فقالَت مَريم: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي و تَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي (لو 1 /46-47)
من طلب الغفران إلى طلب الإرشاد - الشماس فادي نجار
من طلب الغفران إلى طلب الإرشاد
الشماس فادي نجار
في الشرق، أدرك الآباء علاقة الإنسان بالله على أنّها شراكة الشخص الإنسانيّ مع ما هو فوق الطبيعة. مُنح هذا الشخص الإنسانيّ حريةً تامة قادرة على أن توجّهه نحو الخير مقتدياً بالله، ولكنّها قابلة أن تجعله ينحرف نحو الخطيئة. الإنسان تمرّد على خالقه وعلى الطبيعة التي خلقها الله مُسيئاً استخدام الحرية التي مُنِحت له، فكانت خطيئة آدم التي شوّهت الطبيعة الإنسانيّة : " لقد اختارت البشرية عدم مقابلة حب الله بمثله " ( الأب ألكسندر شميمان، ، من أجل حياة العالم، الأرثوذكسية والأسرار الكنسية، تعريب الأرشمندريت توما بيطار، منشورات النور، 1994، ص 25).
يختبر الإنسان في حياته اليومية أنه كائن ضعيف ، فهو يتعرض للمرض والموت ولصعوبات ومشاكل يومية ، لا سيّما أنّه يتعرض للخطيئة وتجارب الشيطان في عالم سيطرت عليه المادة والنظرة العقلانية البعيدة كلّ البعد عن الإيمان . ولكي يتخطى الإنسان هذه الصعوبات وتلك المشاكل يحتاج إلى مساعدة إنسان آخر ودعمه .
فالبشرية خاطئة، وهذا واقع لا يمكننا إنكاره. والحروب الكثيرة التي نسجت تاريخ البشر بجرائمها ومظالمها أفصح دليل عليه. فعندما يولد الإنسان، يولد ضمن تلك البشرية الخاطئة، أي في حالة تضامن معها، وهذا أيضاً واقع لا يمكننا تجاهله. إلا أن هذا التضامن ليس أمراً محتّماً على الإنسان لأن الله أحب شعبه. يبقى استمرار المسيح في رسالته وفي دعوته من خلال الكنيسة ومؤمنيها رجاءً لكل خاطئ وأملاً لكل من ضربت به العواصف وسارت به الرياح إلى حيث لا يشاء.
بفضل الروح القدس الذي حلّ على التلاميذ، تستمر الكنيسة بالتبشير بالإنجيل منادية بالرجوع إلى الله ومانحة سر مغفرة الخطايا: " خذوا الروح القدس فمن غفرتم خطاياهم غفرت لهم "
( يوحنا 20: 22 - 23 ). يسوع المسيح يرسل اليوم الكهنة والرهبان والراهبات وكل من يخدم في مسيرة الرب إلى التبشير بالملكوت ، يرسلهم لدعوة المؤمنين إلى التوبة ، وتغيير الأذهان : " إنه لمن الطبيعي أن تقوم رسالة الكنيسة على إثارة الرغبة في التوبة وفي العودة إلى الله عند الإنسان وأن تهبه نعمة المصالحة معه تعالى " المجلس الحبري للعيلة ، ( دليل الكهنة المعرفين بشأن آداب الحياة الزوجية وأخلاقيتها ، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام ، جل الديب لبنان ، ص4 )
نلاحظ في العالم الحالي نقصاً في طلب سر المصالحة وازدياداً في طلب الإرشاد الروحي. فالمرشدون مطلوبون بشكل متزايد، في حين يكاد المعرّفون يعيشون في البطالة . اللاهوت المعاصر يدعو اليوم لإقامة علاقة متبادلة بين خدمة سر التوبة وخدمة الإرشاد الروحي، فكلاهما شكلان من أشكال الاهتمام الرعويّ بالنفوس.
ما هو دور الكاهن المعرّف في الكنيسة وكيف يستطيع أن يكون في الوقت عينه مرشداً للتائب المؤمن؟ كيف ينتقل المؤمن من طلب الغفران إلى طلب الإرشاد؟ . هذا ما سوف نحاول التعمق فيه من خلال هذه الأسطر ، مشبعين هذه الدراسة تأمّلاً وفكراً.
دعوة الكاهن المعرّف في الكنيسة
إنّ إله المسيحية إله يدعو الخاطئ إلى الحياة والخلاص ، ويغفر له ما اقترفه من خطايا ويساعده للإقلاع عنها، ويحثّه على إعادة علاقات المحبة معه واختبار محبّته الإلهيّة المجانية. إله مات وهو يغفر " أبت اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون " ، وهذا أعظم أشكال الغفران. لذلك على الكاهن الذي يمارس ، بسلطان المسيح الممنوح له ، سر الغفران " ألا يغيب عن ذهنه أنّ التائبين الذين يلوذون بكرسي الاعتراف ، يأتون بدافع من النيّة الحسنة للمصالحة مع إله الرحمة"( م. س ، ص 24).
