يُظَلَلكَ بِريشِه و تَعتَصِمُ تَحتَ أَجنِحَتِه و حَقُّه يكونُ لَكَ تُرسًا و دِرْعًا (مز 91 /4)
سر الميرون - دير الشيروبيم
سر الميرون - دير الشيروبيم
في المعمودية ينال المعمَّد هبة مغفرة الخطايا, إلا أنه في سر التثبيت بالميرون المقدَّس تنال النفس عطية الروح القدس للسكنى والإقامة في هيكل الإنسان الجديد لملئ حياة المعمَّد بمواهب الروح القدس.
من هنا أتى تعريف هذا السر بأنه يمنح المنتصرين مواهب الروح القدس, أي نعمةً ضرورية لحياتهم, فالمسحة المقدسة ليست جزءاً عضوياً من سر المعمودية فحسب, بل إنها تقام بوصفها تحقيقاً له , وسيتم كمال كل شيء بعد قليل بالإفخارستيا.
تاريخية السر:
طقس هذا السر, كان يجري برسم إشارة الصليب على الجبهة ثم بوضع يد الأسقف حيث يُعطى الروح القدس بكل مواهبه.
وهذا العمل واضح في سفر أعمال الرسل: "ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة الله أرسلوا إليهم بطرس و يوحنا. اللذين لما نزلا صلَّيا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس. لأنه لم يكن قد حلَّ بعد على أحد منهم. غير إنهم كانوا معتمدين باسم الرب يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس" (أع 14:8-17).
وهناك إشارة ضمنية على أن قبول الروح القدس كان له إجراء خاص بعد المعمودية وذلك من قول بطرس الرسول: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على أسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس" (أع 38:2).
عطية الروح القدس هذه, مصدرها الرب يسوع وهذا ما أكده الرسول يوحنا بقوله: "وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس... وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها ثابتة فيكم" (1يو20:2و27).
وهذا ما قاله الرب يسوع للجموع العطشى: "من آمن بي كما قال الكتاب, تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو37:7-39).
في العهد القديم, قال عنه داود: "مثل الطيب على الرأس النازل على اللحية لحية هارون" (مز2:133), وأيضا سليمان: "لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهنٌ مهراق. لذلك أحبّتك العذارى". وهذا الطيب هو دهن الميرون المقدس الذي يشتمل على الأطياب التي وردت في مركبات مسحة العهد القديم (خر22:30-37) و( نش14:4).
المعاني اللاهوتية للسر:
الواضح أن "الختم" بالميرون المقدس هو عمل جديد, هيأت له المعمودية, يضفي على ليتورجيا الانتماء للكنيسة بُعداً جديداً ممكناً, لذلك عرفت الكنيسة دائماً أنه موهبة وسر متميزان عن المعمودية, فنحن هنا لا نأخذ فقط مواهب الروح القدس بل الروح القدس نفسه بوصفه موهبة لأن "المواهب على أنواع وأما الروح فواحد" (1كو4:2).
فالروح القدس يحل علينا في هذه المسحة, مثل «العنصرة», ويسكن فينا بوصفه الهبة الشخصية للمسيح من أبيه (يو14:16-15). فنحن اعتمدنا بالمسيح فلبسنا المسيح والمسيح هو الممسوح ونحن نحصل على مسحته، وهذا تأكيد لما ذكرنا سابقاً بأن الرب يسوع هو مصدر هذا السر، وبنفس الوقت يهبنا الروح القدس المسيح لأنه روح المسيح.
إذاً نحن الآن بهذا السر نستنير ونأخذ قوةً عظيمة لنسير في طريق التأله, فالمعمودية طهرتنا من خطايانا وهيأتنا لتقبل سر الميرون ولنختم بختم المسيح الإلهي الذي يفتح لنا أبواب التأله والاتحاد بالله. كل ما تقدم هو من جهة واحدة فقط هي الله الثالوث لكن هذا لا يكفي لأنه يجب أن تتحقق هذه المعادلة بوجود جهة ثانية تكمل الأولى, أي الإنسان, فنحن يجب أن نُفّعل المواهب الروحية "لا تطفئوا الروح" (1تس 19:5).
