واحِدَةٌ تَنقُصُكَ بَعدُ: بع جَميعَ ما تَملِك ووَزِّعه على الفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّموات، و تَعالَ فَاتبَعني (لو 18 /22)
سر المعمودية - الصورة الإلهية في الإنسان - الشماس اسبيرو جبور
الصورة الإلهية في الإنسان
الأب الشماس اسبيرو جبور
سر المعمودية
يتحقق دخول الإنسان إلى كنيسة المسيح وبدء شركته الشخصية في التجديد في المسيح وتألهه بسر المعمودية. بهذا السر ينعتق الإنسان من الخطيئة ويتحرر من رباط الموت. بين الخطيئة والموت توجد علاقة سببية.
دخل الموت إلى العالم بالخطيئة فصارت منذئذ محور الموت. لا يمكن أن تفهم تنقية الإنسان من الخطيئة بدون الانعتاق من السبب الذي سببها. ما دام الإنسان خاضعاً لسلطان الخطيئة فهو ملزم بالموت، ويخطئ ما دام مهدداً به. كيف يمكن أن نحيا بعيدين عن الموت وأسبابه قائمة في طبيعتنا المائتة ؟ لا مجال طبيعي أو أخلاقي للخروج من هذه الحلقة المفرغة. إن المعمودية التي يتقبلها الإنسان هي القوة التي تجعله يتخطى ذلك.
بالمعمودية يموت الإنسان مع المسيح ويقوم معه في حياة الجيل الجديد، سر المعمودية يؤلف بين الموت والحياة والقيامة والقبر. الإنسان الذي أصبح ميتاً بالخطيئة يدخل إلى دائرة حياة النعمة التي يقدمها له ختم موهبة الروح القدس ومناولة جسد ودم المسيح. لا مجال للشيطان مع المعتمد. مع ذلك يخضع المعتمد إلى إهانة الشيطان الخارجية.
هذا لا يعود إلى نقص التجدد الحاصل بنعمة الله في الإنسان بل هو سماح إلهي. إنها فرصة ليسهم الإنسان في عمل الخلاص وليستعدّ لقبول عدم الفساد وخيرات الجيل الآتي:
لا تعتق المعمودية الإنسان من جريرة وراثية {لا نقول بوجود خطيئة جدية أصلية. هذا قول أوغسطين}، كما يقول أوغسطين، وبالتالي التقليد الغربي. إنها تعتق من وراثة الموت التي دخلت بالخطيئة وسبَّبتها. بالمعمودية، يقول كيرللس الأورشليمي: ينحل محو ر الخطيئة، ويعتبر غريغوريوس النيسسي أن المعمودية هي السبب للانبعاث والتجديد. ويقول غريغوريوس بالماس إنها تجدّد الإنسان المخلوق وتُدخله إلى حياة الجيل الجديد القائم فوق الحس والعقل وتجعله شريكاً في عدم الفساد والموت، وعدم الخطيئة.
بنعمة المعمودية تتنقى صورة الله وتشرق وتنبت فيها القوة لتحصل على الشبه بالله، على التأله، الذي صار غير ممكن بعد السقطة. يسلك بالماس في هذه النقطة ويتبع بأمانة تعليم ديادوخ فوتيكوس.
يقول فوتيكوس: (نعمة الله تهب الإنسان بالمعمودية خيرين. أولاً، تجديد الصورة، ثانياً، إمكانية تحقيق المثال. تجديد الصورة يُعطى للإنسان فوراً بقوة حمام المعمودية المقدسة التي تنقي النفس من دنس الخطيئة وتعيده إلى مجد بهائه الأولي. أما إمكانية تحقيق المثال فتقدّم أولاً بصورة بذار ليحرث فيها بعد لا من ذاته فحسب بل ومن الإنسان الراغب في مشابهته لله).
إن المعمودية كميلاد للإنسان بالروح يفوق جداً ميلاده الطبيعي. في كتب ديونيسيوس الأريوباجي {ليس هذا بديونيسيوس الأريوباغي تلميذ بولس الرسول. إنما هو، غالباً، كاتب سوري متأثر بالأفلوطينية الجديدة. كتب بين العام 500 إلى 510 } تعتبر المعمودية (حفلة لمعرفة الله). يصير المعمد إنساناً روحياً (لأن المولود من الروح القدس روح هو).
