Skip to Content

الحياة الرهبانية - إعداد الأخ ميلاد جبارة

الحياة الرهبانية

Click to view full size image

إعداد الأخ ميلاد جبارة
مقدمة تاريخية  

 هل الرهبنة شذوذ؟وهل الرهبنة والنسك تطرف زائد عن العقول البشرية؟ من يجيبنا عن هذه الأسئلة أنت أم أنا أو لعل الرهبان أنفسهم يجاوبون عن هذه الأسئلة. الرهبنة والنسك قديمان من عصور ما قبل المسيح فقد كان لليهود رهبانهم ونساكهم كالقديس يوحنا المعمدان الناسك في برية الأردن ولنعلم أن الله هو مؤسس الرهبنة وهي من لدن الله خرجت لتعود بناظميها إلى لدن الله.   

 صدرت آلاف الأفكار المعارضة من أشخاص ليس لديهم أدنى فكرة حول محور الرهبنة والمحزن أننا نجد بعض من يدعون ظلماً وتعسفاً بأنهم مسيحيون وهي منهم براء يروجون لأفكار الملحدين حول الرهبنة.  

ان المسيحي الحق ليحزن عندما يرى الجهالة تدوس لآلىء التقليد التي لا تقاس بثمن التي تسلمناها من الرسل ولكننا نعلم أن الجهل هو مصدر كل الشرور حسب تعليم الآباء الرهبان القديسين ويؤكد القديس مرقس الناسك أنها منبع الشر الرئيسي ويحدد آخر أن الجاهل يجهل جهالته ويكتفي بمعرفته. بداية كان الرهبان يتجمعون في المدن قرب الكنائس ودور المطارنة والبطاركة، ومن هؤلاء الرهبان رهبان القديس مرقس الإنجيلي أول بطريرك على الاسكندرية الذي عاشوا قرب الدار البطريركية. نجد في عدة سير قديسين من عصر الرسل وجوداً للنساك كالقديسة افجانية الشهيدة فوجد في مصر دير لبس فيه الأسقف الياس الثوب الرهباني. وفي سوريا القديسة افدوكيا التي عاشت في بعلبك فينيقيا اهتدت إلى المسيحية عن طريق رئيس دير وبعد ذلك عاشت في دير فيه 30 راهبة. وفي آخر سنين القرن الثالث أسس أنطونيوس الكبير أب الرهبان الرهبنة في الصحراء وأسس القديس باخوميوس حياة الشركة الرهبانية ونظمها القديس باسيليوس الكبير بعده, وأسس القديس مكاريوس الكبير الهدوئية في صحراء الاسقيط وصار مصدراً لكلمة Skite.

 انتقلت الرهبنة في القرن الرابع إلى الصحارى المهجورة غير أن الأديرة بقت في المدن ولكن مع الأسف كل تاريخ الكنيسة أُتلف في القرن السابع على يد العرب المسلمين.هاجرت الرهبنة بعد أن توقفت أعمال الاضطهاد ودافعت الدولة عن المسيحيين ونشرت التعليم المسيحي فلم يحافظ المسيحيون على تفاني أجدادهم بل صاروا يهتمون بأمور الجسد وشهواته فرأى المختارون الذين صاروا قلة بأن هذه الأعمال هي إنكار روحي للسيد له المجد لذلك أصبحت الصحراء ملجأً طبيعياً للباحثين عن الهدوء وسط ضوضاء العالم وهي مفيدة لحفظ قوة المسيحية الكاملة, بعد انتقالهم إلى الصحراء اعتمد الرهبان لباساً خاصاً لتمييزهم عن العلمانيين  وعانت رهبنتنا الشرقية بعد القرن السابع وهو وقت دخول العرب المسلمين إلى البلاد تفاوتاً في الازدهار فبعضها استمر واندثر آخرون نتيجة لمحاربة الإسلام للرهبنة وتحول العديد من المؤمنين الذين ليسوا بمختارين إلى الإسلام فهي قد اندثرت تماماً في القرن الرابع عشر ما خلا الرهبنات القائمة على مزارات تقليدية كدير السيدة في صيدنايا ودير مار تقلا في معلولا.  

