فقال لها يسوع: أنا القيامة و الحياة من آمن بي و إن مات فسيحيا وكل من يحيا ويؤمن بي لن يموت أبدا. أتؤمنين بهذا ؟ (يو 11 /26)
الإفخارستيا و تأليه الإنسان - راهب من الإسقيط المقدس
الإفخارستيا وتأليه الإنسان
المواضيع التي أثيرت يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
· التعبير عن الإيمان الواحد بألفاظ مختلفة.
· الروح القدس هو العامل، وهو الذي يوحد ويطهر، وليس أقنوم الإبن. فلكل أقنوم وظيفته وعمله الخاص مع عدم التفريق أو الإختلاف فيما بينهم.
· الخلافات الشخصية ليس لها مجال في الإيمانيات والعقائد، ولا يمكن تصيد الكلمات لإثبات أخطاء لاهوتية دون فهم المعنى العام وروح الكلام وما المقصود به.
أما سوء الفهم القائم عليه الموضوع كله، فيتلخص الرد عليه في النقاط التالية:
الفرق بين ماهو للمسيح وما هو لنا.
الفرق بين الجوهر والمفاعيل.
الفرق بين كلمات الكتاب المقدس وكلمات آباء الكنيسة.
الفرق بين ما نناله هنا على الأرض وبين ما سيكون لنا في الملكوت.
· قضية تأليه الإنسان.
وبإختصار شديد وبتعبيرات بسيطة، نحاول أن نشرح الموضوع من خلال وجهة نظر آباء الكنيسة وبحسب ما نفهمه من روح الآباء، وليس من حرفية الكلمات.
الفرق بين ما هو للمسيح وما هو لنا...
لقد حرص السيد المسيح نفسه على توضيح الفرق بينه أثناء التجسد وبيننا، رغم أنه أخذ جسداً بشرياً كاملاً، إلا أنه رغم ذلك يختلف عنا كما قال الآباء:
ففي إنجيل معلمنا متى يقول: " ولكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر والق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك" (مت 17 : 27) وفي إنجيل معلمنا يوحنا يقول: " اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم والهي والهكم" (يو 20 : 17).
لاحظ قوله { عني وعنك – أبي وأبيكم – إلهي وإلهكم
z وعن هذه قال القديس أغسطينوس: [ ولكن إذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم ولم يقل إلى أبينا، لأنه { أبي z بمعنى آخر، لي بالطبيعة، ولكم بالنعمة. وإلهي وإلهكم، ولم يقل إلهنا، هنا أيضا هو لي بمعنى ولكم بمعنى آخر]
ويقول القديس بطرس السدمنتي: [ الأبوة لفظ مشترك بين الأبوة بالطبع، والأبوة بالوضع. فلم تكن بين السيد وبين التلاميذ مشاركة من كل وجه، ولذا لم يحسن أن يقول { إلى أبينا
z . فلهذا نقول.. قوله { أبي z أي بالطبع، إذ أن أقنومه مولود من أقنوم الآب قبل كل الدهور من غير إبتداء ولا إنتهاء، وهذه هي الولادة الطبيعية الإلهية. وقوله أبيكم أي بالوضع والتفضيل، إذ كان العلة في إتخاذهم من العدمين إلى الوجود، أعني وجود الخلق، ووجود النعمة والإيمان].
وأما القديس ساويرس الأنطاكي فيعلق على قوله { إلهي z قائلاً.. [ لأنه لم يكن يُدعى { إلهي z ما لم ير فيَّ نقاوة البشرية. لأني لم أعرف خطية مثل مبدأ الجنس البشري (آدم)، ولم يكن أباكم أنتم الذين إبتعدتم عنه].