يصير المسيح ذاته أباً للمعتمد وهكذا يصير كل المعمدين بالمسيح، بصورة فائقة الطبيعة أبناءه (تجاوزاً للقربى الطبيعية)، مع أنهم مولودون من آباء عديدين. إن فكرة أبوة المسيح هذه ليست مألوفة في الفكر الآبائي بالنسبة للمؤمنين {هذا غير صحيح. ربما تأثر الكاتب اليوناني برأي مايندورف (المدخل، ص247 الحاشية 111، فرنسي)، ناسباً الأمر إلى تأثر بمكاريوس المنحول، دون تدليل. الذهبي الفم استعمل ذلك. راجع نصه الرائع في مقال ? كراسة عدنان طرابلسي، مجلة (الكلمة) الغراء، العدد 9}.
بيد أن المسيح في إنجيل يوحنا لا يسمي تلامذته أصدقاء بل أولاداً، والمسيح كإله هو أب البشر، ما دام الإنسان قد جُبل بفعل الثالوث المقدس الخالق. بيد أنه يصير في المعمودية أباً للمسيحيين بصورة تفوق الطبيعة، فيلدهم ويجعلهم شركاء للنعمة غير المخلوقة.
النعمة المعطاة بالمعمودية تسبب قيامة النفس بأثمارها في حياة المؤمن الروحية. النفس بابتعادها عن الله تموت وبعودتها إليه وارتباطها بنعمته تتقدم وتدخل إلى الحياة الحقيقية. قيامة النفس تتحقق في الحياة الحاضرة وبهذا تتقدم قيامة الأجساد التي ستتحقق في اليوم الأخير. هذا يعني تأكيداً أن القوة المجددة والمؤلهة في المعمودية تنحصر فقط في نفس الإنسان. هذا التعليم غريب عن تعليم الآباء وبالماس.
النعمة تجدد الجسد: (يُرى الآن في الإيمان لا بالعين، وبالرجاء المقبل). تجديد النفس يأخذ بدءه أيضاً في المعمودية وينمو فيما بعد في الحياة بالمسيح ويكتمل برؤية الله في الجيل الآتي {سمعان اللاهوتي يقول بأننا نراه منذ الآن (النشيد 56:34- 76 و 78- 82 و 103- 107)}. إننا نعرف أنه إذا ظهر كمال التبني والتجديد في المسيح فإننا سنصبح مشابهين لله لأننا سنراه (كما هو) (إننا الآن أبناء لله).
إن النعمة المعطاة إذاً بالمعمودية توجه إلى كل إنسان ولها طابع (العربون).
المعتمد يصبح ابناً لله وينتظر التبني ومتحداً يرجو الاتحاد ويتأله وينتظر التأله. من المفروض أن يتم تعميم التبني والتجديد وتأله الإنسان في الجيل الآتي بالقيامة الثانية قيامة الأموات وبتتميم مواعيد الله. كما أن الطفل المولود كاملاً يملك من أبويه إمكانية صيرورته رجلاً يرث والديه ولا يملكها بسبب صغر سنه، كذلك الإنسان المجدد بالمعمودية، فإنه مؤهل للتبني المذكور والتأله في الجيل الآتي مع أنه يعطي القوة ليصير ابناً لله ووارثاً للمسيح {أي أن كمال التبني والتأله والاتحاد يظهر في الجيل الآتي}.
مرحلة حياة الإنسان بعد المعمودية تعطي الإنسان إمكانية النضوج في الحياة في المسيح وإنماء الشركة مع الله بمعونة نعمته.
وكما سنقول فيما بعد، كل مسيحي يجب أن يتشبه قدر طاقته بحياة المسيح، فالمعمودية كأول لقاء بين الإنسان والله، تتحقق باشتراك المعتمد في موته وقيامته، وتشكل بدء قبول التشبه بالمسيح. موت الإنسان من أجل الخطيئة وحياته مع المسيح وبه يجب أن يتحققا عملياً في حياة الإنسان على الأرض.