ومؤخراً نتيجة لسفر بعض طلاب البلمند إلى اليونان وتعرفهم إلى الأب اسحق والأب باييسيوس الآثوسيين وإلى جبل آثوس وتراثه الروحي ورغبوا بنقل هذه الحياة الرهبانية إلى بلادنا الحبيبة فكانت نهضة روحية أعادت الرهبنة إلى أديار عديدة وبنت أديار جديدة عديدة. لن نتحدث عنها لكثرة ما قيل وكتب عنها ولكن نشكر الله الذي سمح بعودة الرهبنة إلى ديارنا ورهبنتنا حديثة لذلك تقل الخبرة الآبائية. 
الراهب لغوياً  

الراهب (Monachose), الدير, الرهبنة, جاءت كلها من كلمة يونانية (Monos) أي واحد فالراهب هو الشخص الذي يعيش لوحده في قلايته أو في الصحراء. الدير هو بيت منعزل والرهبنة هي الحياة المنعزلة وتختلف الحياة الرهبانية عن الحياة التي نعيشها في العالم. وهناك أنماط عديدة للرهبنة كحياة الشركة وحياة الاسقيط والنسك والحبس والذين يعيشون في البرية والذين لا ينامون.  

حياة الشركة: العيش المشترك لعدد غير قليل من الرهبان يشتركون في الأسرار وفي تناول الطعام واللباس والصلاة ويطيعون رئيساً واحداً.  

حياة الاسقيط: هي أن يحيا اثنان أو ثلاث رهبان في قلاية واحدة يستشيرون بعضهم بعضاً أو يسترشدون بالمتقدم بينهم ويشتركون بالطعام واللباس الواحد ويقومون بفروضهم خمسة أيام في قلايتهم ويومي السبت والأحد في كنيسة الاسقيط مع بقية الإخوة.  

الناسك: هو الراهب الذي يعيش منفرداً.  

الحبيس : هو الراهب الذي يعيش متوحداً في قلاية الدير دون أن يخرج منها.  

الناسك السائح: هو المتوحد الذي يعيش في برية خالية من السكان.  

الهدوئي: هو من يحيا في الهدوء في عزلة عن العالم ويكرس ذاته كلياً لله وجهاده هو أن يأتي بذهنه إلى قلبه. 

 لباس الراهب:  يرتدي الراهب لباساً أسود اللون وصفه القديس يوحنا كاسيان في بداية كتابه حول الأنظمة الرهبانية. ويبدأ الزنار وهو رمز للعفة والطهارة (البتولية) وللتجنيد للمسيح.

 الغمباز(الكولوبيوم) وهو القميص الأسود ويرمز إلى الانفصال عن العالم وإلى الحداد والموت بالنسبة للعالم.  

المانتيليون: وهو معطف بدون أكمام يربط عند الرقبة وقد تحول الآن إلى الجبة ويرمز إلى ارتداء المتوحد لمجد آدم الأول الذي نزع عنه بعد السقوط.  

الكوكلس: القبوعة وقد تحولت الآن إلى الكاميلافكيون ويرمز إلى براءة وبساطة الأطفال فالراهب المتوحد هو مولود جديد في المسيح.

 الأنالافون: الذي يرسم عليه الصليب ويحمله المتوحد على ظهره ليلاً ونهاراً يرمز إلى حقيقة صلب العالم للمتوحد والمتوحد للعالم.

 الحذاء: للتقدم والسير في طريق الإنجيل.  

المسبحة: سيف الروح وعلى المتوحد أن يحفظ اسم الرب يسوع عن طريقها. 

 غاية الرهبنة: في البدء كانت الحمية للرب تدفع الناس إلى عيش وصايا الإنجيل ولكن بعدما هدأ الاضطهاد صارت حميتهم أقل فصاروا يهتمون بأمور الجسد والشهوات مما اعتبره الآباء إنكاراً روحياً للمسيح. 