وللقديس كيرلس الكبير مقالة عن هذا الموضوع نقتبس منها مايلي:
[ رغم أننا عبيد بالرتبة والطبيعة، فهو الآن يدعونا إخوته، وجعل الله الآب، هو الأب المشترك له ولنا، ولأنه جعل البشرية خاصة به بإتخاذه شكلنا لنفسه، فإنه يدعو إلهنا له، بقوله { إلهي
z ، رغم أنه إبنه بالطبيعة، وذلك لكي نرتفع نحن إلى كرامته الفائقة العظمة بمشابهتنا له....... فهو يقول أن الله أبوه، وإنه إلهنا أيضاً وكلا القولين صحيح. لأن إله هذا الكون هو بالحق أب المسيح، ولكنه ليس أبانا بالطبيعة، بل بالحري هو إلهنا لأنه خالقنا وربنا الذي له كل السيادة. ولكن الإبن إذ وحّد نفسه بنا بتجسده فإنه منح لطبيعتنا الكرامة التي له وحده، ودعا ذاك الذي ولده (أي الآب) أباً مشتركاً له ولنا.....] ( [1])
ولنقرأ نص الإيمان الصحيح الذي وضعه القديس أثناسيوس في كتابه ضد الأريوسيين: [ ها نحن إذن نتحدث بحرية عن الإيمان الصحيح النابع من الكتب الإلهية، ونضع هذا الإيمان كسراج على المنارة، فنقول: إبن حقيقي حسب الطبيعة للآب ومن نفس جوهره، وهو الحكمة وحيد الجنس وهو الكلمة الحقيقي الوحيد لله. وهو ليس مخلوقاً ولا مصنوعاً. ولكنه مولود حقيقي من ذات جوهر الآب. ولهذا فهو إله حق إذ أنه واحد في الجوهر مع الآب الحقيقي.
أما بالنسبة للكائنات الأخرى، التي قال لها: " أنا قلت أنكم آلهة " (مز8: 6)، فإنها حصلت على هذه النعمة من الآب، وذلك فقط بمشاركتها للكلمة عن طريق الروح القدس. لأنه هو رسم جوهر الآب، هو نور من نور، وهو قوة وصورة حقيقية لجوهر الآب ]. ( [2])
من هذا نفهم أنه رغم أن المسيح شابهنا في كل شئ (ماخلا الخطية) إلا أنه رغم ذلك ما يزال هو إبن الله بالطبيعة ونحن أبناء الله بالتبني أو بالنعمة. فما أريد أن أقوله في هذه النقطة، أن لا يظن أحد أننا بتناولنا جسده المحيي نصير مثله في جوهر الطبيعة الإلهية، فالكلام الذي قاله السيد للتلاميذ بعد القيامة، كان بعد تناولهم من جسده يوم خميس العهد، ورغم ذلك كانوا ومايزالوا يختلفون عنه في الطبيعة، بحسب قول الرب نفسه.
فماذا إذاً؛ هل الجسد الذي نتناوله هو جسد كامل؟
بالطبع نعم..
فحسب الإعتراف الأخير الذي يقوله الكاهن، لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه المسيح من السيدة العذراء، وهو الذي صلب على الصليب، وهو الجسد القائم من بين الأموات، وفي كل هذا لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين..
فهل معنى هذا أننا بتناولنا من هذا الجسد، جسد الإبن الوحيد الذي لله الكلمة، نصير آلهة.
قطعاً لا، بالمعنى الحرفي للكلمة، أي لا نصير من نفس طبيعة جوهر المسيح، فهو الإبن الوحيد المساوي للآب في الجوهر، ولا يمكن أن يصير البشر آلهة بمعنى أن يكون لهم نفس جوهر الله.
إذاً كيف يمكن أن نوفق بين هذا؟! كيف نتناول الجسد الإلهي ولا نصير واحداً مع الله في الجوهر؟! كيف نتناول جسد إبن الله، ونثبت فيه ويثبت فينا، ونتحد به ويتحد بنا، ورغم هذا لا نصير من جوهره؟!
الفرق بين الجوهر والمفاعيل
هنا فرّق الآباء بين الجوهر والمفاعيل، فلا يمكن لأحد أن يشترك مع الله في جوهره، ولكننا نأخذ مفاعيل السر. ما معنى هذا الكلام؟ أسوق إليكم المثل التالي لكي أوضح أكثر..
عندما تضع كوب من الماء على النار، فإن الماء يغلي بفعل النار، وعندما تشرب هذا الماء الساخن تنتقل مفاعيل النار إليك، أي تشعر بالدفء. ولكن ليس معنى هذا أنك شربت النار أو صرت من نفس طبيعة النار.... دعونا نطبق الكلام حرفياً .. عندما إتحد اللاهوت (الروح القدس) بالخبز وصار جسد المسيح الإلهي، تنتقل إلينا مفاعيل اللاهوت بتناولنا من هذا السر (أي ننال البر والطهارة وغفران الخطايا، والثبات في المسيح والإتحاد به)، ولكن ليس معنى هذا أننا أكلنا اللاهوت أو صرنا من نفس طبيعة اللاهوت.
