أُنذُروا و أَوفوا لِلرَّبِّ إِلهكم كلُّ الَّذينَ حَولَه حَمَلوا لِلرَّهيبِ هَدايا (مز 76 /12)
روح الغربة - نيافة الأنبا موسى
روح الغربة
نيافة الأنبا موسى
"أحسن إلى عبدك فأحيا وأحفظ أمرك. أكشف عن عينى فأرى عجائب من شريعتك. غريب أنا فى الأرض لا تخف عنى وصاياك" (مز 17:119-20).
"لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضى فلنا فى السماوات بناء من الله بيت غير مصنوع بيد أبدى. فأننا فى هذه أيضاً نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذى من السماء. وأن كنا لابسين لا نوجد عراة. فإننا نحن الذين فى الخيمة نئن مثقلين، إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكى يبتلع المائت من الحياة. ولكن الذى صنعنا لهذا عينه هو الله الذى أعطانا أيضاً عربون الروح. فإذا نحن واثقون كل حين، وعالمون أننا، ونحن مستوطنون فى الجسد فنحن متغربون عن الرب" (1كو 1:5-8).
الإحساس بالغربة كما قال عنه داود النبى وبولس الرسول: يأتى من خلال بعض أساسيات فى حياتنا كأبناء لله.
1- إدراك الأصل
إدراك الأصل الذى أنا منه. لماذا أشعر إنى غريب؟ لأنى أساساً لست من هنا وليس أن أقنع نفسى بذلك فقد خلقنى الله من نفخة من التراب وضعها الله فى العالم لكى تبقى لحين، فلو فكرت فى نفسى ككائن روحى من نفخة مقدسة من الله.
سأعرف إنى غريب وإن ليس لى ههنا مدينة باقية وهذا الإحساس، الذى عاش به داود النبى وكان يقول لنفسه لحظة الموت "أرجعى يا نفسى إلى راحتك" (مز 7:116).
فأهم مقومات روح الغربة هو إدراك الأصل، إنى جسد وروح ونفخة من الله وإلى التراب أعود فأنا جوهرى روح، بدليل أن الجسد المتحد بالروح سيتروحن ويصبح جسد روحانى وفى يوم القيامة سوف يتغير ويصير جسد يتصف بعده صفات، أى أنه جسد روحانى، نورانى، سماوى، ممجد، فالنفس المؤمنة تتعامل فى حياتها على أساس أنها سوف تعود إلى مصدرها آخذه معها الجسد الترابى لكى مايتروحن.
المؤمن غريب فى طباعه، فى صفاته، فى لغته. فى تصرفاته وهذه هى غرابة وليست غربة لأن جوهر الغربة ليس فى ذلك، ولكن إنى غريب من الأرض لأنى مستوطنى فى السماء.
2- فطام عن التراب
طبيعى أن النفس التى تغربت عن الأرض وكل تفكيرها فى السماء تكون تلك النفس مقطوعة عن الأرضيات أى المقتنيات، المناصب، النفوذ، الوضع هى غريبة عن كل هذه الأمور، ببساطة شديدة تعامل العالم على أنه شئ تافه جداً لأنها تعلم أن كل ما فى العالم محدود وزائل معروف أن أى شئ محدود لابد أن يكون زائل.
فالنفس المؤمنة يكون داخلها حافز أخروى وتطلع سماوى "معك لست أريد شئ على الأرض" (مز 25:73).
إذا كان عندها الكثير لا يحرك قلبها وإذا أخذت القليل يكون خلاصها أقرب.
القديسة تريزا ليسوع الطفل كانت تقول إنى أريد أن أبقى صغيرة لأن الصغار لا يهلكون، وكذلك البستان، يقول الذى هو أسفل لا يسقط أبداً. فتكون النفس الصغيرة مقطوعة عن التراب هذا ما جعل بولس يعتبر أن العالم كله "الماديات، المقتنيات، المراكز" نفاية فمحبة الله غربتنى عن البشر والبشريات.
3- فطام عن البشر
الإنسان الغريب هو إنسان مفطوم عن البشر يحب بدون تعلق كالطفل حينما تفطمه أمه لا يعنى ذلك إنها كفت عن حبه حتى لا يستمر يعتمد على لبنها، ولكن لابد أن يبدأ يأخذ غذاء البالغين.
فطام البشر هو عدم التعلق وهو مبدأ البتولية إنحلال عن الكل وإرتباط بالواحد، أى يحب كل الناس ولكن لا يرتبط بأحد، فالحب العاطفى دليل خلل فى المنهج. والعاطفه الشديدة تنتمى للنفس وليس للروح.
النفس لها غرائز، حاجات "حب، تقدير، إنتماء" عواطف وهذا جزء من الجهاز النفسى لأن هذه المحبة للنفس ليست لحساب المسيح ولكن لحساب الذات ولكن ممكن للعواطف أن تضبط من خلال الحب الروحى بالله والآخرين. فالإنسان الغريب مفطوم عن البشر لأن الإرتباط العاطفى هو أفطمنى من أحبائى لأحبهم بطريقة أفضل.