 وبنتيجة ذلك صار الرهبان يهربون للحفاظ على حياتهم الهدوئية بعيداً عن ضوضاء العالم, نحو الاشتهاء الكامل فنحن كمسيحيين أولاً وأخيراً لا نشتهي إلا الرب يسوع ورؤيته وهو ما يتحقق لنا بالرهبنة ويمكن أن يتحقق في إطار الحياة العائلية وهما الطريقتان المؤديتان إلى الفردوس.  

هناك أناس قادرون على عيش وصايا الرب وهم في العالم وأولئك لمغبوطون ولكن أكثر الناس لا يقدر على ذلك في عالم مليء بالشهوة والإباحية والملذات الدنيوية كعالم اليوم فهؤلاء يهربون إلى الأديرة والبراري طلباً لرؤيا وجه الرب يسوع.  

فغاية الرهبنة هي نفس غاية الحياة المسيحية للإنسان ولا بد من الجهاد القاسي والقاسي جداً كي نصل إليها فطوبى لمن اختار الحياة الملوكية (الرهبنة) وطوبى لمن اختار الحياة الأميرية (الزواج) ولكن عند الإمبراطور (الرب) الملوك لأرفع من الأمراء ونستدل على ذلك من الحوار الذي دار بين كل من القديس باييسيوس الكبير حبيب الرب والقديس قسطنطين الكبير المتوج من الله أثناء ظهور ذاك الأخير له.  

غادر محبي الكمال العالم ونسكوا في الصحارى وعلى قمم الجبال وبين أغصان أشجار الأدغال, هرعوا إلى الصحراء المهجورة "ليصلبوا الجسد بكل ما فيه من أهواء وشهوات" (غلا 24:5)  ابتكر الرهبان لأنفسهم طريقة حياة مختلفة, فيتحملون آلاف المحن, يصومون, يقاومون الشياطين, يرغمون جسدهم على مقاومة الأعداء غير المتجسمين كما يقول القديس يوحنا كولوفوس.  

إن الراهب يهرب بعيداً عن العالم لا كرهاً له بل حباً به وبهذا الأسلوب بصلاته سيساعد العالم في حل قضاياه التي لا تتم إلا بتدخل إلهي, فغاية الراهب ليست الاهتمام بالأعمال الكثيرة ولا امتلاك الأموال الطائلة لأن هذا انهيار روحي ولا يتركون البرية للذهاب إلى المشفى لأن هذا لعامة المؤمنين كما أن هؤلاء المؤمنين سيسألون عنه يوم الدينونة الرهيب. 
الرهبنة والاستشهاد:  

كلاهما لم يصنعهما بشر, فهما من أحكام الإنجيل خرجا, أسسهما الرب يسوع. فنحن نقرأ في سير كبار النسك كأنطونيوس وثيوذوروس ومكاريوس وباييسيوس حبيب الرب وجراسيموس الناسك الجديد ومريم المصرية والعديد من البطاركة الذين عاشوا رهباناً وقد كانوا قبل بطريركيتهم نساكاً كالقديس يوحنا الذهبي الفم وكثيرون غيرهم ممن كانت جهاداتهم تفوق الطبيعة أنهم كانوا بحاجة إلى نعمة الرب ومساندته لبلوغ النجاح وهذا ما نلمسه لدى قراءتنا سير كبار الشهداء كجيورجيوس المعظم في الشهداء وديمتريوس وبندلايمون وكاترينا وبربارة أيضاً.   

 

 البتولية شرط الرهبنة  

ليست البتولية امتناعاً عن ممارسة الجنسية فقط فالقديس باسيليوس الكبير قال: "لست أعرف امرأة ومع ذلك فإني لست بتولاً". فالبتولية ليست بوضع خارجي بل هي حالة فهي ليست فضيلة بل واسطة نرتقي بها إلى سيء أعظم.

