دور المرشد في المفهوم الكنسيّ
الأب بسّام آشجي
محاضرة قُدّمت في دورة مار يعقوب الرهّاويّ لإعداد المرشدين لمركز التربية الدينيّة، التابع لمطرانيّة السُريان الأرثوذكس بحلب، مرعيث كنيسة مار جرجس (حي السريان)، بتاريخ 20 شباط 2009
مقدّمة
يرتبط دور المرشد في رسالة التربية الدينيّة بالمفهوم الصحيح لهذه الرسالة، لذلك لا بدّ لنا أن نتعرّف على هذه الرسالة أولاً، وتحديد بعض خصائصها الأساسيّة، واستنتاج صفات المرشد من خلالها، للوصول أخيراً إلى دوره في المفهوم الإنجيلي والكنسي، الذي هو يقوم فعليّاً بدور "العراب" الذي ألفته الكنيسة الأولى في قبول المعمّدين وتهيئتهم.
1- التربية المسيحيّة هي فعل إعلان "الإنجيل" (بشارة)
التربية المسيحيّة هي أولاً وآخراً "إنجيل"، والكلمة يونانيّة (إيڤانغيليون) تعني "البشرى السارّة". إنّها في جوهرها "كرازة". والكرازة أيضاً كلمة مشتقّة من اليونانيّة والسريانيّة، وتعني إعلان البشرى بحدث الخلاص، أي بأن الله أحبّنا وأرسل إلينا ابنه الوحيد يسوع المسيح، مبشراً بحلول الملكوت المنتظر وداعياً إلى التوبة والإيمان الذي حقّقه بموته وقيامته.
فالتربية المسحيّة هي عملية نقل "البشرى" هذه إلى الناس أجمعين كباراً وصغاراً، ولدينا المثال في ذلك بطرس الرسول لمّا هتف بهذا الإعلان يوم العنصرة (أنظر: رسل 2/1-14).
2- التربية المسيحيّة تقوم على الحوار والمشاركة
التربية المسيحيّة ليست سلسلة معلومات يجب تلقينها بل مسارات حياتيّة تقترح لعيشها. ولا يناسب هذا النوع من التربية إلا أسلوب الحوار الذي دأب يسوع كثيراً على استعماله خصوصاً مع التلاميذ. ويستخدم المرشد طريقة يسوع ذاتها متفنّناً بطرح الأسئلة، مستعيراً الأساليب التالية:
أ- الحوار الإخباري: وهو تلقين معلومة أو عرض فكرة أو قراءة نص وهو لا يتعدّى الصيغة التعليميّة، يكون المرشد هو المحور ويطرح على التلاميذ فرصة التساؤل للمزيد من المعرفة. ويهدف هذا النوع من الحوار لخلق مخزون معرفي ديني صحيح وواضح لدى التلميذ.
ب- الحوار التوجيهي: وهو توجيه التلميذ نحو استنتاج فكرة معيّنة أو للوصول إلى خبرة روحيّة أو مقصد حياتي. ويقوم على طرح المرشد تساؤلات على التلاميذ بهدف تحفيزهم لاستنباط الهدف الذي حدّده المرشد مسبقاً.
ج- الحوار الشخصي (الوجودي): وهو إدارة الحوار بين المرشد والتلاميذ من جهة، والتلاميذ فيما بينهم من جهة أخرى لاكتشافات جديدة تخصّ حياتهم اليوميّة وعيشهم للإيمان المسيحي. وعلى المرشد القبول سلفاً بأن الأولاد قد يقدّمون أفكاراً أو خبرات لم يكن قد توقعها مُسبقاً، ولا بدّ هنا من الإصغاء لعمل الروح القدس في اللقاء الديني. كما أنه يحبَّذ أن يظهر المرشد نفسه كمتلقٍ لنداء الروح، فهو مثل تلاميذه تلميذاً أمام المسيح المعلّم والمرشد.
3- التربية المسيحيّة هي تأوين "الإنجيل"
إن فعل التربية الدينية المسيحيّة هو "تأوين" الإنجيل للآخرين ليتحقّق حضور يسوع لهم. حيث يمهّد المرشد للقاء الأولاد بيسوع من خلال تأوين النص، وتقديم الاختبارات الموجودة فعلاً والمرغوب في إيجادها: هل يوجد في أفكار النص، أو شخصياته، أو أحداثه، ما ومن يشبهني، أو أريد أن أتشبّه به، ولو قليلاً؟.. هل هناك كلمة أو عبارة كانت لها وقع خاص في قلبي؟ يمكننا ترك النص جانباً والتأمل في هذه العبارة أو الكلمة. مثلاً: "وجدنا المسيح".. "ارحمني".. "تحنَّن علينا وأغثنا".. "أنت الصخرة".. "ترك كلَّ شيء وتبعه"..