4- سبق تذوق الخلود
لأنه فطام عن الناس والتراب أذكر ملكوت السموات للتحرك فيك شهوتها، فالرهبنة والبتولية هما سبق تذوق الخلود لأن كل إنشغالنا بالعريس السماوى وإقتران بالرب فى عرس داخلى لا ينتهى من الآن وإلى الأبد، والعربون الأول من هذا التذوق هو العشرة أى.
أ- سبق تذوق العشرة
حيث أن البتولية هى العشرة، إتحاد كيانى بالمسيح وإحساس دائم بحضرته فى القلب، هى شخوص مستمر فى عينى الرب بحيث يصير المسيح هو الكل فى الكل فى حياة البتول هى حالة إقتران إنحلال من الكل للإرتباط بالواحد هذا الحب الثنائى بين النفس والمسيح هذه هى العشرة.
ب- سبق تذوق القداسة
لأن النفس متجهة إلى فوق تحرص أن تتقدس وتتخصص. وإذا كان سكان السماء يتملكون بثياب بيضاء وينادوا الذين على الأرض أن يحفظون ثيابهم بيضاء.
ج- سبق تذوق السلام
عالم السمائين هو السلام، ليس فيه أضطراب وليس فيه توقع للموت أو توقع للكوارث "موضع ليس فيه حزن ولاكأبة ولا تنهد".
د- تشوق الخلود
حيث يكون السلام ليس بطولياً بل ينتج من إتحاده برئيس السلام وهو المسيح كما يقول: "كلمتكم بهذا ليكون لكم فى سلام" (يو 33:16). الوجود فى داخل الرب يسكب السلام والصفاء، وهذه هى علامات الإنسان الغريب.أما سبب القلق فهو وجود إحباطات حيث يريد الإنسان الوصول إلى أشياء ولا يستطيع ذلك.
فيعذبه الطموح، وتؤرقه المشكلة فتملك حياتنا، لذلك نحن نتذوق سلام الخلود من آن لأخر كعربون وذلك كلما إستوعبنا الأبدية فنقول: "وقفت فوق قمة العالم حينما أحسست فى داخلى إنى لا أخاف شئ ولا أشتهى شئ" فبقدر ما يتكرس الإنسان فى الأرض بقدر ما تقل شهوته بالأرض
5- المجد
الإنسان الترابى، يعيش للأرضيات وتشده الأمجاد الأرضية أما الإنسان الأخروى السماوى، هذا المجد ضئيل بالنسبة له لأنه تمتع بمجد عظيم، هو مجد البنوة لله فمن ذلك نعرف أن إشتياق الخلود له علامات وهى عشره - قداسة - سلام داخلى - تشوق الخلود - تمتع بالأمجاد.
فعندما ندرك أصلنا نفطم عن التراب ونتذوق الخلود ونتشوق له فنتمتع بالعشرة والقداسة ونتذوق السلام ونتمتع بالمجد السماوى. "خفه ضيقتنا الأرضية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدى" (2كو 17:4) لذلك فالبتول إنسان سماوى، أخروى، مشتاق للملكوت،
يقول مع يوحنا: تعال أيها الرب يسوع. ولا ينزعج من تأخير الرب لأنه يعرف أن الله لا يتباطئ عن وعده، فلذلك من علامات الغريب، تشوق للخلود، نحن أصلاً نستعد للميراث "الذى لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل".
6- ذبائح الحب الإيجابى
طالما أن النفس تتجه نحو الله، هذا لا يعنى أنها تترك هذا العالم وتقبع فى إنتظار الرب. هذا الأمر رفضه معلمنا بولس عندما وجد الناس فى إنتظار الرب وأقعدوا عن العمل وذلك فى رسالة تسالونيكى "لا يأتى إن لم يأتى الإرتداد أولاً.. "وأوصاهم أن يشتغلوا بهدوء ولا يفشلوا فى عمل الخير" (تس 1:2،12،13).
أى أن روح الغربة لا تعنى عدم الإلتزام بمهام الأرض ولكن جهاد فى العمل والخدمة، أى لا تعنى السلبية ولكنها تعنى إيجابية نقدم فيها ذبائح حب للآخرين فقد تكون خدمتى خدمة مدنية أو إنجيلية.
فلابد من العمل ولابد من الخدمة وذلك فى كل مكان، وكل زمان، ومع كل إنسان، وإنه من أجل هذه الذبائح يعمل الإنسان للملكوت فالغريب ليس مفطوم عن العالم كأشياء وأشخاص ولكنه يحب الجميع ويبذل نفسه من أجلهم، مفطوم عاطفياً ولكنه يحب روحياً، فيعمل الغريب أضعاف أضعاف الإنسان الأرضى وذلك لحبه فى الكل
ولأنه يستعد لحياة الملكوت والأبدية. فروح الغربة هى روح الحب الإيجابى وليست هى إهمال الأعمال لأننا موجودين ههنا لرسالة لابد لنا أن نكون أمناء فيها.
والمجد لله دائماً أبدياً أمين.