إن غاية البتولية الرهبانية هي إعادة وحدة الطبيعة الإنسانية وكمالها لأن على الإنسان نفساً وجسداً أن يعمل من أجل الكمال والبتولية تجمع الإنسان في حب الله.  الزواج لا يناقض البتولية ولا هي تناقضه فسر الزواج هو سر الطهارة ولكن الراهب هو إنسان لم يجد كماله في الزواج العادي بل وجده في الزواج الروحي أي أن يتحد بذاته مع المسيح لذلك الرهبان هم أفضل من فهموا سر الزواج واحترموه.  

والبتولية أخصب من الزواج فالراهب يعطي بصلاته أولاداً روحيين للكنيسة أكثر من الزواج, العفة في الزواج مغبطة فلكم هي أكثر مدعاة إلى الغبطة إن كانت حرة طليقة من رباط الوصال الجسدي وزاهدة متنسكة من تلك الرغبات التي يشتهي الكثيرون تلبيتها ولم يكتفوا بذلك بل تخطوها فمارسوا الشذوذ الجنسي مع المثيلين وغيروا جنسهم ومارسوا الجنس مع الحيوانات وهذا أقرف الأمور إلى نفس الإنسان الصحيح. 

 فالبتولية قصة حب وهي المرافقة في السفر إلى الله فطوبى لمن عاش بتولاً وطوبى لمن عاش عفيفاً في زواجه ولمغبوط هو البتول ومن أكبر الأمثلة على ضرورة بتولية الراهب هي بتولية سيدتنا والدة الإله الدائمة القداسة الأم والبتول معاً (افرحي يا عروساً لا عريس لها). فالراهب عليه أن يستمر في تحقيق بتولية كالعذراء مريم القديسة إلى أن يولد منه المسيح.  

البتولية الرهبانية هي الحكمة الكاملة بالنسبة للإنسان ويرمز إليها الزنار في اللباس الرهباني الذي يمنع هذه الحكمة من الهبوط من الأعلى إلى الأدنى فلقد مات البتول عن الأدنى وقام فنال بداية عدم الفساد.  لحفظ البتولية لا بد من النسك والانضباط في الطعام وفي الكلام وفي الفكر ولكن الشرط الأساسي لحفظها هو الصلاة فالقلب المحب الطاهر الذي يتشوق إلى رؤية وجه الله هو من يحفظ البتولية فلا بتولية بدون حب. 

 يرى البعض في الرهبنة جهاداً بطالاً وحياةً لا معنى لها ومناقضة للإنجيل, ولكن ما لا يعلمه أولئك أن ما يقومون به ويدَّعون أنه صالحات لا يقترب بهم حتى إلى باب الملكوت (والحكمة لله) ويجب ألا نتباهى بأعمالنا كالفريسي لأن الحياة الرهبانية تبدو غير نافعة لمن يتباهى بأعماله, ولكن وجهة النظر العالمية هذه عن الرهبنة تعبر عن نظرة خاطئة للمسيحية فالمسيح الرب بنفسه أظهر لنا الكمال المسيحي أساس الرهبنة.

 ويبدأ هذا الطريق بإتمام الأعمال الصالحة التي يتباهى بها العلمانيون .  ابحث عن المسيحية, فتكتشف أهمية الرهبنة وتكتشف مقدار الخطأ الجسيم الذي يرتكبه كل من يوجه الاتهامات والتجديفات للرهبان الذين يحاولون أن يطبقوا تعاليم الإنجيل السامية. فكل من رفض الرهبنة رفض السيد ذاته الذي أظهر لنا طريق الكمال وطلبَ ولم يفرض أن نسلكه.  

الجهاد لأجل التغلب على الطبيعة الساقطة يعود إلى حرب لا يدركها ساميعها, هذا الجهد يقترن بعدم التملك الذي يؤدي إلى التواضع. فالأرواح الشريرة تتعاون مع الطبيعة الساقطة لتبقي الإنسان داخل الحياة السابقة, فالورقة المشبعة بالزيت والموضوعة في الماء لا تعود تتشرب الماء لأن هناك مادة أخرى تغذيها, هكذا حياة البتولية كما يشبهها القديس إغناطيوس بريانتشانينوف.

