Skip to Content

مقالة " القــربــان " حسب تعابير الكتاب المقدّس - الجزء الأول - الأب مارون مبارك

 كنيسة مار شربل أدونيس

مع الأب مارون مبارك – المرسل اللبناني

 الموضوع:       

"القــربــان"

(الجزء الأول).

    حسب تعابير الكتاب المقدّس.

   القربان سرّ من أسرار الكنيسة السبعة، يحمل في حياتنا الغذاء الروحي والدفع إلى عيش العلاقة القويّة الملموسة مع الربّ. إنّه الخبز الذي يُحيي، والغذاء الذي يجعل المرء يشعر بحضور الربّ وعمله؛ انّه العطيّة السماويّة النازلة من السماء التي تعطي الحياة. لو أردنا التغنّي بمعاني القربان لطال بنا الكلام ولم نعد نعلم قوّته الفاعلة فينا.

  نتوقف في حديثنا عند النقاط الآتية:        

 1-   تسميات الخبز السماوي:

  أ)  "كسر الخبز": في بدء الحياة الكنسيّة، كانوا يسمّون "الحركة التي قام بها يسوع ليلة العشاء السرّي الأخير مع تلاميذه "كسر الخبز". إنّها الحركة التي يقوم بها مترئس المائدة. فبعد القيامة، عرف تلميذا عماوس يسوع عند هذه الحركة. (لوقا 24، 35).     ب)  "الإفخارستيا": جاءت فيما بعد، وهي نتيجة صلاة يسوع حين شكر ليلة العشاء ليقدّس الخبز والخمر. أصل الكلمة يوناني ويعني "تأدية الشكر". لقد أعطت هذه الكلمة رونقاً كبيراً لذلك العشاء إذ بيّنت العلاقة الجوهريّة بين الآب والإبن. لذا نسمّي كل الاحتفال بالقداس إفخارستيا.  

 ج) "العشاء": تأتي هذه التسمية من خلال العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه ليلة عيد الفصح. هذا العشاء أخذ طابعاً مميزاً، وصار العشاء الأخير يعني النهائي الذي ليس من بعده عشاء. لقد بقيَ هوَ هوَ حتى يومنا هذا ونحن نحتفل به كلّ يوم وكلّ عيد. هو فصحنا الجديد الذي صار لنا القيامة.

 د) "غذاء الربّ": وهي تسمية تُشبه تسمية "العشاء". المقصود به هو الأكل أو الطعام الذي تركه الربّ يسوع لتلاميذه. انّه الزاد، الزوادة. 

 ه) "الجماعة الملتئمة": نقصد بها الجماعة التي دعاها الربّ حتى تشترك بالاحتفال الافخارستيا. هنا تبرز صورة "وحدة الجماعة" التي تحققها الافخارستيا، انها الجسد ويسوع هو الرأس في القربان.  

  و) "التذكار"(Memorial) : إنّه غير الذكرى (Souvenir). فالتذكار يعني الأمر الذي به تأسس القربان لنتذكر يسوع. التذكار يجعل الحدث حاضراً في حياة الكنيسة، والحدث هو موت يسوع وقيامته. يستحثنا القربان إلى عيش هذا الحدث بالحاضر وليس نتذكره بالذاكرة. إنّه واقع.  

  ز) "الليتورجيا المقدّسة" أو "سرّ الأسرار":  تدل هاتان العبارتان إلى القداس بحدّ ذاته. وعندما تُستخدمان للدلالة على القربان فإنهما تدلان على انّ الاحتفال بالافخارستيا هو الأهم، إنّه العبارة الأكمل عن سرّ الخلاص والفداء، أي عمل الله في خدمة البشر؛ والعمل الأكبر هو خلاص البشريّة. 

  ح)  "السرّ المقدّس":  يدلّ بشكل خاص على جسد يسوع المسيح ودمه الموجودين في الاحتفال.  

  ط)  "الذبيحة المقدّسة":  تدل بشكل خاص على "العطيّة" التي تجدد تضحية يسوع وذبيحته على الصليب من أجل الكنيسة. 