ولكل نفهم إجابة سؤال هل أن اللاهوت يُؤكل؟!
أضيف إلى هذا السؤال القديم قدم المسيحية..سؤالاً آخر مثله تماماً. هل اللاهوت يتألم؟!
فالأكل شئ مادي مثله مثل الألم، يقع على الجسد المادي، ولا يقع على الروح، واللاهوت روح لايمكن أن تنطبق عليه الأمور المادية.
ولنا في إجابة القديس كيرلس الكبير عن هذا السؤال (هل اللاهوت يتألم؟!) دليلاً لنا إذ يقول.. أن الطرق على الحديد المحمى بالنار يقع على الحديد وليس على النار إذ لايمكن أن تتقبل النار الطرق بسبب طبيعتها غير المادية، وهكذا فإن اللاهوت لا يؤكل بسبب طبيعته غير المادية، ولكنه متحد بالخبز الذي نأكله كإتحاد النار بالحديد الذي يطرق.
وعلى هذا يكون السؤال نفسه، هل نأكل اللاهوت هو سؤال خاطئ معنىً ولاهوتياً، كما لو كان السؤال هل نأكل الحرارة؟! رغم أن الحرارة تدخل إلى داخلنا مع الأكل.. وأيضاً بهذا السؤال نفصل اللاهوت عن الناسوت كما لو كنا نسأل هل يمكن أكل اللاهوت بمفرده؟!.. إذاً السؤال في صيغته الصحيحة والدقيقة هو.. هل الخبز الذي نأكله هو جسد المسيح المتحد به اللاهوت؟ والإجابة بكل تأكيد نعم.
وقد كان نفس هذا السؤال مثار جدل واسع في أوائل القرن السابق من الطوائف البروتستانتينية، ونجد إجابة عليه في أحد الكتب القديمة كما يلي:
[ أمّا كوننا نأكل اللاهوت فليس في ذلك غرابة، لأن السيد نفسه قد إستعمل هذا التعبير. حيث قال " فمن يأكلني فهو يحيا بي " (يو6: 75) . ومعناه أننا بأكلنا الجسد المنظور أمامنا خبزاً، وشُرْبنا الدم المنظور أمامنا خمراً، نتحد باللاهوت المجيد الذي هو متحد بهما، هذا هو معنى أكلنا اللاهوت أي إتحادنا السري به. ألا تعلم أن الإنسان يستطيع أن يتحد بالمادة بالأكل والشرب العادي، لذلك كان لائقاً منه أنه يعطينا ذلك الإتحاد العجيب بلاهوته وناسوته بالأكل والشرب من لحمه ودمه المتحد بهما لاهوته، وكان مجيداً وعظيماً جداً أن يُعبّر عن هذا الإتحاد بالأكل]. ( [3])
أي أن الموضوع ليس أكل مادي، ولكنه إتحاد سرّي (مستيكي) بالروح القدس المتحد بالخبز والخمر.
ويضيف مؤكداً أن مفاعيل التناول هي هي ذاتها مفاعيل الروح القدس العاملة في كل الأسرار والحياة الروحية قائلاً: [ ماهي نتيجة الأكل وغايته؟! أليست هي إتحاد الطعام بالجسد؟ وما هو الأكل والشرب؟ أليس هو دخول الشئ إلى جوفنا؟ أو حلوله في داخلنا؟ ألم يقل هو " أنتم هياكل الله والروح القدس (الأقنوم الثالث من اللاهوت) فيكم ". (يو14: 16) وعندما تكلم البشير عن اللاهوت مقرباً إياه إلى أذهاننا، ألم يقل عنه أن الله نور؟ (1يو1 :5) هل من الصعب أن نفهم دخول النور إلى جوفنا وولوجه في أعضائنا وحواسنا الباطنية كما تخترق الأشعة الطبية أجسادنا؟!
