لانه هكذا يليق بنا ان نكمل كل بر (مت 3 : 15)
الرهبانية وحركة الديرية_ التزهد و الرهبنة _ الاستاذ ميخائيل بولس
الرهبانية وحركة الديرية
الاستاذ ميخائيل بولس
التزهد
والرهبنة
وجدت بذور حياة الزهد والرهبانية أي الانعزال _ في أصول المسيحية الأولى فالعهد الجديد لم يخل من الإشارات التي تحض الناس على الانصراف للعبادة متى استطاعوا ذلك، وان يبتعدوا عن النساء وعدم الزواج، فلقد ورد في إنجيل متى { 12 :19 } :" ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات ، من استطاع أن يقبل فليقبل".
وجاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس
{ 1 :7 }:" وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة".
وإذا كنا نسمع عن أمثلة لبعض المخلصين الذين آثروا الانقطاع للحياة الدينية في أوائل عهد المسيحية إلا أن هذا اللون من ألوان الحياة الدينية لم يصبح أمرا ما في الشرق المسيحي قبل القرن الرابع {حيث انه في عهد الإمبراطور قسطنطين أصبحت الديانة المسيحية ديانة مرخصة}، في حين لم ينتشر في الغرب قبل القرن الخامس ولم يصبح شائعًا قبل القرن السادس، ويفهم من هذا أن حياة الزهد والرهبانية شرقية الأصل، بل أقوى اثر تركه الشرق في المسيحية.
وتستند عقيدة التزهد والرهبنة القديمة إلى اصطلاح أل Askesis الذي كان نقطة الانطلاق لكل حركات الرهبنة في الكنيسة القديمة.
واصل "الاسكيزس"، في اللغة اليونانية ومعناه: رياضة أو ممارسة. فكان يعني في الأصل رياضة معينة للوصول إلى كمال معين. ولا تقتصر هذه الرياضة على ميدان واحد من ميادين الحياة بل على كل ميادين الحياة التي من شانها أن توصل الإنسان إلى درجة الكمال. اعتبر أهم ميدان لتحقيق الكمال هو القيام بتمارين رياضية بدنية مجردة وهو ما نعرفه اليوم ب " اتليتيكا ". ولكن مع مرور الزمن اكتسب الاسكيزس مفاهيم أخرى غير التمارين الرياضية البدنية منها:
+ أنّ مفهوم الاسكيزس صار يعني طريقة يحصل الإنسان بواسطتها على الحكمة والمعرفة. أي أن الجانب الروحاني _ وليس الجسماني كما كان سابقا _ احتلّ المكانة الأولى في مدلول ومفهوم الاصطلاح.
ومنذ اللحظة الأولى التي صاروا يتكلمون بها عن الشعور والحكمة والفهم والمعرفة صار من السهل إدخال هذا الاصطلاح إلى نطاق المعايير المثالية تلك المعايير التي شانها أن تغير مفهومها ومدلولها مع أي تغيير بسيط في منطقها الفلسفي. فهكذا مثلا انقلبت هذه المعايير المثالية إلى مدلول نفس المعايير التي ورد ذكرها في الإنجيل.
+وعندما أصبح مفهوم الاسكيزس _كمعيار مثالي هو نفس المعيار المثالي أو المعايير المثالية التي نصت عليها الأناجيل، اخذ هذا الاصطلاح مفهوما جديدا وهو _ الصلاح. ومن ثم انقلب إلى طريقة في الحياة هدفها الوصول إلى الفضائل والصلاح بنفس المعنى الذي تقر به الأناجيل لهذه الفضائل ولهذا الصلاح.
ولقد تمثلت الفضائل كلها في التمسك الكامل بالله الذي تجسّد في ابنه يسوع المسيح. وهكذا فرض هذا المفهوم على آداب السلوك في الحياة اليومية وفي الحياة الدينية وعلى علاقة الفرد بالدين. ولقد غلب هذا المفهوم الجديد على أي مفهوم آخر كان قائما من قبل.
ومع تغيّر مفهوم ومدلول الاسكيزس نجد أن مفهوما واحدا لم يتغيّر وهو أن الاسكيزس عبارة عن طريقة وأسلوب وليس هدفا بنفسه. فلقد ظلّ يعني الطريق التي تؤدي إلى الهدف، فهو ليس الحياة الدينية بنفسها بل هو الطريق للوصول إلى حياة دينية فضلى.
ومن طبيعة الأشياء أن يتغير الأسلوب أو الطريقة إلى أن يصبح هو الهدف بعينه.