  ك) "المناولة" أو "الاتحاد" (Communion): هي العبارة التي تدل على الاشتراك بطعام الربّ. فيقول مار بولس بهذا الشأن، "احكموا انتم فيما أقول "أليست كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فلما كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد" (1 قورنتس 10، 16-17). يحاول بولس أن يُفهمنا أن الشركة هذه تخلق وحدة حال على جهتين: من جهة هي اتحاد مع يسوع الذي يعود من جهة أخرى ليوحدنا مع بعضنا البعض.

  ل)  هناك تسميات أخرى للقربان هي:  خبز السماء، خبز الحياة، خبز الملائكة، الزاد الأخير، الخبز الفائق المادة...  فانطلاقاً من هذه التسميات ومعانيها والمفاهيم التي نستخرجها منها، نتوقف عند مفهموم بعض العبارات في العهد القديم تحضيراً لمفهموم القربان في العهد الجديد.

 2-   الخبز والشكر في العهد القديم:

  أ)  "الخبز": يشرح معجم اللاهوت الكتابي أن الخبز الذي يهبه الله للإنسان هو مصدر قوّة له (مزمور 13، 14-15) ß "... ويسند الخبز قلب الإنسان"، كما وانّه وسيلة أساسية للحياة، لدرجة أن العوز إلى الخبز مرادف الحرمان من كلّ شيء.  يعتبر الكتاب المقدّس أن للخبز قيمته في كلّ ظروف الحياة: 

- فالمتألّم والذي يشعر بأن الله نسيه يأكل خبز "الدموع والكرب والرماد". (مزمور 41، 4).   

  - أما المبتهج فيأكل عيشه في هناء، يقول (سفر الجامعة 9، 7): "فاذهب وكلْ خبزكَ بفرح واشرب خمرك بقلب مسرور لأن الله قد رضيَ عن أعمالك".     

  - والخاطئ يأكل خبز النفاق والكذب (أمثال 4، 17).  

  - والكسول يأكل خبز الكسل (أمثال 31، 27).

من جهة ثانية، الخبز ليس ضرورياً للحياة فقط، بل هو وسيلة للمشاركة. فكل مأدبة تفترض تجمعاً بل شركة، وأكل الخبز بشكل منتظم مع شخص معيّن، هذا يعني أننا اتخذناه صديقاً، من هنا القول المأثور "يوجد خبز وملح بيننا". فإن واجب الضيافة مقدّس وهو يحوّل خبز كل فرد إلى خبز لعابر السبيل الذي ارسله الربّ الإله ß "قال ابراهيم للرجال الثلاثة العابرين أمامه "واقدّم كسرة خبز فتسندون بها قلوبكم بعد ذلك، فانّكم لذلك جزتم بعبدكم" (تكوين 18، 5). ويشدد الكتاب المقدّس على ضرورة تقاسم الخبز مع الجائع، فهي الروحانية التي تعبّر عن المحبّة الأخوية، بحيث يقول (سفر الأمثال 22، 9): الصالح العينِ يبارك لأنّه أعطى من خبزه للفقير".          

الخبز هو عطيّة من الله، في الخلق كما بعد الطوفان الربّ الإله يؤمّن الطعام لشعبه. لذلك يفهم المؤمن أن أوقات الوفرة في الخيرات هي بركة من الربّ، أمّا ساعات القلّة والقحط فهي عقاب للخطيئة. لذلك يطلب الإنسان الخبز من الربّ وينتظره بكل ثقة، وهذا ما يذكرنا بمعجزة تكثير الخبز والسمك، والمعجزات السابقة كما حصل مع إيليا وأرملة صرفت صيدا، وأليشاع في سفر الملوك الثاني حيث قال "سنأكل ويفضل عنّا".      