كما يمكننا تفعيل الرمزية في ذلك، لنقرأ مثلاً نص "مخلّع كفرناحوم" (مرقس 2/1-12) ونتساءل: هل يمكنني أن أشبه أو أتشبّه بواحد من الرجال الأربعة الذين قدَّموا المخلَّع في كفرناحوم للرب؟.. من هو المخلّع في حياتي لكي أحمله إلى الرب؟ لن أحرِّره أنا، إنما المطلوب أن أقدِّمه للرب بشكل صحيح في وسط زحمة الحياة. المطلوب، في عمق الصعوبات، أن أبتكر طريقة دقيقة وجديّة لكي أوصل الآخر إلى يسوع، ولو تطلّب ذلك جهداً أو خطراً أو مغامرة كما فعل الأربعة حين صعدوا إلى السقف ونقبوه في موضع تواجد يسوع لكي يقدموا الآخر تماماً أمام يسوع. ولن أن أنسى أن هذه الحركة لن تتمَّ بمفردي بل بالتعاون مع الآخرين، إنهم أربعة. ولو كنت أشبه المخلّع! ما هو تخلُّعي؟ هل هناك من يساهم معي في الوصول إلى الرب؟ أتكون أنانيتي هي السقف الذي يحتاج إلى ثقب؟.. هل أنا من الذين ينتقدون كالكتبة والفريسيين؟..
هكذا إذاً يحقّق "التأوين" عمل البشارة (الإيڤانغيليون) ويتمّ التمهيد للقاء بيسوع.
4- التربية المسيحيّة: "تلمذة" ثلاثيّة الأبعاد
(أنظر: مت 28/19-20، يو1/35-51)
إن العلاقة في تعليم المعارف والعلوم تكون بين شخصين : المعلّم والتلميذ. وهي بتعبير آخر علاقة أفقيّة. ويكون الموضوع فيها مختلف حسب هذه العلوم والمعارف.
أمّا العلاقة في التلْمذة أو التربية المسيحيّة (الرسالة) فهي بين ثلاثة:
أ- يسوع (المرسِل)
ب- المعلّم (المرسَل)
ت- التلميذ (المرسَل إليه)
وهي بتعبير آخر، علاقة أفقيّة وعموديّة في آن.
فالعلاقة التربويّة المشتركة بين المعلّم والتلميذ ، تبقى ناقصة بدون العلاقة بين المعلّم ويسوع ، ولن تكتمل إلاّ بالعلاقة بين التلميذ ويسوع .
ويكون "الإنجيل"، أو الإيمان المسيحيّ ككل، موضوع هذه العلاقة.
5- التربية المسيحيّة ترتبط جذريّاً بصفات المرشد
لا يمكن أن تقوم رسالة ما، بدون معرفتها بشكل جيّد ودقيق، فالإيمان المسيحي، وإن كان دعوة اختبار، لا بدّ من معرفته وتعلّمه، ولقد أخذت العلوم اللاهوتيّة مكانة في تاريخ الفكر. وبالمقابل، مهما كان المرء عارفاً بشؤون إيمانه، وليست له الأدوات والأسلوب لنقله تبقى عميلة التربية المسيحيّة ناقصة وجافة. كما لا يمكن لمن لم يختبر حقّاً هذه المعرفة أن ينقلها للآخرين وهذا ما يميّز عمل التربية بشكل عام والمسيحيّة منها بشكلٍ خاص. لذلك على مرشد مادّة التربية المسيحيّة أن يتحلّى بالصفات التالية:
1- شهادة حياة مستقيمة (صدق، أمانة، محبّة، خدمة، مسامحة، ..) فلا يُعقل أن يقول شيئاً ويعيش آخر، ولقد انتقد يسوع أمثال هؤلاء.
2- التزام مسيحيّ وكنسيّ كالمشاركة في قدّاس الأحد والأسرار وسائر الالتزامات المسيحيّة والكنسيّة.
