أنت صخر وعلى الصخر هذا سأبني كنيستي، فلن يقوى عليها سلطان الموت ( مت 16 /18)
سر الإفخارستيا - العلاقة بين الإفخارستيا وذبيحة الصليب - دير القديس العظيم أنبا مقار
العلاقة بين الإفخارستيا
وذبيحة الصليب
|
لابد أولاً أن ننفي من ذهننا أن ذبيحة الإفخارستيا تكرار لذبيحة المسيح المُخلِّص على الصليب. هي ليست تكراراً، لكنها ”تقديم“ أو ”تقريب“ الجسد والدم الأقدسين المبذولَيْن على الصليب مرة واحدة، في شكل قرابين الخبز والخمر.
فذبيحة الصليب التي قُدِّمت مرة واحدة وإلى الأبد على جبل الجلجثة، وذبيحة الإفخارستيا التي تُقدَّم مراراً على المذابح الأرضية في كل مكان؛ لا يمكن فصلهما بعضهما عن البعض. فهما نفس الذبيحة الواحدة، وإن كانتا مُتميِّزتين الواحدة عن الأخرى.
إنهما غير منفصلتَيْن، بل هما واحد، ونفس شجرة الحياة التي غرسها الله على الجلجثة لكي كل مَن ”يأكل منها يحيا إلى الأبد“ (انظر تك 3: 22؛ رؤ 22: 2)، وقد امتلأت كنيسة الله بورقها لشفاء الأُمم، حيث يأكل من ثمرها المُحيي للأبد كلُّ مَن يطلب الحياة الأبدية إلى نهاية الدهور.
غير أنهما متميِّزتان: فالذبيحة المُقدَّمة في الإفخارستيا تُسمَّى: ”غير الدموية“، من حيث إنها تُمارَس بعد قيامة المُخلِّص الذي «بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً، لا يسود عليه الموت بعد» (رو 6: 9)، فهي تُقرَّب بدون سفك الدم، بدون موت، بالرغم من أنها تُمارَس كذكرى لآلام وذبح حَمَل الله «لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة» (رو 6: 10).
معنى الإفخارستيا كذبيحة(1):
إن هذا المعنى نستشفُّه من تعليم المسيح نفسه حينما قال:
+ «أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المَنَّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أَكَلَ أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.
والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يو 6: 48-51).
- وبدلاً من المنِّ القديم، يُقدِّم المسيح نفسه باعتباره الخبز الحي الجديد الذي نزل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت بعد، بل يحيا إلى الأبد حتى وإن مات بالجسد. وهذا الخبز هو جسده الذي يُبذَلُ على الصليب.
- ولكن كيف سيُعطي المسيح نفسه خبزاً ليأكل منه الإنسان الجديد (الذي آمن وتعمَّد من الماء والروح) بعد أن حدَّد أن هذا الطعام الروحي الجديد سيكون جسده الذي يبذله عن حياة العالم؟
- هنا يدخل المعنى في تصوير ميستيكي - أي سرِّي - شديد الشفافية، بمعنى أن المسيح سيُقدِّم جسده على الصليب ذبيحة حيَّة مقدَّسة للآب عن حياة العالم. وهذه الذبيحة الحيَّة المقدَّسة لكي يتم عملها ومفعولها في الإنسان بإعطاء الخلاص والغفران والحياة الأبدية والبرِّ، يتحتَّم أن يأكل منها الإنسان لكي يكون مشترِكاً في فعلها ومفعولها الإلهي السرِّي الفائق.
- ولكي يُعطي المسيح لكل إنسان الفرصة والحق ليأكل منها في كل مكان وإلى مدى الأزمان، قام يوم الخميس المبارك برَسم طقس ذبح جسده على عشاء الفصح مع تلاميذه، بأن أخذ خبزاً عادياً، وشكر وبارك وكسَّره، وأعطاه لتلاميذه برسم الجسد الذي كان سيُكسَر على الصليب في اليوم التالي، يوم الجمعة، قائلاً بصوت رهيب: ”هذا هو جسدي المكسور (على الصليب) من أجلكم، خذوا كُلوا منه كلكم“. ثم عاد وأخذ الكأس، وشكر وبارك وأعطاه لتلاميذه قائلاً: ”هذا هو دمي المسفوك (على الصليب) من أجلكم، اشربوا منه كلكم“.
- وهكذا حقَّق المسيح، بهذا الفعل الإلهي السرِّي (”سرِّي“ نسبة إلى سرِّ تقدمة جسده ودمه بالخبز والخمر يوم الخميس)، الوجود الميستيكي، أي السرِّي، للجسد الحقيقي المذبوح والمكسور على الصليب والدم المسفوك عليه.
- وهكذا أيضاً حقَّق المسيح بهذا الفعل الإلهي السرِّي ذبيحته الفصحية بجسده بواسطة الخبز والخمر، حتى أنَّ كل مَن يأكل من هذا الخبز الفصحي السرِّي ويشرب من هذا الدم الفصحي السرِّي، يكون قد أكل بالفعل السرِّي، المسيح نفسه وهو في حالة الذبيحة الفصحية التي سيُقدِّمها للآب لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية لكل مَن يتناول منها.