ورُبَّ سائلٍ هل البتولية ضد الطبيعة البشرية ومستحيلة؟

كل مجهول يبقى دوماً مستحيلاً وكل ما نعمله شخصياً يبقى بنظرنا الأفضل ويجيب الآباء القديسون على ذلك بقولهم:  إن البتولية غير طبيعية بالنسبة للإنسان الساقط لكنها طبيعية للإنسان قبل السقوط "كانا كلاهم عريانين, آدم وامرأته وهما لا يخجلان" (تك 25:2) فبعد أن أعادنا آدم الجديد إلى طبيعتنا المفقودة أعيدت لنا إمكانية حياة البتولية.  البتولية أسمى من الزواج ولو كانت الحياة الزوجية سامية في المسيحية أكثر مما كانت عليه قبلها. الإله الإنسان عاش بتولاً ووالدته عذراء والرسل يوحنا اللاهوتي وبولس وغيرهم بقوا عذارى وبعد المسيحية أتى الكثير من العذارى رجالاً ونساءً ويقول القديس أمبروسيوس مفسراً ذلك: "نبشر بالعذرية بطريقة لا ترفض فيها الأرامل ونكرم الأرامل بطريقة يبقى فيها الزواج مكرماً".  
كيف نعرف دعوة الله لنا؟! 

عندما نريد نستطيع, البتولية تختار طوعاً ولا يفرضها أحد وهذه الهبة (الطهارة) مرسلة من الله وهي تغير وتجدد في الطبيعة الإنسانية وهكذا نجد إمكانية حصول كل إنسان على البتولية وفي النهاية يفرح "اطلبوا تجدوا" (متى 8:7) "هناك خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله" (متى 12:19) لنتفحص سير القديسين نجد أن حفظوا البتولية بواسطة الانتقال من استحالة البتولية في الطبيعة الساقطة إلى حالة الطبيعة الثانية حيث البتولية ممكنة وذلك بفضل جهاد مرير ضد رغبات الجسد وبمؤازرة النعمة الإلهية وكان سلاحهم الرئيسي (البكاء والصلاة) .

وفي الحاضر نجد العذارى يهربن من الزواج ويعود الخطأة والقتلة والزواني إلى الطهارة ومع ذلك كان القديس ايسيذوروس على حق في كتابه للقديس كيرللس: "ذو الرأي المسبق لا يرى واضحاً والكراهية عمياء". لكن حياة التوحد تأتينا من الله بثلاث أشكال: 

- النداء المباشر: كالقديس أنطونيوس الكبير الذي كان يوماً في الكنيسة وسمع مقطعاً من انجيل متى الإصحاح التاسع عشر "إذا كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كل شيء فأعطه للمساكين" فحركت قلبه وشعر بالدعوة المباشرة وبخصوصية الكلام له وتوحد في البراري.  

- النداء غير المباشر: نداء الله من خلال الكوارث والصدمات أو الظروف التي يرتبها الله للمرء حتى يأتي به إلى الحياة الرهبانية.  

- النداء العقلي البشري: الدعوة التي تجيء بالمرء إلى الدير كنتيجة لتفكير واستصواب من العقل دون حماسة كبيرة. 
كلمة لأهل العالم 
يظن البعض أن الرهبنة هي الطريق الوحيد للخلاص, كلا فهي ليست الطريق الوحيد ولكنها الطريق الأقصر والأسهل رغم كل جهاداتها القاسية فإن الرهبنة تضع الإنسان مقابل الله, ليس له عمل سوى الله بينما الإنسان الذي يعيش في العالم له أشغاله وأعماله التي قد تفصله عن الله والله لا يطلب منَّا التفرغ لأجله فاهتمامات الإنسان الدنيوية ليست بشيء سيء ولكن يجب ألّا تمنعه عن عبادة الله وهذا بالأمر الصعب فلذلك الرهبنة هي الطريق الأمثل والأقصر الأسهل لبلوغ الملكوت ولكن ليست أي رهبنة بل الرهبنة الحقيقية الهادفة إلى الثيوريَّا  ورؤية المجد السماوي الذي يتمتع به المختارون.