أليس قولنا بأكل اللاهوت، كقولنا " لبسنا المسيح " (غلا3: 8) وكقولنا " ولدنا بالروح " (يو3: 6-8) ، وكقولنا " سقينا روحاً واحداً " (1كو12: 13) وكقولنا " صرنا شركاء الطبيعة الإلهية " (2بط1: 4) ].( [4])
وبالمناسبة أحب أن أوضح أن هناك فرق بين أقوال الكتاب المقدس وبين أقوال الآباء، فآيات الكتاب المقدس دقيقة جداً ومختارة بالروح القدس بعناية شديدة لتوضح المعنى المقصود بدقة متناهية، أما أقوال الآباء فلا يمكن الإعتماد عليها بهذه الطريقة، إذ أنه من الممكن أن يستعمل الآباء تعبيراً أو لفظاً ليس دقيقاً، أو يحتمل أكثر من معنى، للتعبير عن فكرة أو مفهوم يريدون شرحه، فلا يمكن أن تُؤخذ أقوال الآباء بحرفية كمسلّمات كما تُؤخذ أقوال الكتاب المقدس.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر .. هل التناول يضمن لنا الخلاص؟!
أي هل أننا بتناولنا من الجسد الإلهي وشركتنا معه ونوالنا مفاعيل الروح القدس، هل بعد كل هذا يمكن أن نفقد خلاصنا وأبديتنا؟! وهل كل من يتناول الآن سينال الحياة الأبدية؟!
إن كافة الأسرار التي أعطاها لنا الرب، والتي تمارسها الكنيسة المقدسة، لايمكن أن تسلب إرادتنا الحرة، ولا تعصمنا من الخطأ. ولهذا فإن ممارسة هذه الأسرار، بدون حياة داخلية نقية، وتوبة حقيقة، وإرادة قوية ضد الخطية، لا يمكن أن توصلنا إلى الحياة الأبدية. أما إذا كانت هذه الأسرار يصاحبها جهاد روحي مستمر، ويقظة داخلية دائمة، فإنها تشعل القلب بمحبة الله، وترفع الإنسان إلى العلو بنعمة الله.
قضية تأليه الإنسان:
والآن نأتي إلى لب الموضوع وأصل القضية كلها، وهو عمل الروح القدس فينا، الذي يسميه الكتاب ملكوت الله، " ها ملكوت الله داخلكم " (لو 17 :21)، ويقول القديس مكاريوس الكبير إن كل جهادنا أن نقتني ثمار الروح القدس، وبمعنى آخر إقتناء الروح القدس الذي يعطينا تلك الثمار. وعبر عن ذلك أيضاً سيرافيم صاروفسكي بقوله أن غاية الحياة المسيحية هي إقتناء الروح القدس. وعبارة تأليه الإنسان ماهي إلاّ إحدى التعبيرات التي تطلق على إقتناء الروح القدس، فبإقتناء الروح القدس نصير شركاء الطبيعة الإلهية، وهذا هو معنى التأليه .
إن الروح القدس هو العامل في كل الأسرار، وهو الذي يحل على الخبز فيحوله إلى جسد المسيح، وهو الذي يوحدنا به في التناول، كما يصلي الكاهن في القداس: [ نسأل ونطلب من صلاحك يا محب البشر لكي إذ طهرتنا كلنا توحدنا بك من جهة تناولنا من أسرارك الإلهية، لكي نكون مملوئين من روحك القدوس، وثابتين في إيمانك الأرثوذكسي، ومملوئين من شوق محبتك الحقيقية، وننطق بمجدك كل حين ].
وقصة الفداء كلها تتلخص في الكلمات القليلة التالية: الله خلق الإنسان خارج الفردوس كائن عاقل، ثم نفخ في أنفه نسمة حياة أي أعطاه الروح القدس ووضعه داخل الفردوس، وعندما خالف أمر الله وأكل من الشجرة فارقه الروح القدس (وهذا هو معنى موتاً تموت) وطُرد خارج الفردوس . ثم جاء المسيح وفدانا من الخطية وأعطانا عربون الروح القدس مرة ثانية، وغاية كل جهادنا وحياتنا على الأرض أن نقتني الروح القدس لكي نستطيع أن نعود مرة أخرى إلى الفردوس الذي طردنا منه ، إنتظاراً للقيامة العامة ودخولنا إلى الملكوت الذي دخله المسيح كسابق لأجلنا.
