عَلِّمْني الحُكمَ الصَّائِبَ و المَعرِفَة فإِنِّي قد آمَنتُ بِوَصاياكَ (مز 119 /66)
السيف - الأرشمندريت توما بيطار
السيف
نحن لا نعرف الله قاتولاً. الله محبّة. كل قَتْلٍ ليس منه. القتل من الذي قال عنه يسوع إنّه القتّال أي إبليس. وإبليس القتّال أيضاً هو الكذّاب وأبو الكذّاب. إذاً هو يدفع الناس إلى القتل وينسب القتل إلى الله كَذِباً ليشوِّه صورة الله ويبلبل الناس.
الإله الذي يعبد الذين ينسبون القتل إلى الله لأي سبب هو إله الحرب. وهذا لا وجود له. هذا صنم. والصنم صنعة شهوات الناس. فحين يعبدون إله الحرب فإنما يؤلّهون شهواتهم ويقدّسون أنانياتهم، الفردية والجماعية معاً.
عبادة الأصنام، الحجرية والفكرية سواء بسواء، هي، بحسب سفر الحكمة،
"أصل كل شرّ وعلّته وغايته" (حك 14: 27).
السيف، في العهد القديم، كان إسقاطاً بشرياً على الله لأنّ قلوب الناس كانت قاسية. لا يفهمون إلاّ لغة السيف. كيف تُخرج شعباً من ظلمته إلى نور الحياة؟ أفرغ الله نفسه، تدبيراً، وسكن في ظلمة الناس رغم أنّ الظلمة لم تدركه (يو 1: 5).
هناك، في ظلمتهم، بثّهم نوره. ظنّوه حليفاً لهم وإلهاً لظلمتهم. لولا ذلك ما كانوا قبلوه. نسبوا القتل إليه وحروبهم. صار إلهاً لهم، في عيونهم، ينصرهم على أعدائهم. أفرغ نفسه بمعنى أنّه تركهم يتعاملون معه على هذا النحو. ولِمَ رضي بذلك؟
لأنّه كان ينظر، بحكمة سامية، إلى المرامي التي كانت ستتحقّق فيهم، إلى ملء الزمن، إلى تمام مشروع الخلاص بيسوع المسيح. وما كان قصده سوى ترويضهم على حفظ الشريعة. "لا تقتل"، قال لهم في وصاياه العشر بالمطلق، فكيف يكون هو قاتولاً؟ بأنبيائه، لقساوتهم، قال فيهم كلمته: "بسطتُ يديّ طول النهار إلى شعب متمرّد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره" (إش 65: 2). لكنّه، في آن، يُبين مقاصده ويدفعهم إلى الفرح.
لذا قال: "هاءنذا خالقٌ سمواتٍ جديدةً وأرضاً جديدةً فلا تُذكَر الأولى ولا تخطر على بال. بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد في ما أنا خالق... الذئب والحمل يرعيان معاً... لا يُؤذون ولا يُهلِكون في كل جبل قدسي قال الربّ" (إش 65: 17 ? 18، 25).
و"لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي" (غلا 4:4). بعضهم قبلوه. "كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه" (يو 1: 12) وبعضهم لم يقبله. هؤلاء هم الذين تمسّكوا بعبادة إله الحرب.
وقد صلبوه بعدما استبان وديعاً متواضعاً. خاب ظنّهم.
لم يكن ممكناً أن يكون هذا، في نظرهم، مسيحَ الربّ المنتظر أن ينصرهم على شعوب الأرض مع أنّ أشعياء النبيّ قد سبق فرسم لهم ملامحه: "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقرٌ ومخذولٌ من الناس رجلُ أوجاع ومختبِر الحَزَن... محتقَر فلم نعتدّ به..." (إش 53). إله الحرب فيهم، صنمهم، هو الذي قتله
كلام يسوع في السيف واضح صريح:
"كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون".
لا نهاية للغة السيف إلا الفناء. العنف لا يعالَج بالعنف. الشرّ لا يواجَه بالشرّ بل بالخير. رُبَّ قائل يعترض: لكن يسوع أوصى تلاميذه حين كان مزمعاً أن يُسْلَم إلى الصلب: "مَن له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومَن ليس له فليبع ثوبه ويشترِ سيفاً. لأنّي أقول لكم إنّه ينبغي أن يتمّ فيّ أيضاً هذا المكتوب وأُحصي مع أثمة..." (لو 22: 36 ? 37).
لهذا الكلام غير معنى. "وأُحصي مع أثمة" هي من إشعياء النبيّ، الإصحاح 53، في كلامه على عبد يهوه. النبوّة، إذاً، تتحقّق، ولكن لا شكلاً. ما يريده يسوع هو أن يَظهر مع تلاميذه كأنّه رئيس عصابة. لماذا؟ لأنّه أراد أن يثبِّت اليهود في ضلالهم لقسوة قلوبهم بعدما نبذوه. مَن يصرّ على الخطيئة يضربه الربّ الإله بالعمى وهو القائل بإشعياء النبيّ:
"أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم" (يو 12: 40). إذاً يسوع هنا يسلمهم للضلال حتى تترسّخ قناعتهم بأنّه ليس هو المسيح بل رجل عصابة.
ولكن لمَن يشاء أن يسمع ولكي نفهم حقيقة موقفه من السيف قال لبطرس بعدما استلّه وضرب به عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى: "ردّ سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (مت 26: 52).
على أنّ للذين يحملون اسم المسيح سلاحاً كاملاً يقاومون به في اليوم الشرّير (أف 6). أولاً عدوّنا إبليس. الناس الذين يتخلّقون بأخلاق إبليس هم أدوات له. هم سيوف والضارب بهم هو إبليس. لذا لا نواجه السيف بالسيف بل الضاربَ بالسيف نواجهه بلباس الله الكامل.
قوّتنا من عند الربّ صانع السماء والأرض. لذلك قيل: "تقوَّوا في الربّ وفي شدّة قوّته. البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا ضدّ مكايد إبليس. فإنّ مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع... أجناد الشرّ الروحيّة" (أف 6: 10 ? 12).
وسلاح الله الكامل غير سلاح البشر. اولاً نمنطق أحقاءنا بالحقّ. ثانياً نلبس درع البرّ. ثالثاً نحتذي استعداد إنجيل السلام. رابعاً نحمل فوق الكل ترس الإيمان الذي به نقدر أن نطفئ جميع سهام الشرّير الملتهبة. خامساً نتّخذ خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله. كل هذا نتسلّح به ونسهر مصلّين بكل صلاة كلَّ وقت في الروح ونواظب في الطلبة لأجل جميع القدّيسين.
هذا الكلام نقوله فيما يشتدّ العنف ويتعاظم القتل ويتنامى التنكيل بالعباد باسم الحقّ وباسم الله في كل مكان. الناس يتساقطون كأوراق الخريف. أتظنون أنّ هناك خرافاً وذئاباً في العالم والمعركة هي معركة السيف لأجل الحقّ؟ هذا غير صحيح. الصراع هو بين ذئاب وذئاب.
والمعركة هي بين باطل وباطل. إبليس يلهو بالناس إفناء لهم. والناس، لحقدهم وعنف شهواتهم، يقدّمون أنفسهم وبعضَهم بعضاً وقوداً للشيطان. لكلٍ آلهةٌ وآلاتُ حربٍ والنتيجة واحدة هي الخراب. الدموع ملء الأرض، لذلك نتشوّف إلى الوقت الذي سيمسح الله فيه كل دمعة والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد (رؤ 21).
"أيّها الربّ يسوع تعالَ".
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي . دوما