لنشجع أولادنا للرهبنة ولنأخذهم في زيارات حج إلى الأديرة ولنأخذهم دائماً إلى الكنيسة ونأخذهم إلى جلسات ومحاضرات رغم صغر سنهم ولنقم بإلزامهم في الجلوس لفترة طويلة والرب سيكون معنا.
حياة التوحد: 
هي حياة توبة وهي حياة امتداد إلى الأمام لا يعرف الوقوف لأن بلوغ الكمال سقوط مريع (القديس غريغوريوس النصيصي) الله هو الحقيقة والتوبة هي جوع وعطش إلى الله لا حد لهما فالنفس تريد الله فيجب عليها أن تفتش عنه لأنه إن لم تفتش عنه فتشت عن اللذة واستعبدت لها. فحياة الراهب ليست سوى تذوق مسبق لطعم الحياة الأبدية إذاً فعلى الراهب أن لا يقف أبداً في التقدم الداخلي. ويروى عن القديس سيسوي الكبير أنه لما كان على فراش الموت والرهبان حوله لاحظوا أن وجهه أشرق واستنار فسألوه ما به؟ فأجابهم: إني أرى أبانا القديس أنطونيوس الكبير, ثم ازداد وجهه إشراقاً لأنه رأى الرسل القديسين الأطهار ثم أشرق إشراقاً بهياً جداً لأنه رأى العذراء القديسة ورأوه يتمم بشفتيه كأنه يتحدث إلى أحد ما, وكان يتحدث إلى العذراء ويتضرع إليها كي تشفع له لدى ابنها الإله كي لا يموت كي يبدأ بالتوبة.

وعلى الراهب ألّا ينتظر مفعولاً أو نتيجة لجهاده حتى الموت.  الشيخ بافنوتيوس المتوحد كان ذات مرة ماراً في قرية تكثر فيها حوادث الدعارة بلا خجل فوقع نظره على خطايا سكان القرية فما كان منه إلا أن بكى طالباً إلى الله أن يغفر خطاياه هو.  وحياة التوحد هي حياة تمجيد لله كالملائكة فالرهبان هم الذين أوجدوا الذكسولوجيات والتسابيح والليتورجيات أي التمجيد السماوي على الأرض فالراهب لا يستطيع الامتناع عن التمجيد لأنه يرى الله.
  أين نجد المتوحدين؟!! 

 

نجد المتوحد على صليب السيد المسيح فالمتوحد هو الإنسان الذي يعيش على صليب السيد المسيح كما قال الرب: "من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ولينكر نفسه ويتبعني" (مرقس 34). فالموت صار سبباً للحياة فلكي نحيا يجب أن نموت ولكن موتنا ليس موتاً مغلقاً بل مفتوحاً فالمتوحد انسان يموت ويقوم دون انقطاع.  ليعلق الإنسان على الصليب يكون بحاجة إلى أربع مسامير هي العفة والفقر والطاعة حتى الموت وهو الصبر المعني في الثلاث وهو الذي يثبت المتوحد على خشبة الصليب حتى النهاية حسب قول الرب "بصبركم تقتنون نفوسكم".  

الكنيسة التي بلا رهبان ينقصها أساس الحياة المسيحية فالفيسلوف الدانمركي كيركفورد قال: "كل بؤس العالم وشقائه متأتٍ عن عدم توفر الرهبان". فالعالم من دون رهبان يسير كسفينة من دون رُبان.  

