كتب أن المسيح يتألم و يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث و تعلن باسمه التوبة وغفران الخطايا لجميع الأمم (لو 24 /46-47)
حياة الرهبنة أعماقها وطبيعتها - دير القديس العظيم أنبا مقار
(يُرمز إلى آخذ الحديث الدكتور فايق بالحرف ف، وإلى الأب متى المسكين بالحرف م).
الجفاف الروحي وكيف نواجهه:
5 - ف: لقد ذكرتَ في كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية أن النشاط الداخلي للصلاة قد يُصيبه توقُّف تام بسبب الجفاف الروح، فكيف يمكن تصحيح هذا الوضع؟
م: في الحقيقة أنا عالجت هذا الموضوع في الكتاب بالتفصيل، ولكنني أريد أن أوضح بعض النقاط. فالجفاف الروحي يرجع إلى أسباب عدة وتأثيرات مختلفة التي يمكن أن تبلغ إلى حدِّ الإحساس بالتغرُّب والبُعد عن المسيح، ثم توقُّف عمل النعمة في داخل الإنسان. وما أودُّ أن أُضيفه هنا، هو أن الإنسان يجب ألاَّ ييأس أو يفقد الرجاء، وإلاَّ يدخل في مراحل من الجفاف الروحي أكثر خطورة. في هذه الحالة يغيب عن الإنسان كل مصدر للتعزية.
إلاَّ أن هذه المرحلة، هي خبرة مثل أية خبرة أخرى تواجهنا في حياتنا، وكلها هي جيدة لنا. وفي أي مستوى، لابد أن نحاول أن نفتح الباب مرة أخرى، لأن مرحلة الجفاف الروحي ليست دائمة. إنه فقط من خلال الكسل يمكن أن نطيل هذه المرحلة، وهكذا تتوقَّف صلواتنا وأصوامنا.
الجفاف الروحي مفيدٌ لنا على قدر ما يُسلِّحنا بكل نِعَم الثبات في محاولاتنا الجادة لنستعيد حياتنا الروحية التي تكون قد فُقدت مؤقتاً.
ونصيحتي في هذا الخصوص، أن نقرأ الكتاب المقدس باستمرار وبطريقة منتظمة منظَّمة. فمن خلال الكتاب المقدس، والمثابرة على قراءته، تعمل نعمة الله فينا.
حالات دهْش اضطرارية:
6 - ف: هل اختبرتَ أية حالة دَهْش روحي أو نظر رؤى؟
م: في مراحل معينة من حياتي، وبقدر محدَّد جداً، حدثت هذه الحالة بطريقة اضطرارية وتلقائية، وبدون أي تنبيه مُسْبَق. وكانت حالات الدهش هذه عادةً يتبعها رؤى قد تستغرق فترات طويلة. وبعض هذه الرؤى استمر إلى 4 ساعات متواصلة. وكانت كلها تتضمن تعليماً وتوجيهاً لي. وبمرور الزمن عرفتُ بعض الأحداث أو الحوادث المزمع أن تحدث، وقد حدثت فعلاً. وهذا ما جعلني أومن بصدق هذه الرؤى.
لم يكن في هذه الرؤى ما يسرُّ، لأنها كلها كانت لتعليمي؛ إلاَّ أنه بعد أن كانت الرؤيا تنتهي، كنتُ أحس بإرهاق جسدي، لأنها كانت تستحوز على كل كياني سواء العقلي أو العاطفي، أو الجسدي أو الروحي. كما أن هذه الرؤى كانت تختص بحياتي الشخصية.
سرُّ التقدُّم في الحياة الرهبانية:
7 - ف: يبدو أنك تقدَّمتَ تقدُّماً هائلاً في حياتك الرهبانية في فترة قصيرة نسبياً، وأنك اقتفيتَ خطوات آباء البرية العظام؛ فما هي مفاتيح هذا التقدُّم؟
م: إن أردتَ الحقيقة، فإن تقدُّمي كان غير ملحوظ لي تماماً. وحتى هذه اللحظة أنا لا أحس بوجود تقدُّم. وما يُحيِّرني حقيقةً، ولكن في نفس الوقت يُحزنني، هو هذه الحقيقة: لماذا لا يتقدَّم كل الرهبان مثل هذا؟ أنا لا أجد في نفسي أي شيء أفضل أو أعلى من أي إنسان عادي. الشيء الوحيد الذي أعرفه بتأكيد، هو أني كنتُ مُخلِصاً جداً للقوانين الرهبانية، ومُخلِصاً أيضاً في قراءة الكتاب المقدس بجدٍّ وهمَّة، فقد كنتُ أحياناً أقرأ ستين أصحاحاً كل يوم! وما زلتُ أذكر أنني كنتُ أحياناً أصرخ من فرط الفرح.
لم أحس أبداً بأي إرهاق أثناء سهر الليالي وأنا أقرأ على مدى ساعات على لمبة جاز فقط! ولكن محبتي واشتياقي الشديدين للكنيسة القبطية بكل طقوسها وألحانها، جعل كل شيء لي سهلاً. وكلما كنتُ أسمع ألحان الكنيسة، كنتُ أحس بفرح غامر يسري داخل كل كياني. لقد شرعتُ أفهم بلا أية صعوبة معاني كل حركة تحدث في الكنيسة، وكنتُ أُشارك في مجريات الطقس بكل قلبي وأحاسيسي بروح الفرح والمتعة القوية.