عبر جهاداتنا اليومية المستمرة من صلوات واعترافات ومحبة وأعمال رحمة... عندها نستنير بالروح القدس ونصبح مؤهلين للتأله والاتحاد الكامل مع الله,
وهنا نرى البعد الشفائي للسر أي مغفرة الخطايا, لذلك تذكر الحدث التاريخي, موت وقيامة المسيح, وعيشه بمسيحية صادقة, يجعلنا في كل مرة نشارك بحضور هذا السر في الكنيسة نشعر بموت المسيح عندما يغطس الطفل, وبقيامته عندما يرفع من الماء وبحلول نِعم الروح القدس عندما يُدهن بالميرون بهذا الزيت والطيب ومواد كثيرة أخرى اللذين تقدسوا بفعل حلول النِعم السماوية التي قدست هذا الواقع المادي الفيزيائي.
وسنورد الآن ما قاله أحد الأساقفة القدامى المجهولين، الذين بتواضعهم لم يذكروا أسمائهم لكن الكنيسة حفظت كتاباتهم الثمينة، في بداية القرن الخامس عن سر الميرون:
نقول إن التثبيت يمنح المعمَّد كمولود جديد بوضع اليد كل ما ناله المؤمن بحلول الروح القدس «في يوم الخمسين».
وقد يسأل الإنسان ماذا ينفع التثبيت بعد أن تعمَّدت؟ وإن كنا بعد المعمودية نشعر أننا محتاجون إلى عمل جديد. أهذا يعني أننا لم نأخذ كل شيء نحتاجه في المعمودية؟
ولكن الحقيقة ليست هكذا, فالروح القدس حافظ ومعزِّي ومعلِّم عظيم للذين وُلِدُوا ثانية في المسيح, كما يقول الكتاب: "إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارس" (مز1:127), لذلك فالروح القدس الذي يحل ومعه الخلاص على ماء المعمودية يعطينا كل ما يجعلنا أطهاراً وأبرياءَ وأبراراً. ولكن في مسحة التثبيت يعطينا ازدياداً في النعمة, لأنتا طالما نحن في العالم فنحن نعيش بين أعداء غير منظورين ومخاطر. في المعمودية نولد ثانية إلى الحياة الأبدية, ولكن بعد المعمودية ننال تعضيداً للجهاد. في المعمودية نغتسل, ولكن بعد المعمودية نتقوى
فالتثبيت ضرورة للحياة, تسليح وتحضير المعمَّد ليدخل العالم قادراً على الصراع ويُحارب حروب الرب في هذا العالم والمسيح يقول: "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمَّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو12:16و13). لهذا حينما يُعطَى الإنسان الروح القدس يمتلئ القلب حكمةً وثباتاً. قبل حلول الروح القدس قَفَل الرسل على أنفسهم الأبواب خوفاً من أن ينكروا المسيح, وبعد أن حلَّ الروح القدس انطلقوا يكرزون متسلّحين باحتقار الموت حتى إلى الشهادة بلا حذر من أجل اسمه.
فنحن قبلنا الفداء من المسيح ولكن الروح القدس أعطانا الحكمة الروحية والاستنارة والتعليم والنمو حتى إلى منتهى الكمال.
وهكذا ينطلق الإنسان المعمد مع مسحة الميرون, بالجديد الإلهي الذي يميزه عما كان عليه قديماً, ليصبح إنسان الروح, وما عليه بعد ذلك إلا أن يعيش وصايا الإنجيل كما يريد الرب يسوع, حياة تقديسية يكون من خلالها هيكلاً لله, فيتقوى ويثبت بالأسلحة الروحية لهذا السر التي تجعله جندياً صالحاً للمسيح