الرَّبّ معي فلا أَخاف و ماذا يَصنِعُ بِيَ البَشَر ؟ (مز 118 /6)
الصلاة هي الجواب - الأرشمندريت توما بيطار
الصلاة هي الجواب
الإنسان بصَلاتِه. لا هو بقواه الفكرية ولا النفسية ولا الجسدية ولا بما يقتنيه. كل هذه تموت. إذاً ليست هي بشيء. عابر سبيل. ليس الإنسان مشروع موت بل مشروع حياة. لو كان الإنسان يولد أصلاً ليموت لما كان هناك معنى لوجوده ولا قيمة.
حياته تكون تافهة وموته تافه. في حسّه العميق توّاق هو إلى الحياة. وليس توّاقاً إلى الحياة وحسب، بل ما يسري فيه، في مياهه الجوفية العميقة، يمدّه بتيّار الحياة بلا انقطاع. لو لم يكن مجرى الحياة في الإنسان دفّاقاً لما أمكنه أن يستمر، أن يندفع إلى الأمام، يوماً بعد يوم. لو ملأه حسُّ الموت دون الحياة لتوقّف عن الحياة في الكيان وزال.
اذاً الحياة، في الواقع والخبرة، هي ملء الإحساس في الكيان ولو كان الإنسان ليموت. الحياة الأبدية لديه بديهية كيانية. هذا مزروع فيه. هكذا انبرأ. الموت شيء طارئ وليس من طبيعة الإنسان. السؤال هو: من أين تأتيه الحياة وليست له حياة في ذاته إذ كل نفسٍ ذائقةٌ الموت؟
صدّق أو لا تصدّق: من الصلاة! الصلاة هي التي تصله بنبع الحياة الأبدية، بالله. الصلاة هي حبل الصرّة الذي يمدّ الإنسان بالحياة. لهذا السبب بالذات يستبين القول الإلهي بديهياً أنّه "ينبغي أن يُصلَّى في كل حين ولا يُمَلّ" (لو 18: 1).
وكذا "صلّوا بلا انقطاع" (1 تسا 5: 17).
وإن قلنا صلاة قلنا صلة بالله. وأما الله فوحده يسوع قدّمنا إليه. هو قال: "مَن رآني فقد رأى الآب" و "ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي" و"ليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء". والله، كما كشفه الربّ يسوع، بات واضحاً لعين الإيمان مَن يكون.
يسوع كشف وجه الآب وأرسل لنا الروح القدس. من الآن فصاعداً إن قلنا "الله" قصدنا "الإله الواحد"، "الآب والابن والروح القدس". هذا مَن نصلّي إليه. هذا مَن بتنا على صلة به. ليس أنّ الله واحد أو ثلاثة في العدد، أو واحد وثلاثة في آن معاً. الله لا يُعدّ لأنّه لا يُحدّ. الوحدة هي الملء وفوق الملء والكمال والتمام. الوحدة هي الجوهر الواحد، هي الطبيعة الواحدة. لذا كل ما في الآب وللآب والابن والروح القدس واحد.
ومع ذلك هكذا تجلّى: آباً مميَّزاً عن الابن مميَّزاً عن الروح القدس بلا اختلاط ولا تشويش. هذا هو الإله الواحد الذي نصلّي إليه، إذاً.
وهذا انكشف بيسوع. فمَن ليس له الابن ليس له الآب أيضاً ولا له الروح القدس. على هذا، من بعد يسوع، متى قلنا "الله" قصدنا "الآب والابن والروح القدس"، أو قصدنا "الآب" أو "الابن" أو "الروح القدس" وفق ما يُستدَلّ من سياق الكلام. وحتى لو قصدنا "الآب" أو "الابن" أو "الروح القدس" فإنّ الثالوث يبقى حاضراً كلّه لأنّه ليس أيٌّ من الأقانيم قابلاً لأن يكون معزولاً عن الأقنومَين الباقيين.
هذه المداخلة كانت لازمة لنعرف مَن نصلّي إليه. الصلاة إلى الله، بالمعنى العام للكلمة، لم تعد كافية. إذاً ليست كل صلاة صلاة. الموضوع ليس موضوع فرْض. الموضوع موضوع وداد وصلة بإله تعرف مَن يكون لأنّه انكشف لك.