 واستعمال الخبز في العبادة يعود إلى تاريخ قديم على أثر شعور ديني حيث كانت تُقدَّم الأطعمة للآلهة. أما إله أسرائيل فإنّه يرفض أي طعام، لذلك كانت توضع البواكير، أي بواكير غلات الأرض، على المذبح وتُحمَل في سلال إلى المذبح، وذلك للاعتراف بجميل الربّ، فهي ترمز إذاً إلى الشركة بين الله وشعبه المؤمن، وتكون بالنهاية من نصيب الكهنة   (لاويين 24، 5-9)، لأنّ الكاهن هو ممثّل الله. ثم تحوَّل استخدام تقدمة الخبز الفطير إلى استخدام احتفالي بعد الخروج من مصر وذلك لارتباط الحدثين بعضهما البعض، ولاعتبار الخمير سيئاً لا يصلح للعبادة. ووصل استخدام الخبز في العبادة إلى قمّة معانيه في الافخارستيا حيث يسوع قدّم جسده في هذا الرمز وأمر تلاميذه بالقيام بهذا العمل حتى مجيئه جاعلاً منه سرّ وحدة المؤمنين.   

 وفي استخدامه الرمزي، يحمل الخبز معنى الغذاء الروحي بالكلمة. ففي زمن النبي عاموس أعلن عن الجوع إلى "كلمة الله" (8، 11). وكذلك الأنبياء، مثل أشعيا (55، 1-3) الذي يعلن عن الوليمة الإسكاتولوجية حيث يكون "كلام الربّ" هو الخبز الذي يحي! "أيها العطاش جميعاً هلمّوا إلى المياه، والذين لا فضّةَ لهم هلمّوا واشتروا وكلوا، هلمّوا اشتروا بغير فضّة ولا ثمن خمراً ولبناً وحليباً، لماذا تَزِنونَ فضةً لما ليس بخُبز، وتتعبون لما لا شبعَ فيه؟ اسمعوا لي كلاماً وكلوا الطَيّب ولتتَلَذّذ بالدسمِ نفوسكم. أميلوا آذانكم وهلمّوا إليَّ. إسمعوا فتحيا نفوسكم. فإنّي أعاهدكم عهداً أبدياً على الخيرات التي وُعِدَ بها داود".

  ب) "الشكر" (Action de Grâce): يقول معجم اللاهوت الكتابي أيضاً بأن عطيّة الله هي مجانية وتفيض، وفعل الشكر هو جواب على نعمة الله المتدفّقة والمتواصلة. لذلك نفهم بفعل الشكر أنه:

  - وعي على عطايا الله.

  - اندفاع لا شائبة فيه للنفس التي امتلأت بالدهش من جود الله عليها.

 - عرفان الجميل أمام العظمة الإلهية. 

 - ردّة فعل دينية عميقة للخليقة التي تكشف شيئاً من الله ومن عظمته ومجده.  

  ففي العهد القديم، الشكر هو عرفان للجميل بقدر ما هو توق نحو المستقبل ونحو نعمة أكبر. وفي الحقيقة إذا لم يكن قد عرف هذا العهد الشكر في كماله، فلأنّه لم يكن قد تذوّق بعد ملء النعمة.

لقد تعوّد الأقدمون في الكتاب المقدس الشكر عن طريق استعادة الفرح والحمد والتهليل وتمجيد الله للاعتراف ولإعلان العظائم الإلهية وبالتالي للشهادة لها. لذلك استخدم الأقدمون عبارتين للتعبير عن شكرهم:

الأولى هي "توداه" توازيها بالفرنسيةremercier  أي شكر؛ وعبارة "بركة" وفيها معنى "التبادل الجوهري بين الله والإنسان". فصدى بركة الله الذي يهب خليقته الحياة والخلاص هو البركة التي يشكر بواسطتها الإنسان خالقه. يقول سفر دانيال 3/ 90 "باركوا الربّ إله الآلهة، يا جميع متقي الربّ، سبّحوه واحمدوه لأن إلى الأبد رحمته".      

 لقد وصلت العبارتان إلى معناهما القوي مع يسوع في عشائه الأخير. ففي ذلك العشاء حمل يسوع حياة البشريّة كلها من خلال رموزها ومن خلال عناصرها الأساسية وقرّبها كلّها بفعل شكر للربّ الإله، وقرّبها كلّها بفعل تعويض، بشخصه، عن خطيئة العالم، حتى رفع العالم معه عندما رُفِعَ هوَ على الصليب.هنا ندخل في التعرّف على معاني القربان في العهد الجديد.          