3- شخصيّة محببّة وقويّة تُشجّع على التماهي بها (Identification): وضوح ومنطق وصبر وحماس: يقول بولس الرسول "اقتدوا بي كما اقتدي أنا بالمسيح.. لست أنا الحيّ إنّما المسيح حيّ فيّ"، ويضيف القديس اغناطيوس الأنطاكي (بداية القرن الثاني): "إقتدوا بيسوع المسيح كإقتدائه بالله.. لقد ابتدأت أكون تلميذاً للمسيح.. لا شيء يمنعني عن المسيح.. صلّوا بلا انقطاع من أجل الآخرين لأنكم تقودونهم إلى الرب على رجاء التوبة. افسحوا لهم المجال ليتثقّفوا في مدارس أعمالكم.. ولنحاول أن نتشبّه بالسيّد، ولنتبارى في حمل الظلم والمهانة والاحتقار حتى لا يكون للشرير في قلوبكم مكان ينبت فيه عشبه. أثبتوا في النقاوة الكاملة والتعقل جسدياً وروحياً في المسيح يسوع".
4- شخصيّة واقعيّة حقيقيّة: أي عدم الازدواجيّة، فلا يُظن أّنه ملاكٌ هبط من السماء أو كملقنٍ للمعلومات بارد..
5- ثقافة دينيّة صحيحة ومتينة ومتجدّدة، تشمل كافة النواحي اللاهوتيّة والكتابيّة والليتورجيّة والعقائديّة.
6- معرفة طُرق وأساليب تربويّة متطوّرة والإبداع في استخدامها، وابتكار الجديد والمناسب..
7- معرفة استخدام الأدوات والتجهيزات المناسبة في التربيّة المسيحيّة.
8- معرفة علمنفسيّة وعلمتربويّة خاصة بالشؤون الإيمانيّة للشريحة العمريّة التي يقدّم لها التربية المسيحية.
9- معرفة بيئة ومجتمع الشريحة العمريّة التي يقدّم لها التربية المسيحيّة.
6- التربية المسيحيّة: دعوة حياة وليست سلسلة تعليمات..
عبور من الرغبة في اكتساب معلومات إلى الشهادة في طريقة الحياة
عبور من الـ information إلى الـ formation..
يقول فرنسوا فاريون (وهو لاهوتيّ معاصر): "ليس تعليم يسوع فلسفة، بل هو اختبار حياتي. لذلك لا يستطيع رسل يسوع أن يكون دعاة نظام فكري. ولن يستطيعوا أن يرددوا كلامه، ما لم يشهدوا لاختبار علاقة معينة مع الله. حتى لمَّا كانوا يعيشون مع يسوع، كانت شهادتهم ناقصة إلى حد بعيد. كانوا بطيئي الإيمان وسريعي التشويه وثقيلي الاحتمال. أما بعد العنصرة، فإن الروح القدس، الذي هو روح يسوع، أي ذلك الذي يُلهِم ويُنعش نشاط يسوع من الداخل، سيهب لهم أن يؤدوا في أنفسهم طريقة يسوع في العيش ونمط حياته ونوعية وجوده والحياة التي يعيشها كاملةً وفقاً لمنطق المحبة. وإلا كانت المسيحية نظاماً، أي شيئاً آخر تماماً، في حين أنها تصبح على جانب كبير من الأهمية، إن كانت اختباراً".
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم (القرن الرابع): "كان الأَولى أن نكون بغنى عن الكلمة المكتوبة. وأن تكون حياتنا في حالة من النقاء، بحيث أن نعمة الروح القدس تقوم مقام الكتب. فكما أن الكتب مكتوبة بالمداد، هكذا يجب أن تكون قلوبنا مكتوبة بنور الروح القدس. ليس الإنجيل نصّاً حرفيّاً، بل هو كلمة الحياة. معناه لا يكمن في حرفيته السطحية، بل في جوهره. لا ينقل بواسطة تعليم نظري، بل بواسطة الكرازة، التي توزّع الكلمة المعلنة على المؤمنين، إذ يقبلون إلى الكلمة المتجسد في ما بينهم.
لا منفعة للكتاب إذا فُصل عن المسيح، أو عمّا قاله الآباء في يسوع المسيح، وعمّا يقوله الروح القدس. الكتاب المقدَّس خارج الكنيسة، في خطر أن يتحوّل من كلمة الله في المسيح، إلى كلمة بشرّية صرفة...
إن الكلمة يتجسّد في عمق كياننا الشخصي، من خلال قراءة الكتاب المقدَّس. فيبلغ بالإنسان إلى معرفة الإنسان الكامل، الذي هو المسيح.
إنّ من يطلب فهم الكتاب المقدّس في شركة الأسرار، وفي الصلاة، يختبر عزاء اللقاء بالسيد في النص الإنجيلي. ويُحمَل من خلال الكلمة المكتوبة، إلى حيث يجالس الكلمة الذي كان منذ البدء. لا فرق بين الكلمة المعلنة في الإنجيل، والكلمة المتجسِّد في الكأس المقدّسة وسط الكنيسة المجتمعة".
7- التربيّة المسيحيّة تكوّن شخصيّة المسيحي
تظل التربية الدينية المكان الأساسي الذي فيه يعي المؤمن هويته المسيحية، وانتماءه الكنسي، ورسالته في المجتمع، انطلاقًا من بذور الإيمان التي زرعها الله فيه بنعمة العماد المقدس. لا نبالغ إذا قلنا إن الوجه الأصيل للمؤمن وحيوية الجماعات المؤمنة رهن، بشكل من الأشكال، بنوعية التربية الدينية التي يتقبلونها في الكنيسة. إن التربية الدينية حق للمؤمن وواجب عليه، وتنتظر من الكنيسة أن توفر لها الظروف الملائمة، والأدوات الناجعة، والمتابعة المستمرة، فتأخذ أهميتها ودورها في حياة الكنيسة في بلادنا، سواء أكان ذلك في البيت أو المدرسة أو الرعية، ذلك المثلث التربوي الذي ينشأ فيه المؤمن وينضج من كل جوانب حياته المسيحية. من الضروري أن تبقى التربية الدينية مجالاً أساسيًا من التزام كنائسنا ومؤسساتنا كي يصبح الإيمان حيًا، وصريحًا، وفاعلاً، في حياة المؤمن والجماعة المسيحية. وهنا تجدر تحية التقدير والمحبة لجميع الذين يكرسون حياتهم لمثل هذا العمل النبيل من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين. إن كنائسكم تقدر جهودكم وتدعوكم إلى الاستجابة المستمرة لمتطلبات هذه الرسالة السامية بإعداد أنفسكم لها من الناحية العقائدية والتربوية والروحية.
8- التربية المسيحيّة: من الإيمان الموروث إلى الالتزام بالإيمان
إن انتقال الإيمان من مجرد واقع وراثي إلى قبول شخصي رهن، نوعًا ما، بالتعمق في الإيمان وتثقيفه، لأن جهل الإيمان أو السطحية فيه قد يؤدي إلى فقدانه، خاصة في إطار التحولات العميقة في أنماط الحياة في المجتمع الحالي، حتى في شرقنا، حيث تغيرت الأجواء التقليدية التي أسهمت في الماضي في المحافظة على الإيمان ودعمه. إن جهل الإيمان هو جهل المؤمن لنفسه. وعندما يجهل المؤمن نفسه يفقد هويته ودعوته ورسالته، وتفقد الجماعة المؤمنة أصالتها لتتحول إلى مجرد جسم اجتماعي انسلخ عن التفاعل الحي مع أصوله الإلهية. وهنا لا بدّ من الإشادة بكل الجهود المبذولة والمبادرات الرامية إلى نشر الثقافة الدينية والوعي الكنسي والخبرة الروحية لدى المؤمنين البالغين عن طريق الحركات المسيحية المتعددة، والمؤسسات المناسبة، والمراكز والمعاهد المتخصصة، والتعرّف على المقررات الكنسيّة الجديدة حول مختلف الجوانب العقائديّة والإدارية والطقسيّة. ولا بدّ أيضاً من الدعوة إلى مواصلة تلك الجهود وتكثيفها، وتوفير الإمكانات البشرية والمادية لها، فتسهم في خلق جيل جديد من المؤمنين المدركين معنى انتمائهم إلى مسيحهم وكنيستهم ومجتمعهم، فتصل رؤية الإيمان إلى كل مجالات حياتهم، العامة والخاصة، لتغنيها وتحييها بنور الإيمان (اقتباس من الرسالة السابقة).
خاتمة
إن دور المرشد هو تحقيق هدف التربية المسيحيّة أي الإنجيل بالمعنى الحرفي وذلك بخلق البشارة لدى الآخرين، وكما لم توفّر الكنيسة الأولى وعبر العصور أي جهد أو وسيلة لتبليغ هذا الإنجيل وفسح المجال عميقاً للقاء بيسوع هكذا على المرشد تفعيل كافة الوسائل والأساليب لتحقيق هذا اللقاء. وتجدر الإشارة هنا أنَّ "لا فرق بين المعلم الإكليريكي والمعلم العلماني" في السهر على هذه التربية، كما يطلعنا كتاب "التقليد الرسولي" (الذيذاسكاليا) لهيبوليطس (القرن الثالث) من حيث أنه يعلّم باسم الكنيسة وبتكليف منها