فهكذا وبصورة مطلقة انقلب معنى الاسكيزس من طريقة تؤدي إلى الكمال إلى أن أصبح هو الكمال بعينه ولكن ليس بالنسبة إلى الكنيسة كمؤسسة رسمية، فالكنيسة كانت تعتبر الاسكيزس طريقا وليس هدفا، وإنما بالنسبة لكثير من المؤمنين إذ أصبح عندهم أمرا مرغوبا فيه بل قل طريقًا ملزمًا.
وهكذا لم تعد الاسكيزس طريقة توصل الإنسان إلى الكمال والصلاح بل أصبحت صورة طبق الأصل للصلاح والكمال أي التقرب إلى الله والتمسك به.
والآن بعد أن وصلت الاسكيزس إلى المفهوم الجديد فما هي مكانتها أو أين تقف في إطار العقيدة المسيحية؟ وهل أن حركة العزلة والرهبانية التي قامت على أساس هذا المفهوم للاسكيزس أمر تفرضه قواعد الإيمان؟ وهل أن الحياة الدينية تتطلب وجود الرهبنة؟ وهل أن النصوص التي وردت في الأناجيل تقضي بوجوب الرهبنة.
لو فرضنا وآمنّا بأن الاسكيزس والرهبانية أمر توجبه قواعد الديانة المسيحية لوقعنا في تناقض كبير لأنه لو كان الأمر كذلك فلماذا لا يشارك جميع المسيحيون بهذه الحركة؟
فهل علينا أن نشك أو حتى أن نتهم الكنيسة بأنها تمشيا مع رغبتها في المحافظة على مكانتها كانت مستعدة للتنازل لأكثرية الجماعات المسيحية عن الدخول في الرهبنة مع أنها فرض وواجب؟
رأي الباحثين:
بشكل عام يصعب على الباحث المسيحي أن يقيم المشكلة وان يصل إلى تقدير شامل، لأنه لا بدّ وسينطلق من وجهة نظر خاصة لا تخلو من الميول والأهواء.
وعلى كل حال ليس هنالك أي حركة في العالم المسيحي حظيت_ على الأقل من جانب الكنيسة الكاثوليكية _ بتقدير واهتمام كحركة الرهبنة ، وبالعكس تماما من الجانب البروتستانتي. فلذلك يكون من الصعب جدا أن نجد تقييما سليما لحركة الرهبنة يخلو من الميول والأهواء الشخصيّة.
وبإمكاننا أن نجمل رأي الباحثين البروتستانت فيما يلي :
انه لم يرد في الأناجيل المقدسة أي ذكر للاسكيزس، فلقد كتبت الأناجيل في فترة قصيرة، بعد السيد المسيح قبل أن تنشأ حركة الرهبانية، وقبل أن يظهر إلى الوجود اصطلاح الاسكيزس بمفهومه الجديد.
وعندما ظهرت الاسكيزس فإنها لم تستمد قوتها ومفهومها من الأناجيل، بل إنها كانت إضافة خارجية للديانة المسيحية، وعمليا فإنها زيّفت مفهوم المسيحية بخلقها حركة الرهبانية.
وإذا قلنا أن الاسكيزس وحركة الرهبانية قد زيفت مفهوم المسيحية فكيف نفسّر إذن بان الكنيسة القديمة قبلت هذه الفكرة، بل إنها أعطتها الصبغة القانونية والأهمية الأولى.
ومرة أخرى أقول بان الاسكيزس لا وجود لها في الأناجيل، ولذلك تظلّ هذه حركة إضافية على المسيحية.
أما حجة الكنيسة الكاثوليكية على وجود حركة الرهبانية، فتتمثل بان دخول العالم القديم المسيحية جابه الكنيسة بأناس انضموا إلى الكنيسة ولم يكونوا مسيحيين من الناحية الدينية العاطفية، ومن الجدير بالملاحظة أن قبول المسيحية كان بشكل جماهيري، وتلك الجماهير التي قبلت المسيحية لم تقبلها عن إيمان حقيقي واعتناق صحيح للمبادئ المسيحية، وإنما كان ذلك لأسباب أخرى كثيرة، فلذلك إن وجود حركة دينية تتمشى وأصول التعاليم المسيحية أمر ضروري في مثل هذه الحالة.