 1) نبدأ مع القديس بولس الرسول:              

  يعتبر الأول في التعبير عن القربان، اولاً لأنّه رجع في ابحاثه وفي أفكاره وتعاليمه إلى التقاليد الأولى التي تنبع من عمل يسوع بالذات مع الرسل في أورشليم. تعتبر رسالة مار بولس الأولى إلى أهل قورنتس هي الكتابة الأقدم بالتاريخ بين الكتابات الأخرى في العهد الجديد. فلقد حرّرها بولس ما بين سنتي 56 و 57 وبالتالي هي قبل الأناجيل. ولكن مار بولس لا يستند على كتاباته فقط بل يعود إلى يسوع بالذات ليدل سامعيه على أن مرجعيته لا شائبة فيها، فهو يعود إلى النبع الأول أي يسوع. لذلك يقول "فإنّي تسلّمت من الربّ ما سلّمته إليكم، وهو أنّ الربّ يسوع في الليلة التي أُسلِمَ فيها أخذ خبزاً وشكر، ثم كسر وقال: "هذا هو جسدي، إنّه من أجلكم. إعملوا هذا لذكري". وصنع مثل ذلك على الكأس بعد العشاء وقال "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلّما شربتم فاعملوه لذكري". (1 كورنتس 11/ 23-25). ومن هنا يصل بولس إلى الاستنتاج السريع لفهم معنى هذا العشاء الافخارستي، ومعناه الجوهري، هو أنّه يقول "كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تعلنون موت الربّ إلى أن يأتي" (1 كورنتس 11/ 26). إذاً كل الظروف التي تدور حول هذا العشاء وكل المعاني التي يحملها الخبز الذي يقدّمه يسوع كجسده والمعاني التي تحملها الخمر التي قدّمها يسوع كأنّها دمه من اجل العهد الجديد، كل هذه المعطيات تلقي الأضواء على انّ هدف هذه المائدة وهذا العشاء هو إعلان موت يسوع على أنّه سوف يعود بالمجد.  

  - ويؤكد مار بولس على أنّه "تسلّم من الربّ" ما يقوله لأهل قورنتس وهو يشدد على الأمر كأنّه هو شاهد وهو تلقّى من الشهود نفسهم لهذا الحدث وهم الرسل الذين يؤكّدون بدورهم أن يسوع هو نبع القربان لأنه هو صنعه بنفسه ليلة العشاء الشهيرة. ومار بولس يعود بالمرجع إلى الرسل مرّة ثانية ليؤكد حدثاً أقوى وهوَ حدث قيامة يسوع، وذلكَ بنفس الرسالة إلى أهل كورنتس في 15/ 3-4، حيث يقول "سلّمتُ إليكم قبل كلّ شيء ما تسلمته أنا أيضاً، وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا كما ورد في الكتب، وإنّه قُبرَ وقام في اليوم الثالث كما ورد في الكتب..." . فموت يسوع وقيامته يشكلان النقطة الأساس والجوهريّة في الوحي المسيحي، وبالأخص القيامة التي تؤكّد كلّ تعاليم يسوع. لذلك من المهم أن يلجأ مار بولس إلى المرجعيّة الأساسية لتأكيد أكبر حقيقتين في الحياة المسيحيّة: حقيقة موت يسوع وقيامته، وحقيقة القربان الذي أسّسه بشخصه.         وهذه الحقائق كلّها تدخل في صلب عمليّة خلاص البشريّة. لذلك يشدد أنّه تسلّم حقيقة القربان مباشرة من الربّ بالاستناد إلى أعمال يسوع وأقواله وهذا ما يثبّت كل احتفال قرباني نحتفل به، لأنّ التقليد له دوره ولكن في العمل القرباني ليس التقليد وحده ما يؤكّد العمل، بل تدخّل يسوع بالذات، فهو المرجعيّة الأولى للقربان. 