كل الذين يأخذون ويحافظون على نعمة المعمودية المجددة، يمكنهم أن يميزوا داخلياً تجددهم، وأن يمتلكوا خبرته المستيكية {mystique صوفية}.
جدير بالاهتمام ما يقوله سمعان اللاهوتي الحديث عن ضرورة وجود مثل هذه الخبرة عند المسيحيين. يركز سمعان على قول الرسول بولس (أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم)، فيقول (كل مسيحي معمَّد يلبس المسيح. من هو المسيح الذي لبسناه ؟
إنه بكل تأكيد الله والإنسان الكامل الذي بألوهته أَلَّه الطبيعة التي اتخذها والتي بها يؤله البشر.
كيف يمكن أن يتجاهل الإنسان الشيء الذي لبسه ؟ عندما يلبس العريان فوق جسده فإنه يشعر بالحدث الذي تم ويميز نوع لباسه. كيف يمكن للعاري نفسياً أن يبقى عديم الشعور عندما تلبس نفسه المسيح ؟ إذا حصل ذلك فهناك تفسيران ممكنان: إما أن الله غير موجود أو أن من لبسه هو عديم الشعور أي مائت. إني أخاف أن يكون الذين يدعون أنهم يملكون المسيح إنما يملكونه بدون أن يشعروا به. في هذه الحالة هم أموات وعراة النفوس).
يصعب علينا أن ندرك بصورة صحيحة نظرية سمعان اللاهوتي وبالماس وغيره من الهادئين {رهبان في جبل آثوس (اليونان)، دافع عنهم بالاماس. يقولون إن نعمة الله غير مخلوقة. يركزون على الهدوء والصلاة المتواصلة مرددين صلاة يسوع} وتعليمهم عن النور غير المخلوق، إذا نسينا أن أعماقه اللاهوتية قائمة في التقليد الأرثوذكسي عن الأسرار.
تجديد الإنسان الحقيقي بالمعمودية وبالتالي دمج الوجود البشري كله مع جسد المسيح المتأله في سر الشكر يعطيان الأساس اللاهوتي المتين للرؤية السوية للنور غير المخلوق.
موت الإنسان بعد المعمودية بطاعته لسلطان الخطيئة ليس مظهراً نادراً. لا يعود هذا إلى ضعف وعدم كمال المعمودية، كما يقول مرقس الناسك، بل إلى الإهمال ومحبة الإنسان للشهوة. المساليون {المصلون: فرقة سورية من الرهبان في منطقة الفرات: مرفوضون}، بالعكس، يشددون على أن المعمودية لا تجتثّ أسباب الخطيئة المرتبطة ارتباطاً جوهرياً بنفس الإنسان.
يعتبر بالماس أن التنكر لإرادة الله بعد المعمودية هو ممقوت أكثر مما هي ممقوتة سقطة آدم. يقول (يتهمون آدم أن مشورة الشيطان قد أقنعته بسهولة، فتنكر لإرادة الله، وهكذا صار سبباً لموت البشر. ألا يساوي من أراد قبل الخبرة أن يتذوق فاكهة سامة ذاك الذي أكل منها بعد خبرة الموت ؟ إنه أكثر شقاوة من ذاك الذي أكل دون أن تكون له الخبرة).
إذا أخطأ الإنسان بعد المعمودية وأفسد صحته وطهارة روحه يعود إلى حالته الطبيعية الأولى ويتنقى من جديد بواسطة التوبة والاعتراف. ليس من المستحيل خلاص المجرم ما دامت إمكانية العودة إلى المسيح تبقى قائمة، المسيح الذي يقيم الأموات.
في موعظة (الظهور الإلهي) {أي عيد الغطاس} شرح بالماس بإسهاب الأمور الحاصلة بالمعمودية تذكيراً للمؤمنين بفوائد المعمودية والربح الروحي الناتج عنها.
المعمودية وسر الشكر يحتلان المقام الأول في تعليم بالماس عن تأله الإنسان {ولذلك يخطأ الأهل الذين يؤخرون معمودية أطفالهم. نرفض الأعذار جميعاً: فلا حداد، ولا غيب، ولا ولائم وثنية ولا سواها أعذار مقبولة. بل تعميدهم باكراً ومناولتهم دوماً}.