أما رد الباحثين البروتستانت بهذا الخصوص، فهو بأنه كان من واجب الكنيسة آنذاك أن تقفل أبوابها في وجه تلك الجماهير التي اعتنقت المسيحية اعتناقا غير حقيقي، وان تطلب من الجماهير ممارسة التقاليد والتعاليم المسيحية.
ولكن الكنيسة خافت على هذه الجماهير من أن تهرب منها إذا طالبتها بتنفيذ جميع التعاليم المسيحية ولهذا كان على الكنيسة أن تغير من شكلها وان تغير من أوضاعها، ولهذا فإنها سارت في طريق متسامح جدًّا، فصارت تقبل في صفوفها كل من أعلن عن نفسه بأنه مسيحي دون أن تطلب منه تنفيذ التعاليم والتقاليد المسيحية القديمة بحرفيتها.
وهنا انقسم العالم المسيحي إلى قسمين:
قسم حافظ على التقاليد المسيحية القديمة وقسم لم يطالب بجدية بان يمارس تلك التقاليد والتعاليم. وعلى هذا الأساس استند الباحثون البروتستانت بادعائهم بان الكنيسة القديمة زورت مفاهيمها وزيفت تعاليمها وحادت عن طريق الصواب.
أما بالنسبة إلى مؤيدي فكرة الانعزال والتزهد فلقد قالوا بأنه من الضروري أن نضع الاسكيزس في نطاقها القديم، أي كهدف قائم بنفسه يقضي بالابتعاد عن العالم، لان العالم هو ظاهرة مادية، وبكونه كذلك فهو غير طاهر، وإنما به شيء كثير من النجاسة والرجس.
ومن الجدير بالملاحظة أن الأناجيل لا تتكلم بهذه اللهجة أبدا عن العالم. فالأناجيل لا تحتقر ولا تكره هذا العالم الدنيوي، بل إنها ترى في كل المؤسسات الاجتماعية بما فيها العائلة والدولة ظاهرة زائلة في العصر المسيحي، وذلك لان الأمل بالخلاص قائم، وهذا الأمل ليس هو رهن المستقبل وإنما هو رهن الساعة. ومن هنا فان المجتمع والدولة يدخلان في نطاق الحاضر وليس في المستقبل.
ومعنى هذا أن علاقة المؤمن المسيحي إلى العالم الخارجي الدنيوي يجب أن تكون غير عدائية من جهة وغير مؤيدة من جهة أخرى، أي أنها يجب أن تكون علاقة ابتعاد، لان عالم الأشياء والمحسوسات هذا هو عالم زائل غير ابدي، وبما انه كذلك فانه لا يثير الحقد والكراهية، وبنفس الوقت لا يثير الحب والتأييد. ولهذا فان من واجب المؤمن الحقيقي الابتعاد عن هذا العالم والتخلص من قيود المجتمع التي تقيّده بقوانين وتقاليد زائفة زائلة، ولذلك فان أي اندماج في هذا المجتمع الزائل لا بد وان يضيف تعقيدا جديدا للأمور كإقامة عائلة أو امتلاك الأرض والأموال أو الدخول في الوظيفة، فكل هذه الأمور لا معنى لها لدى المؤمن الحقيقي الذي ينتظر الخلاص ،ومن هنا كان أساس التجربة التي قام بها أولئك المسيحيون للخروج من نطاق أو إطار المجتمع فالشعور بان الفرد جزء من المجتمع غير واضح عندهم، وبنفس الاتجاه هناك عامل آخر وهو الإيمان بالله ، الذي يجبر الإنسان على التخلي عن كل شيء من شانه أن يبعده وان يشغله عن التقرب من الله.
فعلى المؤمن إذن أن يلتصق التصاقا بتعاليم الإنجيل التي تنمي فيه حب الله، ولهذا السبب على المسيحي أن يبتعد عن كل شيء من شانه أن يقف حائلا بينه وبين الله، هذا الحب والمسيحي الحقيقي يوجه كل عالمه وأفكاره وعواطفه نحو حب الله وذلك لان جميع الأشياء ما عدا هذا الحب لا قيمة لها، جاء في إنجيل متى 21 :19 :" قال يسوع: إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني". وفي متى أيضا 24 :21 :" ومن أراد منكم أن يتبعني فلينكر نفسه وليحمل صليبه ويتبعني".وأيضا 21:29 :"وكل من ترك بيتا أو أخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو أولادا وحقولا من اجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية".
وفي لوقا البشير 26 :14 :" إن كان احد يأتي إلي ولا يبغض أمه وامرأته وأولاده وإخوته وإخوانه وحتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا".