لقد جعل المسيح من التوبة مدخلاً أساسياً لملكوت الله ، وأرسل رسله " ليبشروا جميع الناس في كل مكان " (أع 17 : 3) و"يكرزوا بالتوبة " ( مر 6 : 12). لكنه لم يكتف بالدعوة إلى التوبة ، بل راح يغفر الخطايا معلناً تحقيق الزمان ومظهراً محبة الله التي تسبق توبة الإنسان . هذه المغفرة هي قبول في الحق للخاطئ مع كل ما هو عليه، بما في ذلك الخطيئة التي اقترفها وأبعدته عن محبة الله. فالتوبة "هي السر الذي فيه الكنيسة ، بكلمة الكاهن المطلقة وبسلطان المسيح المطلق ، تمحو في الخاطئ التائب جرم الخطايا التي ارتكبها بعد العماد " ( معجم اللاهوت الكتابي ، سر التوبة .)
من ناحية ، الكاهن الذي يعطي نعمة الغفران يجب أن يكون على مثال السيد المسيح أخاً رحيماً لأخيه التائب ، أميناً شفيقاً ، راعياً يسعى وراء النعجة الضالة ، سامريّاً صالحاً يضمّد الجراح ويرشد إلى سبلِ الله :" الكاهن هو رمز محبة الله وأداته ورحمته للبشر" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ، الفقرة 1465) . أن يكون في مقدوره أن يحنو على كل ابن شاطر. الكاهن المعرّف يساعد المعترف على كشف وقائع حياته أمام الله، مذكّراً إيّاه بدعوته إلى القداسة وممارسة الفضائل، مثيراً في نفسه الرغبة في نيل الغفران.
من ناحية أخرى، التائب الذي يدخل في عهد جديد وصداقة مع الله، يتجاوب مع هذه النعمة من خلال تقبّله والتزامه مع الله بمسيرةٍ لا متناهية من الإيمان بشخص المسيح مائتاً وقائماً، إنساناً وإلهاً، يرتبط أولاً وأخيراً به. فلا غنى عن فعل الإيمان الشخصي لنيل الغفران. هذا الإيمان يُنشِئ علاقةً بين يسوع والتائب تحثه على الرغبة في تغيير سيرته والاهتداء نحو المسيح تاركاً الإنسان القديم في سبيل أن يحيا حياة الإنسان الجديد. والروح القدس يعمل في سبيل اهتداء المعتمد نحو السيد: " التائب هو من يلتزم بمسيرة توبة دائمة ، بصفة خاطئاً يحبه الله ، ويظهر توبة حقيقية ، ويطلب مغفرة خطاياه والمصالحة داخل جماعة المؤمنين . فالتوبة مسيرة تدوم طوال الحياة ..." (الأب أولفر بُرج أوليفييه ، الإرشاد الروحي والحياة بالروح ، نقله إلى العربية : أنطوان الغزال ، الطبعة الثالثة، دار المشرق ، بيروت ، ص. 79 ? 80)
إنّ طالب الغفران الذي يعترف بالعادة عند نفس الكاهن غالباً ما يتعدى مطلبه أكثر من نيل الغفران. فيجب أن يكون المعرِّف عندها قادراً على إرشاد المؤمن. ما هي مهمة الإرشاد الروحي إذاً؟ ما هي صفات الكاهن المعرّف المرشد ؟ وما هي حاجة التائب للانتقال من طلب الغفران إلى طلب الإرشاد ؟
من طلب الغفران إلى طلب الإرشاد
نستطيع القول، إنّ التائب الذي ينتقل من مرحلة طلب الغفران إلى طلب الإرشاد الروحي، هو المؤمن الذي يبحث عن كمال وملء الحياة المسيحية، فيميز مشيئة الله ويتشبه بيسوع المسيح من خلال إيمانه بقوة الروح القدس : " الإرشاد الروحي هو المساعدة الروحية التي يتلقاها المؤمن الذي يبحث عن كمال وملء الحياة المسيحية ، وهذه المساعدة تقود المؤمن لكي يميز مشيئة الله ويصل إلى القداسة " (الأب نضال جبلي ، الإرشاد الروحي ، دراسات في معهد القديس بولس ، ص 7)
التائب الذي يطلب الإرشاد الروحي هو الحجّاج الذي يحجّ في مسيرة لا متناهية نحو الله ، مسيرة فيها " يميّز نداءات الله في الحياة اليومية ، يبحث عنه ويجده في كل شيء " (الأب أولفر بُرج أوليفييه ، الإرشاد الروحي والحياة بالروح ، م . ذ ، ص 79) . فالتائب الذي يسعى لغفران خطاياه ، والحجّاج الذي يميز مشيئة الله في حياته اليومية هما دعوتان لحالة روحيّة واحدة ألا وهي الاهتداء والوصول إلى القداسة ، هما وجهان لعملةٍ واحدة. " فالمعرّف والمرشد الروحي دورهما هو كأداة مع الروح القدس الذي يُجري في الأساس غفران الله ونموّ الشخص الروحي "(م.س ، ص 83).
