم تكن على دقّة وسلامة تكون قد أتتهما من زغل وتُفضي بهما إلى تشويش. مصنع الحياة والحبّ والفرح هو أولاً مصنع قدّيسين. القدّيسون عندنا مفترض بهم، في العائلة المؤمنة، لو أمكن، أن يأتوا من قدّيسين، وإلاّ شحَن الأهلون أولادَهم، من حيث لا يدرون، شحنات سالبة يحتاج الأولاد إلى عمر توبةٍ كاملة ليتنقّوا منها. الأهل الذين لا يبالون يقدّمون لله خرافاً مَعيوبة.
سمعت، مرّة، بفرح، رجلاً يتكلّم عن أنه يصلّي ويبكي ويقول: "اللهمّ، أعطني حكمة من لدنك لأعرف كيف أرعى ما أنعمتَ به عليّ حتى لا أُسيء إلى مشيئتك في خليقتك". تُرى أليس هذا من لحم ودم أيضاً؟
بل من معدن كل الناس هو، وكلُّ الناس، بلا استثناء، قادرون، بنعمة الله، على إتيان ما يأتيه ولكنْ بشيء من التعب على أنفسهم، إذا ما رغبوا فيه. المهم أن يُراد والربّ معطي البركات!