تظهر من هذه الآيات الفكرة المركزية وهي التعلق بالله وهنا نجد أن الإنجيل لا يتكلم عن الاسكيزس مطلقا، بل انه يدعو الإنسان لان يترك كل شيء وينكر حتى نفسه أي كل ما يدخل ضمن الطبيعة الإنسانية وذلك لأنه يحد من الإيمان الصحيح، فإذا ابتعد الإنسان عن طبيعته البشرية يتمكن ساعة إذٍ من الاقتراب الكلي لله.فإذن لا توجد هنا كراهية للعالم بالهرب. هذا التركيز من الفرائض الإنجيلية غير موجه للعلية الدينية بل انه موجه لكل مسيحي بكونه مسيحي. ظل الكلام ملائما للحال حتى القرن الثالث حيث بدأ التغيير الذي كمنت أسبابه في الظروف الخارجية التي أنوجد بها الدين. ففي الربع الأول من القرن الرابع أصبحت الإمبراطورية الرومانية مسيحية، ولقد عنى هذا القول_إمبراطورية مسيحية- معنى خارجيا فقط، فلقد أعطى قسطنطين الصبغة القانونية لحالة لم تكن قانونية إذ أصبحت الديانة المسيحية في عهده ديانة مرخصة، وفي هذا الظرف بالذات تميز بهدوء نسبي أزمات اجتماعية واقتصادية عظيمة، أخذت المسيحية تنتشر انتشارا كبيرا، وانضم إلى الكنيسة أعداد هائلة، وهذا الاتساع الهائل وغير المنتظر اتخذ كدليل لإرادة الله، واتخذ أيضا كحجة لتغييرات كثيرة في الكنيسة ليس في أمور التنظيم والإدارة، فحسب وإنما بالنسبة للدولة والمجتمع.
فان هذا الدين الذي كان مطاردا مضطهدا والذي كان دين كل الطبقات الفقيرة، عندما خرج للدنيا بصفته القانونية تغيرت علاقته بالدولة والمجتمع تغيرا جذريا وعميقا، فلم تعد الكنيسة تقبل الابتعاد عن المجتمع أو الدولة وذلك لان أبنائها هم الدولة والمجتمع، وبما أن الأمر أصبح على هذا النحو فالتغيير أصبح أمرا ضروريا وبخاصة بالنسبة للعالم الخارجي.
وفي عشية الثورة الكبرى {أي ترخيص الديانة المسيحية} في القرن الثالث حينما كانت الكنيسة عضوا متمردا تدافع عن نفسها بكل الوسائل المنطقية الممكنة، ظهرت الكنيسة وكأنها تقف ضد العالم كله. فكل ما هو موجود داخلها اعتبر طاهرا مقدسا، وكل ما هو موجود خارجها اعتبر نجسا، وكان منطق الكنيسة آنذاك غير قادر على إعطاء أي صفة أدبية لأي شيء موجود خارج الكنيسة.
ومع هذا لم تستطع الكنيسة بمنطقها ذاك أن تتجاهل نقطة مهمة وهي أن ملكوت السموات غير موجودة ، الأمر الذي كان يحد من حماس الجماهير، فلماذا لا تتحقق ملكوت السموات؟
وإذا كانت مثل هذه التساؤلات والشكوك تدعو إلى إضعاف الحماس الديني عند الجماهير المسيحية، فكم بالحري عند غير المسيحيين؟
فإذا كان العالم الخارجي لا يتغيّر، وملكوت السموات لم يتحقق، فان انتظار الخلاص أصبح هو الحل المنشود، وما هذا الحلّ سوى تراضيا مع الواقع وهربا منه وليس تغييرا له. وبانتظار الخلاص وعلى هذا الأساس نمت الرهبانية ومعها حركة الديرية وقوي عودها.
ففي القرن الثالث وبالقرب من غزة انفرد بعض الناس وانعزلوا عن المجتمع وعاشوا حياة زهد وتقشف شديد، ولكن ما أن اطل القرن الرابع حتى أصبح هذا التيار الضعيف بحرا عظيما. ولم يكن هذا الانفراد وتلك العزلة هربا من المجتمع فحسب وإنما كان أيضا هربا من الكنيسة نفسها، وذلك لان الشؤون والأمور الدنيوية بدأت تتداخل في تنظيمات الكنيسة، فكان الابتعاد عن الكنيسة نفسها والعمل على خلق الحياة الديرية هو الحل وهو المتنفس لهذا التوتر الديني.