الذهاب إلى الدير  

قبل ذهاب أي شخص إلى الدير وجبت عليه تهيئة الأهل والعالم لقراره هذا حسب إرشادات الأب الروحي لأن الأهل قد لا يتقبلون فكرة ابتعاد أبنائهم عنهم ويسببون المشاكل للدير لذا وجبت التهيئة وكذلك عندما يرفض الأهل رفضاً قاطعاً علينا تركهم وشأنهم والذهاب إلى الدير ومتى دخلنا باب الدير علينا أن نصمم أننا لن نخرج منه حتى الموت بعون الله فيجب إذاً على مريد الرهبنة أن يتمم تعليمات أبيه الروحي ويجب ألّا يتسرع في اختيار الدير الذي يريده.  
نقاشات حول الرهبنة 

 

- هل الرهبانية كسل وأنانية؟ الأنانية تبحث عن الأنا أما حياة الراهب فصلب الأنا فالراهب يتنازل عن كل شيء, عن الجمال والحب والمال والجاه والمجد البشري بل ويخلى عن ذاته وعن حريته وإرادته وإن كان ثرثاراً فيعلمه الدير الصمت وإن كان كسلاناً فيسمع قرع الناقوس يدعوه إلى الصلاة والعمل وإن كان لا يميل إلى الجهاد فالحياة الرهبانية جهاد مستمر فالراهب في حالة طوارئ دائمة لا تقبل التواني أو التغاضي للحظة. فهل هذه أنانية وكسل... 

- هل هذا شذوذ أو ابتكار لا وجود له في الكتاب المقدس؟ ليس مقياس الشذوذ ما تتبعه غالبية الناس أما الكتاب فيحوي العديد من الآيات التي تتحدث عن الرهبنة وواضح وجلي فيه أن روحه وروح المسيحية متجهة نحو التكريس الكلي لله ومن يعرف الكتاب يعرف فيه العديد من الأشخاص المفروزين كإبراهيم وإيليا وكافة الأنبياء. فليست الرهبنة شذوذاً بل هي تكملة لسلسلة مقاصد الله الخلاصية قد يكون ذلك شذوذاً عند عامة البشر وذلك هو صليبنا والصليب شذوذ وجهالة عند اليونانيين لا عند المؤمنين بيسوع المصلوب.  

- هل الرهبنة ضد الطبيعة الإنسانية والمجتمع؟ ليست مهمة الراهب إلا أن يعود إلى بيت الله الذي فقده آدم الأول بخطيئته ولهذا ينصرف الراهب إلى إصلاح نفسه وتقويتها فالرهبنة ليست ضد الطبيعة الإنسانية بل هي العودة إلى الطبيعة الأصلية وليست ضد المجتمع لأنها مجتمع الحياة المثالية للإنسان وليست ضد التاريخ لأنه تقودنا إلى نهاية التاريخ إلى مبتغاه إلى الحياة الأبدية.  وكوننا أنطاكيو الهوية فيجب علينا أن نتحدث ولو بقليل عن رهبنتنا الأنطاكية...  

الرهبنة في كنيسة أنطاكية حالياً  

ازدهرت الرهبنة في بلادنا الأنطاكية ازدهاراً عجيباً في قرون المسيحية الأولى ولكن ما لبثت أن خفت بعد الفتوحات العربية الإسلامية ومقاومة الإسلام للرهبنة فخفت الرهبنة واندثر بعض الأديرة التي كانت قائمة منذ العصور البيزنطية وحتى القرن الرابع عشر حيث اندثرت الرهبنة تماماً ما خلا الرهبنات التي قامت على مزارات تذكارية كدير السيدة في صيدنايا ودير مار تقلا في معلولا وبقيت الرهبنة في بعض الأديرة التراثية كدير القديس سابا في فلسطين الذي كان عدد رهبانه خلال الفترة الإسلامية يناهز الألف وكان مركز إشعاع فكري وديني وثقافي ومن أبرز رهبانه في تلك الفترة القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي الكبير والمؤلف البارع الذي كتب وكتب حول العقيدة والأيقونات والإسلام والكثير الكثير غيره.  

ولكن بعد قيام حركة الشبيبة الأرثوذكسية الأنطاكية انبثقت عنها رهبنتان للرجال والنساء في دير القديس جاورجيوس دير الحرف- ودير مار يعقوب الفارسي المقطع.