التائب الذي يطلب الإرشاد الروحي، يسعى إلى القبول بالقيم الإنجيلية كقاعدة لحياته الواقعية، فيجعل من نفسه خليقة روحية جديدة، فيقتدي بالمسيح الذي جسّد هذه القيَم واعتبر حياته الصيغة المثالية للمسيحي المؤمن. التائب الذي يطلب الإرشاد الروحي، يقرّ بعمل الروح القدس الذي يعرّفه على إرادة الله ويأتي دوماً لنجدة ضعفه، فيقوده إلى الحق. الروح القدس هو المعزي والمحامي.
نستطيع القول بأنه لا يمكننا الفصل بين الشخص التائب الحقيقي والشخص المسترشد، فالإرشاد ضروريٌ لإتمام عملية الغفران. فدور المرشد هو أمر بالغ الدقة وفائق الأهمية، وعليه أن ينعم للقيام بهذه المهمّة الدقيقة، بمواهب كثيرة أهمها:
أولاً : إتقان الإصغاء من أجل التعرف الصحيح على المسترشد واكتشاف أعماقه وأبعاده الشخصية. ويتطلب الإصغاء من المرشد حضوراً مع مرافقه، هذا الحضور الذي يوحي بحضور المسيح وإرادته قبل أن يتكلم ، إنه حضور الواحد للآخر: " يستوجب الإصغاء ، حضوراً جسدياً وفكرياً مع الآخر " (الأب سامر نعمان البولسي ، المرافقة النفسية والروحية ، أمسيات الأحد 9 ، المطبعة البولسية ، جونيه لبنان ، ص 3).
ثانياً: أن يكون المرشد ذو خبرة ولديه الاحتكاك بحالات إنسانية واقعية كثيرة، ومضطلع بشكل واقعي على وقائع الحياة الروحية، فيكون المرشد فطناً في عرض ما لديه للمسترشد بشكل حكيم وذكي.
ثالثاً: أن يكون " المرشد صديق بالمسيح " (الأب نضال جبلي ، ص 24). لقد كشف الله عن ذاته من خلال يسوع المسيح الذي صنع من ذاته صديقاً لنا، فيصبح هو نبع السلام والحكمة، منه نأخذ روح الله الذي يقود المرشد إلى الفطنة. من خلال هذه الصداقة ، يقيم المرشد علاقة محبة مع ابنه الروحي، وأول ثمرة لهذه العلاقة هي الالتفاتة التامة للمرشد من خلال فهمه الكامل وحنانه وعطفه على المسترشد.
رابعاً وأخيراً: أن يساعد المرشد ابنه الروحي في تحقيق ذاته الإنسانية من خلال عيشه " الدعوة الشخصية التي يكتشف المؤمن فيها إنه موضع محبة الله " (م.س ، ص 19). فمن واجب المرشد مساعدة المسترشد على تنمية هذه الدعوة التي ستصبح يوماً اختياره الشخصي. إنَّ ثمة جدلاً بين مشيئة الله وحرية الإنسان، فالله لشديد اهتمامه بالإنسان يبادر فيعرض، والإنسان بملء حريته يتجاوب فيقبل أو يرفض، يشك أو يخضع. يقول الأب سيداروس: "من الخلق إلى واقع الإنسان الحياتيّ وحتى نهايته، يظل الإنسان كائناً حرّاً أمام مشيئة الله، ويحترم الله حرّيته هذه. الإنسان بملء حريته يقبل في حياته الأرضية مشيئة الله الخلاصيّة أو يرفضها" (فاضل سيداروس ، سر مشيئة الله وحرية الإنسان، مطبوعات الآباء اليسوعيين، مصر، 1992، ص 65). الله يبادر ويعرض على الإنسان محبته ، عهده الخلاصي داخل الكنيسة، وهذه المبادرة تستدعي تجاوباً من الإنسان .
مما سبق ، أردنا أن نبرز دور الإرشاد الروحي في علاقته بسرّ التوبة . ولا ندّعي أننا استنفدنا الموضوع. فمهما كثُرت الكلمات يبقى هذا الموضوع خبرة روحية مُعاشة يصعب التعبير عنها من خلال العلم النظري . هذه الخبرة تتجلّى من خلال الإيمان المطلق بأن الربّ يسوع هو النبع الوحيد الذي نستقي منه، ومن خلال حياة الكاهن المعرّف والمرشد الذي يصغي إلى المؤمن ويتفهمّه ويساعده، فيتحرر ويرى بوضوح هدفه في الحياة ويسعى للوصول إليه.
فلا مكان ، في الاعتراف والإرشاد ، للّوم أو الانتقاد، للوعظ أو الحكم ، بل للثقة المتبادلة البعيدة عن المصلحة الشخصية ، والعون والتشجيع اللذين يَجدُرُ بالكاهن أن يغدقهما على التائب ، ليصل به أولاً إلى الندم والرغبة في الإقرار بخطاياه ، وثانياً النمو في الحياة الروحية لأجل تتميم مشيئة الله ، والعيش في حضرته وذلك من خلال الالتزام بحياته وإيمانه المسيحي ، فيتحول التائب بالقلب والإرادة بواسطة الصلاة والتأمل ليصبح شبيهاً بالمسيح، فيعزف لحن إيمان لا ينتهي أبدا.