وفي مصر تمّ اللقاء بين الكنيسة والفلسفة الأفلاطونية الجديدة ، ومكان هذا اللقاء بمثابة اللقاء بين المادة والروح وكأنه اللقاء بين اللحم والدم، ولقد اكتسب الخلاص في هذا اللقاء معنى جديدا وهو مساعدة روح الإنسان على التحرر من كل ما هو مادي والامتزاج الكلي مع كل ما هو روحاني، ولتحقيق هذا المعنى الجديد كانت الخطوة الأولى هي : الهرب من كل ما هو مادي.
وإذا أضفنا هذا المفهوم الجديد إلى عامل آخر أكثر عمومية واقرب إلى الجماهير ، وهو أن الإنجيل يطلب من الإنسان الابتعاد عن حياة هذا العالم، كي يتسنى له ? أي للإنسان- بان يقترب من الله، نفهم لماذا نجحت دعوى العزلة والرهبانية ومن ثم حركة الديرية. فتمشيا مع تعاليم الإنجيل وواقع الحياة أصبحت الرهبانية أمرا مفهوما بل ومرغوبا فيه، لأنه ظهر تقريبا أن كل ما هو مادي هو المتبع وهو المفضل في هذا العالم ولكنه مخالف- بنفس الوقت لتعاليم الإنجيل، وتفيد تعاليم الإنجيل أمر صعب جدا يتطلب مجهودا فائقا وتضحية عظيمة، وهكذا أخذت الجماهير المسيحية تنظر إلى الرهبانية بأنها هي القادرة على تنفيذ تعاليم الإنجيل وان الرهبان يسيرون في طريق الصواب والحق وهناك عامل آخر ساعد على انتشار حركة الرهبانية في القرنين الثالث والرابع وهو انتشار الثقافة والعلم بين أفراد الكنيسة الأمر الذي أدّى إلى تصادم المعرفة مع الإيمان حيث كان من نتائج هذا التصادم _ الهرب من الواقع وهذا ما ولد عند بعض التيارات في حركة الرهبانية فكرة الابتعاد عن العلم والمعرفة لأنها ربطت بين المعرفة والخطيئة.ولقد دخل كذلك في حركة الرهبانية عنصر جديد وهو أبناء الأغنياء الذين كانوا باتون من روما وغيرها من المدن فكانت الرهبانية بالنسبة لهم هي المتنفس والمهرب من هذا العالم والرجوع بهم إلى عالم الفقر والحياة البدائية.
وفي عهد اوغسطينس { القرن السادس} انتشرت وتطورت فكرة الخطيئة الجدية، وكان لانتشارها اثر واضح في اتساع حركة الرهبانية، إذ تنسك عدد من الناس على أمل التخلص من الخطيئة الجدية عن طريق الابتعاد عن هذا العالم المولود بالخطيئة ، ولقد تخيلوا أنهم بهربهم وانعزالهم عن المجتمع ودخولهم في الرهبانية يتخلصون ويتحللون من تلك الخطيئة الملاحقة لهم طول الأيام. وهكذا نستطيع تفسير الرغبة في العزلة والتقشف بأنها كانت ثورة نفسية ضد ما ساد المجتمع الروماني في القرن الرابع من فساد.فالفرق الكبير بين تعاليم العهد الجديد وبساطة الكنيسة من جهة، وبين فساد العالم الخارجي من جهة أخرى، دفع كثيرا من المخلصين إلى الفرار نحو الأماكن النائية ينشدون راحة الفكر والضمير. هذا فضلا عن أن الاضطهاد الوحشي الذي لقيه المسيحيون والذي بلغ أشده في أواخر عهد دقلديانوس جعل الكثيرين يفكرون في الفرار بعقيدتهم إلى الأماكن المنعزلة. وهكذا أصبح نبذ الممتلكات والأهل والوطن نوعا من أنواع الرياضة النفسية التي تستهدف خدمة الدين فالفقر والحرمان يؤيدان إلى طهارة النفس كما أن العزلة في جو تكتنفه المصاعب من شانها أن تمحو الذنوب وتزيل الآثام.
والآن بعد أن عرفنا كيف ولدت فكرة الرهبانية وعلى ماذا استندت وكيف تطورت، سنسرد قصة أشهر راهب انعزالي.