وكنتيجة لمرور بعض الأشخاص بجبل آثوس وتعلقهم به شعروا كم نحن بحاجة إلى مثل هذا التراث فما كان منهم إلّا أن حاولوا نقله إلى بلادنا العربية الحبيبة وأحيوا بعض الأديرة القديمة المهجورة من رهبانها كدير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي الذي أحيا رهبنته صاحب السيادة الأسقف يوحنا (يازجي) ودير القديس جاورجيوس في صيدنايا الذي يرأسه قدس الأرشمندريت يوحنا (التللي) ودير رئيس الملائكة ميخائيل الذي يرأسه قدس الأرشمندريت أفرام (كرياكوس) ودير سيدة حماطورة الذي يرأسه قدس الأرشمندريت بندلايمون (فرح) ودير القديس يوحنا المعمدان الذي ترأسه قدس الأم مريم (زكا) وأنشئت أديار جديدة كدير سيدة بلمانا وترأسه قدس الأم مكرينا (سكيف) ودير القديس سلوان الآثوسي ويرأسه قدس الأرشمندريت توما (بيطار) وهنالك عدد من الأديار ينتظر أن تقام فيه شركات رهبانية كدير مار الياس الريح في أبرشية عكار وغيرهم.  

فرهبنتنا حديثة العهد إذ يرجع أقدمها إلى حوالي الخمسين سنة ولكن بقي أن نذكر أن الرهبنة كانت مسعى عدد ممن أضحوا اليوم أساقفة كالميتروبوليت جاورجيوس (خضر) والميتروبوليت قسطنطين (باباستيفانو) والميتروبوليت بولس (بندلي) والميتروبوليت يوحنا (منصور) الذي بقي في دير الحرف زمناً قبل أسقفيته.  واليوم نحتاج إلى الرهبنة في إنطاكية كحاجتنا للطعام والشراب فهي الغذاء الروحي الذي يغذي الشعب المؤمن من خلال ما تقدمه من نصائح واعترافات وإرشادات وخلوات والقيام بالرياضات الروحية, ومن خلال تجوال الآباء الرهبان على أبرشيات الكرسي الأنطاكي ومن خلال ما يحاضرون به وما يؤلفونه ويترجمونه وينشرونه.  

ولكن قد يقال أن الكرسي الأنطاكي بحاجة إلى عمل سريع؟! نعم ولكنه بحاجة قبل أي شيء إلى الرهبنة فمنذ سنين طويلة وجد أساقفة وكهنة وبطاركة عملوا على الترجمات والنشر وإنشاء المجلات والحركات الدينية وحتى الآن لا تزال الكنيسة بحاجة ولن تتوقف عن العوز حتى يوجد فيها أُناس مكرسون لله بشكل كافٍ ووافٍ.  فلنطلب ما نحتاج إليه أولاً والباقي كله يزاد لنا حسب قول الرب يسوع.  
الخاتمة: 

 

هذه هي الرهبنة وليس أعظم منها فقد قيل المسيحيون أفضل الأمم والرهبان أفضل المسيحيين ولكن يجب علينا بدل التخويف الترغيب وبدل المكر الدهاء ولنقم بتربية أولادنا المسيحيين تربية مسيحية صادقة. ولنتشبه بالسيد الرب القائل: "دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات".

ولنتفهم إرادة أولادنا بالرهبنة لندعهم يخوضون هذه المرحلة من حياتهم ولنتحمل بعدهم عنَّا فيروى أن أحد النساك العظام ممن نسكوا في البراري جاءته والدته لرؤيته لأن كل أولادها نسكوا مع أخيهم هذا فما كان منه إلّا أن أغلق الباب بوجهها وقال لها أن تصبر على فراق أولادها فتراهم في الفردوس حسب قول الرب يسوع "بصبركم تقتنون نفوسكم".

وكذلك لنقف عن التكلم عن الرهبان ونسترجع كلام قديسنا الكبير المعادل الرسل قسطنطين الكبير أثناء المجمع المسكوني الأول في نيقية الذي رأسه: "إني ولو رأيت الرهب يزني لغطيته ببذلتي" ولنتعظ مما سبق خاصةً في بلادنا حيث يكثر النمَّامون ويكثر حديث الناس عن الكهنة وتمسخر أعداء الحق بنا بسببهم

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +