المَكرُ في قُلوبِ الَّذينَ يُضمِرونَ الشَّرّ و للمُشيرينَ بِالسِّلم فَرَح (ام 12 /20)
النظرة اللاهوتية للخدمة الكهنوتية - الشماس ديبو حبابة
النظرة اللاهوتية للخدمة الكهنوتية
رالشماس ديبو حبابة
من أهم المسائل اللاهوتيّة في الفكر اللاهوتيّ المعاصر هي الخدمة الكهنوتية، والتي يعالجها كتاب اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر في جزئه الثالث، للمطران كيرلّس سليم بسترس، ومقالتي هنا مقتصرة على وضع ملخص عام لأهم الأفكار اللاهوتية المتعلقة في الخدمة الكهنوتية.
أولاً: كهنوت المؤمنين و كهنوت الخدمة
إنَّ الله يدعو بعض المسيحيين، ولكن المسيحيين جميعاً يشتركون في كهنوت المسيح، لأنَّهم بالمعمودية يصيرون أعضاء في جسد المسيح، فما الذي يميّز هذين النوعين من الكهنوت؟
1. كهنوت المؤمنين المشترك
بعد العهد الجديد بالمعمودية كل شعب الله هم كهنة، وهذا يؤكد عليه بطرس في رسالته الأولى (2: 5- 10)، والدستور العقائدي في الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني، وهذا الكهنوت يمارس بالشهادة للمسيح في كل مكان، وبالاشتراك في الصلوات و الأسرار ولاسيّما الإفخارستيا.
2. كهنوت الخدمة الراعوية:
أوكل الله إلى البعض مهمة خاصة في هذا الجسد (الكنيسة)، والفرق بين النوعين من الكهنوت ليس على صعيد كيان المسيحي، بل على صعيد المهمة في الجسد؛ وهذا الفرق يظهر في طقوس الأسرار، فكهنوت المؤمنين المشترك يُمنح بالتغطيس بالماء بالمعمودية ومسحة الميرون في التثبيت، أما كهنوت الخدمة فيمنح "بوضع اليد"، ووضع اليد يعني إعطاء سلطة ومهمة خاصة، فما هو قوام تلك المهمة ومضمونها:
أ. كهنوت الخدمة هو وظيفة عضوية في جسد المسيح.
ب. كهنوت الخدمة هو استمرار لدور المسيح رأس الكنيسة.
ج. الخدم الكهنوتية هي مواهب من الروح القدس.
ثانيًا: أبعاد الخدمة الكهنوتية
الخدمة الكهنوتية تضمن استمرار شعب الله، وتعمل على بناء جسد المسيح، وتلك الخدم تتمّ في ثلاثة ميادين: الكلمة، الأسرار، والرعاية:
1. خدمة الكلمة: لقد أنشأ المسيح الكنيسة أولاً بالكرازة بالكلمة، وأرسل تلاميذه للغرض نفسه، فالإيمان بحاجة إلى التبشير بالكلمة، ويجعل المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي في الكنيسة خدمة الكلمة أولى المهام الأسقفية الرئيسية، ويتوسع في هذه المهمة في قراره في خدمة الكهنة الرعائية.
2. خدمة الأسرار: إن خدمة الكلمة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بخدمة الأسرار، والكلمة التي يكرز بها الكهنة يجب أن تقود الشعب إلى الاتحاد بالمسيح وبالأسرار، وإلى تكوين جماعة مسيحية تحيا في الحياة الإلهية الواحدة، فالكاهن هو خادم المسيح وخادم الجماعة التي يقودها لتصير جسدًا واحدًا في المسيح، لذلك يعلن المجمع الفاتيكاني الثاني أن الاجتماع الإفخارستي هو النقطة المركزية في الجماعة المسيحية التي يرأسها الكاهن، وهذا ما نستشفّه بوضوح في صلوات الرسامة.
3. قيادة شعب الله- خدمة الرعاية: إنَّ تصميم الله هو "أن يجمع تحت رأس واحد من المسيح كل ما في السماء والأرض"، فالبعد الثالث للخدمة الكهنوتية يقوم على تجسيد عمل المسيح الراعي الذي يجمع كل المسيحيين في جماعة عضوية، في شعب واحد لله، بحيث تصغي الرعية كلها لصوت المسيح "لتصير رعية واحدة لراعٍ واحد" (يو10: 16).
ثالثًا: كهنوت الخدمة سر من أسرار الكنيسة
عاشت الكنيسة الخدمة الكهنوتية كموهبة من الروح القدس وكوظيفة عضوية في جسد المسيح، ثم حددت الكنيسة الغربية مفهوم الأسرار وعددها في القرن الثاني عشر، وقد قبلت الكنيسة الأرثوذكسية هذا التحديد أيضاً في مجمع الاتحاد المنعقد في ليون (1247).
لماذا تعتبر الكنيسة الخدمة الكهنوتية سرًا؟
1. لأنه يرقى إلى إرادة المسيح نفسه الذي اختار بعض رسله وأقامهم خدام الكرازة.
2. لأن الخدمة الكهنوتية تمنح من يقبلها نعمة خاصة.
3. لأن النعمة التي يمنحها هي لخدمة الكنيسة.
رابعًا: كهنوت الخدمة و الزواج
إن السيد المسيح قد دعا رسله دون تمييز بين متزوج وأعزب، على الرغم من أنه دعا إلى البتولية، لكن هذه الدعوة إلى التكرس لأجل الملكوت هي دعوة حرة وليست على الإطلاق شرطاً مسبقاً للرسل والمبشرين.
والتفسير الكتابي المعاصر يشرح كتابات بولس الرسول، بأنه يدعو المدعوين إلى الخدمة الكهنوتية بالأمانة الزوجية، فيجب اختيار الشمامسة والكهنة والأساقفة من ذوي الأخلاق الحسنة في جميع المجالات.
يجب التمييز بين الدعوة إلى الحياة الرهبانية والدعوة إلى الخدمة الكهنوتية، فالحياة الرهبانية تتطلب البتولية، كما الفقر والطاعة، أما الكهنوت فخدمة في الكنيسة، وهذه الخدمة يمكن أن يؤديها الكاهن المتزوج والكاهن الأعزب.
إنَّ أفضلية البتولية على الزواج في الكهنوت لم يستطع اللاهوت أن يعطي عنه براهين واضحة ومقنعة، لذا المهم في الأمر ليس النظر إلى أفضلية البتولية في ذاتها، بل بالنسبة إلى كل شخص، فعلى كل من يريد التكرس للخدمة الكهنوتية أن يسأل نفسه لا عمّا هو الأفضل نظرياً بل عمّا هو الأفضل له، استناداً إلى طبيعته ونفسيته وإمكانات اكتماله الذاتي، فإذا كانت العزوبة إطاراً صالحاً للبعض ويستطيعون تكريس حياتهم لخدمة الكنيسة بفرح وانتعاش، فقد تكون لغيرهم حاجزاً وعائقاً للخدمة الكاملة وبذل الذات السخي.
وهكذا إن الأمر الأساسي الذي يتفق عليه المسيحييون اليوم، والذي لا بد من تأكيده، هو أن الخدمة الكهنوتية ليست منفصلة عن عمل المسيح "الكاهن الأوحد"، وليست نعمة تُمنح لمنفعة الشخص الذي يحصل عليها، إنما هي موهبة يمنحها الروح القدس في سبيل بناء الكنيسة جسد المسيح