سمعان العامودي {ت 459 }:
كان الرهبان الزهاد يمارسون العبادة الصارمة المتزمتة في عزلة عن الناس وبطريقتهم الخاصة، وكان المتطرفون في تقواهم ينبذون العالم ويعيشون في صوامع منعزلة يمارسون فيها حياة تقشف مبالغا فيها، فكانوا يحملون من الصلبان والقيود ما ينؤن تحت أثقاله الأليمة، ويحيطون أعناقهم وأطرافهم بالعقود والأساور ودروع الأرجل المصنوعة من الحديد السميك وكانوا يطرحون عن أجسادهم في احتقار كل ملبس يضايقهم ولا يحتاجون إليه، فكانوا يعيشون عراة لا يستر أجسادهم سوى شعورهم وكانوا يشاركون قطعان الماشية في أكل الحشائش من الأرض ويعيشون في جحور الحيوانات وفي الكهوف المظلمة وأكثر النساك كمالا هم أولئك الذين يقضون أياما كثيرة دون طعام وليال كثيرة دون نوم وسنوات كثيرة دون التحدث إلى احد.
ومن بين أبطال حياة الرهبنة راهب اسمه سمعان العامودي، الذي تخلد اسمه بصومعته الهوائية فعندما كان هذا الشاب السوري وفي الثالثة عشرة من عمره ترك مهنة الرعي وانضم إلى احد الأديرة وبعد أن قضى فترة طويلة في الإعداد للرهبنة فوق جبل يقع على بعد 70 كم إلى الشرق من أنطاكيا، وهناك قبع داخل دائرة من الأحجار وربط نفسه بقيد ثقيل، وبعد ذلك ارتقى عامودا كان في الأصل يرتفع عن الأرض ثلاثة أمتار، ثم رفعه على التوالي إلى عشرين مترا، وفي هذا الوضع المرتفع الأخير تحمل الزاهد الورع حرارة 30 صيفا وبرد صفر شتاء، وتعلم بالتعود والمران أن يظل في هذا الوضع الخطير دون أن يشعر بخوف أو دوار ، وان يتخذ مختلف أوضاع التعبد، فكان في بعض الأحيان يقوم بالصلاة منتصب القامة باسطا ذراعيه على شكل صليب ، غير أن الطريقة المألوفة لديه أكثر ما يكون هي انه كان يثني جذعه النحيل من جبهته إلى قدميه مرات ومرات يمل حصرها المشاهد بعد أن يجاوز الألف عدا.
كان أولئك الرهبان أمثال سمعان العامودي موضع احترام بل وتقديس الحاكم والشعب، فثمة جماهير متلاحقة من حجاج بلاد الغال والهند كانت تقدم التحية للعمود المقدس الذي جلس عليه سمعان ، وقبائل العرب المشارقة كانت تتنازع بالسلاح شرف بركته. وملوك بلاد العرب وبلاد الفرس يعترفون في امتنان بفضيلته الخارقة، كما كان ثيودوسيوس الأصغر يستشير هذا الناسك في أهم شؤون الكنيسة والدولة، وقد نقلت رفات الناسك من جبل تلنيسا في موكب مهيب يتألف من البطريق والقائد الأعلى للشرق وستة أساقفة وستة آلاف جندي، وأصبحت عظامه موضع تبجيل أنطاكيا على أساس أنها حليتها المجيدة ودرعها الواقي الذي لا ينال منه احد.
وتضاءلت شهرة الرسل والشهداء شيئا فشيئا إلى جانب هؤلاء الزهاد الذين أحبهم الناس وخرّ العالم المسيحي ساجدا أمام أضرحتهم وزادت المعجزات المنسوبة إلى رفاتهم عن تلك الأعمال البطولية التي حققوها في أثناء حياتهم.
وقد درج هؤلاء الزهاد على شفاء الأمراض المتأصلة بلمسة أو كلمة أو رسالة من بعيد وعلى طرد الأرواح الشريرة من النفوس أو الأجسام التي تسكنها. وكانوا يرقدون في ألفة إلى جانب سباع الصحراء وحيّاتها أو يسيطرون عليها بأوامرهم، ويبعثون الخضرة في الأشجار اليابسة ويجعلون الحديد يطفو على سطح الماء، ويعبرون النيل على ظهور التماسيح أو يقفون في داخل أتون ملتهب.
وهذه القصص المتسمة بالمغالاة والمبالغة أثرت تأثيرا خطيرا في إيمان المسيحيين وأخلاقهم ، وافسد تصديقها ملكات العقل وحقّر من شانها، كما أفسدت هي نفسها شواهد التاريخ