بل أن حلول الروح القدس على المسيح في الأردن كان حلولا علينا نحن لكي يرد لنا ما فقد منا بسقوط آدم، وفي هذا يقول القديس أثناسيوس: [ إن كان يُقدِّس ذاته من أجلنا، ويفعل هذا لأنه صار إنساناً، فمن الواضح جداً أن نزول الروح عليه في الأردن إنما كان نزولاً علينا نحن بسبب لبسه جسدنا... من أجل تقديسنا حتى نشترك في مسحته ونصير هياكل لله وروح الله يسكن فينا]. ( [5])
وقضية تأليه الإنسان ليست قضية جديدة، بل هي موجودة منذ القديم، فيقول المزمور " انا قلت انكم الهة و بنو العلي كلكم " (مز 82 : 6) وهي نفس الآية التي إستشهد بها الرب يسوع عندما كان يتكلم مع اليهود : " أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة... إن قال آلهة لاولئك الذين صارت اليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب" (يو10: 34) .
ويقول القديس أثناسيوس: [ لأنه صار إنساناً لكي نصير نحن مؤلهين].( [6])
[ فإذا كان قد نزل لكي يرفعنا، فهو إذن لم يحصل على إسم إبن وإله كمكافأة، بل بالأحرى فإنه هو نفسه قد جعلنا أبناء للآب، وألّه الناس بكونه صار هو نفسه إنساناً، لذلك فهو لم يكن إنساناً ثم صار فيما بعد إلهاً، بل بالعكس إذ هو الإله صار فيما بعد إنساناً لكي بالأحرى يؤلهنا ]. ( [7]) [ لأنه قد صار إنساناً لكي يؤلهنا في ذاته، وقد حُبل به من إمرأة ووُلد من عذراء لكي ينقل إلى نفسه جيلنا الخاطئ، ولكي نستطيع منذ الآن أن نصير جنساً مقدساً وشركاء للطبيعة الإلهية، كما كتب القديس بطرس ]. ( [8]) [ أما بالنسبة للكائنات الأخرى، التي قال لها: " أنا قلت أنكم آلهة " (مز82: 6)، فإنها حصلت على هذه النعمة من الآب، وذلك فقط بمشاركتها للكلمة عن طريق الروح القدس . لأنه هو رسم جوهر الآب، هو نور من نور، وهو قوة وصورة حقيقية لجوهر الآب ] ( [9]).
[ إن الكلمة صار جسداً لكي يقدم جسده للكل، وإننا إذ نشترك في روحه نصير قادرين أن نتأله، الأمر الذي لم يكن ممكناً أن نناله إلاّ بواسطة لِبْسه جسدنا المخلوق، لأنه هكذا منذ الآن فصاعداً بدأنا أن ندعو أنفسنا { رجال الله
z و { رجال المسيح z .. لأنه لم ينقص بلبسه الجسد، بل بالأحرى قد مجده وجعله غير مائت] ( [10]).
والحقيقة أن كل كتابات القديس أثناسيوس ضد الأريوسيين تركز وبشدة على تأليه الإنسان، حيث أنه لا يمكن لمخلوق أن يؤله غيره ما لم يكن هو نفسه إلهاً، وفي الوقت نفسه يكون متحداً بمخلوق. وهذا غض من فيض وقليل من كثير مما قاله أثناسيوس في تأليه الإنسان مما لا مجال لذكره هنا.
وفي تعليقه على تجسد الكلمة وميلاد الإنسان من الله يقول القديس أغسطينوس: [ فلكي لا نغلب من ضعفنا البشري ونرتعب من رهبة هذا الأمر، ولئلا يبدو ذلك أمراً لا يصدق أن الإنسان يولد من الله، لذلك أردف قائلاً كأنه يطمئننا: " والكلمة صار جسداً وحل بيننا " فلماذا إذن نندهش من كون الإنسان يولد من الله بنعمة خاصة منه؟ انظر كيف أن الله برحمته يولد من إنسان ويجعله يسكن في الله الذي فيه وحده ومنه وحده يمكن للمباركين أن يصيروا مشاركين لخلوده، مما يجعلنا نقتنع بأن إبن الله صار مشاركاً لنا في موتنا ]. ( [11])
وأول من إستخدم كلمة { التأليه في المسيح، على الشركة في الطبيعة الإلهية، هو القديس إيرينيئوس ( [12]) ومن بعده آباء الكنيسة الشرقية أثناسيوس وغريغوريوس اللاهوتي وغيرهما.