على هذا نقول إن غاية الحياة البشرية هي الانوصال في المحبّة بالله، آباً وابناً وروحاً قدساً، وأداةُ هذا الانوصال هي الصلاة. الصلاة، بهذا المعنى، هي أهم عمل يمكن أن يقوم به الإنسان وأكثر الأعمال قربى إلى قلب الإنسان لأنّ الصلاة، ووحدها الصلاة، هي الجواب على شوق الإنسان وتوقه ونزوعه إلى الحياة الأبدية.
ولأنّ الصلاة هي على هذه الأهمية المركزية في حياة الإنسان فإنّ كل شيء يعمله الإنسان هو إما تهيئة للصلاة وإما ثمرة لها، كل شيء بلا استثناء. اسمعوا هذه النبذة من سيرة البار نيقيطا الكييفي المتوحّد المعيَّد له في 31 كانون الثاني: هذا استقامت سيرته في وقت لاحق، ولكن في مطلع سعيه وقع في تجربة قاسية. كان يريد أن يصل إلى الرفعة بسرعة. طلب من الله موهبة صنع العجائب. احتال عليه عدوّ الخير. ظهر له إبليس كأنّه ملاك. أول ما قاله له: "لا تصلِّ. فقط اقرأ الكتب لأنّك من خلال الكتب سوف تجد نفسك في حوار مع الله وسوف تتمكّن من إسداء النصح للناس الذين يأتون لزيارتك".
وانطلت على نيقيطا الحيلة. توقّف عن الصلاة واستغرق في القراءة حتى لمع. درى الآباء القدّيسون بأمره فصلّوا وطردوا إبليس من أمامه فنسي كل ما كان يعرفه من الكتب. حتى القراءة نسيها بالكلية...".
أوردتُ لكم هذه النبذة لأقول لكم كل ما يُبعدكم عن الصلاة إلى الله ليس من الله بل من الشيطان، عدوّ الخير.
قد يخطر ببالكم فكرٌ يقول لكم يكفيكم أن تعملوا أعمالاً صالحة. هذه تعادل الصلاة، لا بل هي أهمّ منها. لا تصدّقوا! إذا لم تَصُبَّ أعمالكم، مهما كان ظاهرها برّاقاً، في الصلاة فإنّها لا تنفعكم شيئاً ولا تعطيكم الحياة الأبدية. من دون صلاة، في أعمالكم، ولو بدت خيِّرة، الكثيرُ من الهوى والكبرياء والمجد الباطل، من حيث تدرون ولا تدرون.
لو كانت أعمالكم نقيّة حقّاً، لكانت تدفعكم، بصورة تلقائية، إلى الصلاة. لو كانت لمجد الله فعلاً، ولخير الآخرين دون تباهٍ، لما أمكنها إلاّ أن تحرِّك نفوسكم إلى الصلاة لأنّ الصلاة هي كمال الأعمال الصالحة. الصلاة هي ثمرة الروح القدس لكم. لذلك نقول، استطراداً، إنّ كل ما يصرفكم عن الصلاة من أعمال وأفكار، كقراءة الكتب والأعمال الإنسانية والنشاطات المختلفة هي مشروعات نفسانية فكرية أهوائية تصبّ في فخاخ عدوّ الخير. لا تُضحّوا بالصلاة مهما كانت الاعتبارات لديكم لأنّ الصلاة هي الجواب وهي الحلّ لكل هَمّ ولكل مشكلة.
كل شيء تعملونه اعملوه بروح الصلاة. وتذكّروا ما قلتُه لكم: كل الأعمال والتدابير في حياتكم إما أن تكون تهيئة للصلاة أو ثمرة لها. فإن داومتم على أموركم اليومية بهذا الفكر نفعتم أنفسكم دنيا وآخرة وتيسَّرت أموركم، وإن ضحّيتم بالصلاة لكل عمل أو نشاط فإنّكم تتعبون عبثاً ولا تنتفعون شيئاً. لا تنسوا: الإنسان صلاة. بالصلاة يصير إنساناً وبدون الصلاة يتحوّل آلة أهواء وشهوات