معنى: ”جسدي مأكلٌ حقٌّ، ودمي مَشْرَبٌ حقٌّ“:
- ولكي يرفع المسيح عن ظنِّ الإنسان أنه يأكل خبزاً عادياً ويشرب خمراً ممزوجاً عادياً؛ أكَّد لنا: «لأن جسدي مأكلٌ حقٌّ، ودمي مشربٌ حقٌّ» (يو 6: 55)، مُشيراً بهذا إلى الفرق بين سرِّ الخبز المكسور والخمر الممزوج المُحمَّلين بجسد المسيح ودمه، وبين الخبز العادي والخمر الممزوج العادي.
وكلمات المسيح هذه هي أعمق تعبير عن استيعاب لاهوت المسيح الكائن في الجسد والدم الفصحيَّيْن العاملَيْن على غفران الخطايا وإعطاء الحياة الأبدية بقوله في موضع آخر: «مَن يأكلني فهو يحيا بي» (يو 6: 57).
- وهكذا يكون المسيح قد أعطى عهداً جديداً أبدياً موثَّقاً، بأنَّ كل مَن يأكل من هذا الخبز المكسور الفصحي والخمر الممزوج الفصحي (والذي نُعبِّر عنه بسرِّ الإفخارستيا)، يكون قد أَكَلَ المسيح وهو في حال الذبيحة الفصحية على الصليب والقائم من بين الأموات، ما يجعله ضماناً لغفران الخطايا (بالصليب) والحياة الأبدية (بالقيامة). وفعلاً، صرَّح المسيح علنياً عن هذا العهد الجديد بقوله: «هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، الذي يُسفك عنكم» (لو 22: 20).
فاعلية الأكل والشرب من جسد المسيح ودمه: الثبوت المتبادَل في المسيح:
- كما أعطى المسيح استعلاناً جديداً لفاعلية الأكل من الجسد والشرب من الدم الفصحيَّيْن بقوله: «مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» (يو 6: 56). هذا الثبوت المتبادَل، نتيجة هذا الفعل السرِّي مع المسيح بواسطة الاشتراك في الجسد والدم، هو ما يُعبَّر عنه لاهوتياً بالاتحاد السرِّي مع المسيح.
وقد عبَّر عنه القديس يوحنا في رسالته الأولى هكذا: «أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 3). كما عبَّر عنه المسيح بقوله: «أنتم فيَّ، وأنا فيكم» (يو 14: 20). كذلك قوله في صلاته إلى الآب: «ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا...» (يو 17: 21)، وأيضاً: «أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد» (يو 17: 23).
نتيجة التناول من المسيح الخبز الحي النازل من السماء:
هذا الطعام الروحي الجديد الذي أحدره لنا المسيح من السماء كخبز إلهي حي، وهو جسده، ليُطعِم به الإنسان الجديد ليحيا وتدوم حياته إلى الأبد؛ هو جوهر العهد الجديد. فنحن الذين نأكل الجسد المقدس ونشرب الدم الكريم، ندخل في صميم العهد الجديد الذي صنعه الله الآب معنا بدم ابنه الوحيد الذي قدَّمه لنا بنفسه لنشرب منه، فيتغلغل الابن في أحشائنا، ونحن ندخل في عمق أعماقه، ونصير في وحدة أمام عين الآب تؤهِّلنا للبنوَّة لله ولميراث الابن الوحيد.
وبهذا ترفع الإفخارستيا - طعام الحق هذا - الإنسانَ الجديد من الأرض إلى السماء، ومن حال الخلقة الترابية إلى وجود سمائي وكيان روحي يتراءى أمام الله في حالٍ من البر والقداسة، لمدْح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب. وهذا كله هو مسرَّة مشيئة الآب (اقرأ الأصحاح الأول من رسالة بولس الرسول إلى أفسس).
قبول هذه النِّعَم والعطايا كلها بالإيمان، وبخوف ورعدة:
ونعود مرة أخرى ونُذكِّر القارئ بكلمات المسيح عن كيفية بلوغ العطايا والنِّعَم الناجمة عن تناولنا من هذه الأسرار المقدسة أنها تُنَال بالإيمان، وليس بالفحص العقلي وكثرة الأسئلة، وبالخوف والرعدة والسجود وليس بالجسارة وتشتُّت الذهن وإعمال العقل لمحاولة الاقتناع العقلي بها، حيث إن كل هذه الأسرار وما ينجم عنها هي خارجة عن إمكانيات طبيعتنا البشرية المحدودة، وفائقة على منطق عقولنا البشرية المحدودة، فلا سبيل إلى قبولها إلاَّ بالإيمان، وإلاَّ فسيفقدها الإنسان.
ليُعْطِنا الله نعمة الإيمان بغير فحص، حسب كلمات القدَّاس الإلهي، لكي ننتفع بها وننالها إن أردنا