إذ يقول إيرينيئوس [ واهباً اللاهوت بالحقيقة للبشرية بواسطة هذا الروح ] ( [13]).
إذاً فالتأليه هو إقتناء الروح القدس كما عبّر عن ذلك آباء الكنيسة والرهبنة.
وفي تسابيح الكنيسة القبطية نجد هذا المعنى واضحاً جداً، فنقول في ثيئوطوكية الجمعة: هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له. هو أخذ جسدنا، وأعطانا روحه القدوس.
وهو المعنى الذي عبّر عنه أيضاً القديس أثناسيوس بقوله:
[ صار الله لابساً الجسد لكي نصير نحن البشر لابسين الروح] ( [14]).
والحقيقة أن حركة إنكار تأليه الإنسان والشركة في الطبيعة الإلهية والإتحاد بالله عن طريق الروح القدس، ظهرت في القرون الوسطى في الكنيسة اليونانية – في القرن الخامس عشر وما قبله، وقد قاوم هذه الحركة القديس البيزنطي سمعان رئيس أساقفة تسالونيكي (تنيح في 1429م).
أما في الكنيسة القبطية فكان الإتحاد بالله هو أعلى درجة من درجات الصلاة الروحية، وهو كان محور أقوال كل الأباء النساك والرهبان وآباء الرهبنة الأوائل، وهو التعبير الشائع عن الصلاة في أعلى درجاتها. ويعجز المجال هنا عن إيراد أقوال الآباء في هذا الموضوع.
وبهذا نخلص إلى أن الروح القدس هو العامل فينا في كل شئ، هو الذي يطهرنا بالمعمودية، ويلدنا الولادة الثانية، ويوحدنا بالمسيح في سر التناول، ويعطينا شركة الطبيعة الإلهية، ويوحدنا بالله في الصلاة الكاملة، وهو غاية حياتنا في المسيح. أما كيف يحل علينا وكيف يعمل؛ فلنا في إجابة الرب على نيقوديموس عندما سأله هذا السؤال، الإجابة القاطعة لكل من يحاول أن يفسر أو يعرّف كنه هذه العلاقة إذ قال: " الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح " (يو3: 8) .
وأخيراً نرجو من كل أبناء الكنيسة المحبين أن يبتعدوا عن كل ما يسبب إنقسام لجسد المسيح، ويكفينا ما عانيناه طوال العقود السابقة من مشاحنات وإنقسامات، كان السبب فيها جميعاً هو الكبرياء ومحبة الرئاسة والمتكئات الأولى، وكلٍ يظن أنه هو الوحيد الذي يعرف الحقيقة، بينما يقول الآباء أن الله يظهر نفسه للمتضعين والمنسحقين. فليس كل عالم هو لاهوتي، بينما كل من يصلي بانسحاق القلب فهذا هو اللاهوتي الحقيقي لأنه يحوي في داخله روح الله الذي يعطيه كل فهم ومعرفة.
راهب من الإسقيط المقدس
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) عظة على إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الكبير (ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية).
( [2] ) ضد الأريوسيين المقالة الأولى، الفصل الثالث. تعريب الإستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء.
( [3] ) الشماس جرجس صموئيل عازر كتاب الإفخارستيا ( طبع في سوهاج سنة 1935) ص 276، 277.
( [4] ) نفس المرجع السابق ص 277.
( [5] ) ضد الأريوسيين
I,47; II,55
( [6] ) De Incr. V., n. 54. التجسد
( [7] ) ضد الأريوسيين I,38,39.
( [8] ) Ad Adelphium , n. 4.
( [9] ) ضد الأريوسيين المقالة الأولى، الفصل الثالث. تعريب الإستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء.
( [10] ) De Decretis, n. 14.
( [11] ) Homilies On St. John, 10.
( [12] ) Saint Irenaeus, Adversus Haereses, IV, 34,I.
( [13] ) ضد الهراطقة 5: 1
( [14] ) رسالة إلى أدلفوس 4
[ رغم أننا عبيد بالرتبة والطبيعة، فهو الآن يدعونا إخوته، وجعل الله الآب، هو الأب المشترك له ولنا، ولأنه جعل البشرية خاصة به بإتخاذه شكلنا لنفسه، فإنه يدعو إلهنا له، بقوله { إلهي
بالطبع نعم..