البساطة واستقامة القصد حتميات في نجاح الحياة الرهبانية:
8 - ف: هل أنت تعتبر الإدراك السامي والاتصال الروحي المباشر في استيعاب الحقائق الروحية أمراً حيوياً في أي سعي رهباني؟
م: الشعور الحسِّي للتقارب الروحي والاتصال المباشر هو في حدِّ ذاته أمر بديهي فطري. لقد لاحظتُ أن رهباناً كثيرين مِمَّن عاشوا ويعيشون معي لم يختبروا هذه الحياة المسيحية البديهية، هذه مشكلة يمكن شرحها بألفاظ أخرى كما يلي:
- هل الاتصال الروحي المباشر بالحقائق الروحية هو أمر حيوي في الحياة الرهبانية؟ وهل هناك طريقة تقود إلى هذا الاتصال المباشر؟
- إجابتي هي: إنه توجد حتميات في الحياة الرهبانية، مثل البساطة في حياة الراهب الروحية والعادية، مما يجعل هذه الحتميات أساسية. فأنا يمكن أن أكون أميناً ومُخلِصاً جداً في حياتي الروحية باعتبار حياة النعمة هي أساسية في حياة الراهب، وإلاَّ فإن هذه الحياة يمكن بسهولة أن تنهار، مما يؤدِّي إلى انهيار الشخص نفسه. لذلك فالإنسان الطموح أو الشخص غير المستعد للحياة الرهبانية بعد، لا ينبغي أن يدخل في هذه الحياة الرهبانية، التي هي كنز للبسطاء ومستقيمي القصد.
النضوج الروحي قد يؤدِّي إلى إدراكات روحية:
9 - ف: هل، في رأيك، يُعتبر الإدراك الرهباني للعالم الروحي العلوي هو نضوج في الاختبار الروحي عموماً؟ وبأي معنى؟
م: الشخص الناضج يكون له بالتأكيد إدراك حقيقي للعالم الروحي العلوي، إلاَّ أن هذا الإدراك يعتمد بقدرٍ كبير على مستوى نُضجه واختباره الروحي. ولابد أن يكون قد بلغ مستوًى عالياً من الجدِّية والفهم الصحيح للكتاب المقدس، ويكون قد بلغ درجة ما من الاستقامة والتقوى. إن الإحساس بالخلاص مليء بالفرح إلى حدِّ انفتاح أبواب الإدراك الرؤيوي والعالم الروحي العلوي بسهولة.
لكن، حالات النشاط الروحي، ليست دليلاً ولا ضماناً للخلاص:
10 - ف: ماذا تفسِّر حالات اختبار السمو الروحي والفرح السماوي بالروح للذين ليسوا معتادين على هذه المجالات؟
م: مثل هذه الاختبارات الروحية ليست دليلاً على الخلاص، ولا هي ضمان لخلاص الإنسان. إلاَّ أنه توجد حالات من الاستعداد الداخلي والموهبة الداخلية التي تجعل الإنسان مستعدّاً لبلوغ هذه المجالات، ما نسميه النشاط الروحي مثل التكلُّم بألسنة على مثال الرسل وغيرها. وكل هذه الأنشطة هي في مجال وإطار الروحانية، ويختبرها الذين بلغوا درجات من الاستعداد الداخلي لها، إلاَّ أن هذه مجرد موهبة داخلية أو استعداد داخلي، أكثر من كونها نضوجاً روحياً.
غاية الحياة الرهبانية:
جحد الإنسان مشيئته لتتحقَّق مشيئة الله:
11 - ف: هل تعتبر أن غاية السعي الرهباني هو استعلان الحقائق الروحية عن الله وعن قديسيه الأتقياء؟
م: غاية الحياة الرهبانية ليست في اقتناء أي شيء أو نوال أي شيء كعائد. الغاية الأساسية هي أن يجحد الإنسان مشيئته الذاتية لتحقيق مشيئة الله.
قد يكون الشخص راهباً لثلاثين أو أربعين سنة دون أن يبلغ إلى حياة الاستعلان. ولكنه يظل بطريقة طبيعية راضياً مرتاحاً أنه قد كرَّس حياته لخدمة الله، وهذا في حدِّ ذاته يكون موضوع اكتفاء وفرح له. إلاَّ أنه في معظم الحالات يُكافئ الله الإنسان عن تكريس حياته له، وهو على الأرض، وقد يجعله ?يتذوَّق? شيئاً من الحقائق الإلهية مما يجعله يحس بالسعادة.
القديس بولس يُقرِّر أنه ارتفع فوق السموات، وكان فَرِحاً بسبب ما استُعلِن له. وهكذا تثبَّت إيمانه، وصار أكثر من قبل مُستعدّاً لأن يبذل نفسه ويُواجه الأخطار بثبات.
سُكْنى المسيح في القلب، يظهر في تعاملنا مع الآخرين:
12 - ف: هل سُكنى المسيح في قلوبنا هو الغرض الرئيسي من الصلاة؟ وهل المظاهر الخارجية لهذه السُّكنى مثل اتجاهاتنا تجاه الآخرين، هي نتيجة لهذه الحقيقة الأساسية؟
م: الجزء الأول من السؤال بخصوص سُكنى المسيح في قلوبنا صحيحٌ. الصلاة هي نشاط داخلي نحو المسيح، وهو بدوره يتحرَّك نحونا أيضاً. لذلك من الخطأ أن نكون بعيدين عنه، وهو من فرط صلاحه يردُّ لنا عشرة أضعاف.
وهنا أُريد أن أزفَّ هذه العطية العظيمة للجميع. فإن أعظم عطية يمكن أن نقدِّمها للآخرين، سواء مسيحيين أو غير مسيحيين، هو سلوكنا المستقيم، الذي هو نتيجة سُكنى المسيح في قلوبنا