فحسب الإعتراف الأخير الذي يقوله الكاهن، لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه المسيح من السيدة العذراء، وهو الذي صلب على الصليب، وهو الجسد القائم من بين الأموات، وفي كل هذا لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين..
قطعاً لا، بالمعنى الحرفي للكلمة، أي لا نصير من نفس طبيعة جوهر المسيح، فهو الإبن الوحيد المساوي للآب في الجوهر، ولا يمكن أن يصير البشر آلهة بمعنى أن يكون لهم نفس جوهر الله.
هنا فرّق الآباء بين الجوهر والمفاعيل، فلا يمكن لأحد أن يشترك مع الله في جوهره، ولكننا نأخذ مفاعيل السر. ما معنى هذا الكلام؟ أسوق إليكم المثل التالي لكي أوضح أكثر..
أضيف إلى هذا السؤال القديم قدم المسيحية..سؤالاً آخر مثله تماماً. هل اللاهوت يتألم؟!
فالأكل شئ مادي مثله مثل الألم، يقع على الجسد المادي، ولا يقع على الروح، واللاهوت روح لايمكن أن تنطبق عليه الأمور المادية.
أي هل أننا بتناولنا من الجسد الإلهي وشركتنا معه ونوالنا مفاعيل الروح القدس، هل بعد كل هذا يمكن أن نفقد خلاصنا وأبديتنا؟! وهل كل من يتناول الآن سينال الحياة الأبدية؟!
والآن نأتي إلى لب الموضوع وأصل القضية كلها، وهو عمل الروح القدس فينا، الذي يسميه الكتاب ملكوت الله، " ها ملكوت الله داخلكم " (لو 17 :21)، ويقول القديس مكاريوس الكبير إن كل جهادنا أن نقتني ثمار الروح القدس، وبمعنى آخر إقتناء الروح القدس الذي يعطينا تلك الثمار. وعبر عن ذلك أيضاً سيرافيم صاروفسكي بقوله أن غاية الحياة المسيحية هي إقتناء الروح القدس. وعبارة تأليه الإنسان ماهي إلاّ إحدى التعبيرات التي تطلق على إقتناء الروح القدس، فبإقتناء الروح القدس نصير شركاء الطبيعة الإلهية، وهذا هو معنى التأليه .
[ فإذا كان قد نزل لكي يرفعنا، فهو إذن لم يحصل على إسم إبن وإله كمكافأة، بل بالأحرى فإنه هو نفسه قد جعلنا أبناء للآب، وألّه الناس بكونه صار هو نفسه إنساناً، لذلك فهو لم يكن إنساناً ثم صار فيما بعد إلهاً، بل بالعكس إذ هو الإله صار فيما بعد إنساناً لكي بالأحرى يؤلهنا ]. ( [7]) [ لأنه قد صار إنساناً لكي يؤلهنا في ذاته، وقد حُبل به من إمرأة ووُلد من عذراء لكي ينقل إلى نفسه جيلنا الخاطئ، ولكي نستطيع منذ الآن أن نصير جنساً مقدساً وشركاء للطبيعة الإلهية، كما كتب القديس بطرس ]. ( [8]) [ أما بالنسبة للكائنات الأخرى، التي قال لها: " أنا قلت أنكم آلهة " (مز82: 6)، فإنها حصلت على هذه النعمة من الآب، وذلك فقط بمشاركتها للكلمة عن طريق الروح القدس . لأنه هو رسم جوهر الآب، هو نور من نور، وهو قوة وصورة حقيقية لجوهر الآب ] ( [9]).
إذاً فالتأليه هو إقتناء الروح القدس كما عبّر عن ذلك آباء الكنيسة والرهبنة.
وهو المعنى الذي عبّر عنه أيضاً القديس أثناسيوس بقوله:
[ صار الله لابساً الجسد لكي نصير نحن البشر لابسين الروح] ( [14]).
( [2] ) ضد الأريوسيين المقالة الأولى، الفصل الثالث. تعريب الإستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء.
( [3] ) الشماس جرجس صموئيل عازر كتاب الإفخارستيا ( طبع في سوهاج سنة 1935) ص 276، 277.
( [4] ) نفس المرجع السابق ص 277.
( [5] ) ضد الأريوسيين