  - اصنعوا هذا لذكري:  يسوع يطلب من الرسل أن يصنعوا هذه الذبيحة غير الدمويّة حتى يتذكّروا شخصه الذي يجمع بين الإنسان والإله والذي يتخطّى كلّ الزمان: "الحق الحق أقول لكم، قبل أن يكون ابراهيم، أنا هوَ" (يوحنا 8/ 58). وبهذا "التذكار" يعلن للرسل وللجميع أنه هو في وسط العمليّة الخلاصيّة التي دبّرها الله للبشريّة كلها. فهو حاضر منذ الأزل، من قبل إنشاء العالم، وهو لا يزال حاضراً حتى بعد قيامته وصعوده، وعمله هو هو نفسه في عمليّة الخلاص هذه. فكما كان العشاء الفصحي السنوي عند اليهود حتى يتذكروا الخروج من مصر، أراد يسوع أن يكون هناك أيضاً العشاء السرّي الذي يعيش فيه المؤمنون وتعيش فيه الكنيسة التجدد المتواصل لعطيّة يسوع الخلاصيّة. والضمانة لهذا العشاء الذي يحمل طابعاً مميزاً هو يسوع نفسه لأنّه إله وإنسان وهو الذي أمرَ وهو الذي يحضر في كلّ عمليّة عشاء تذكاري له. من هنا نلاحظ تلاقي حقيقتين: حقيقة التذكار وحقيقة حضور يسوع الواقعي معنا.       

 1) الأناجيل وحديثها عن القربان:        

 من الملاحظ أن الأناجيل الثلاثة، حتى متى، مرقس ولوقا، تتحدّث عن العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه. ولوقا يشبه إلى حدّ بعيد بنصه نصّ بولس. أمّا مرقس ومتى فنصهما يتشابهان وفيهما نفحة سامية اكثر من نص بولس.     

 ففي مرقس (14/ 22-25) ومتى (26/ 26-29) نلاحظ حول ما سمعنا وتعلّمنا من بولس الأمور التالية التي تزيد:  

  أ)  الدعوة إلى الأكل

"خذوا كلوا، خذوا اشربوا"، تدل هذه الدعوة على رغبة يسوع وتصميمه على إشباع وتغذية الرسل والمؤمنين وهو يطعمهم جسده ويشربهم دمه. ولقد أعدّ هوَ نفسه هذا العشاء وطلب من الرسل أن يذهبوا ليعدّوا المكان له. وهو نفسه هنا يدعو بصوته وكلماته إلى هذه الشركة بالأكل للغذاء والشرب. والملاحظ أيضاً عبارة "من أجل الكثيرين"، فالدعوة هنا مفتوحة لكل البشريّة المؤمنة، وهي دلالة على شموليّة الدعوة وشمولية المشاركة بهذه الدعوة. وهذا يعود ليذكّرنا بالمثل الذي أعطاه يسوع عن الملك الذي يُعِدّ وليمة لعرس ابنه في إنجيل متى (22/ 4) ويقول "أُعِدَّ كلّ شيء، فتعالوا إلى العرس". ويسوع هنا عندما يدعو إلى الأكل فهو يعمل ما يراه الآب أن يعمل وما يريده الآب أن يعمل من أجل خلاص الناس، بمعنى الآب أعدّ للبشريّة فرحة عرس ابنه في هذا العشاء، فالابن إذاً "لا يفعل إلاّ ما يرى الآب يفعله. فما فعله الآب يفعله الإبن على مثاله" (يوحنا 5/ 19).     

  ب) دم العهد الجديد:  يتحدّث يسوع هنا عن عهد جديد. فهو لم يحقق فقط العهد الذي يتحدّث عنه الأنبياء في العهد القديم، إنّه هوَ "العهد الجديد بالذات". وهذا العهد يتقدّم ويتحقق بالدم الذي يقربه. فهو إله وإنسان بالوقت نفسه ويلعب دور الوساطة بين البشريّة والله. فالعهد إذاً يتحقق فيه بكل جوانبه. لقد تخطّى كل ما قيل قديماً عن أن الله يريد أن يحقق عهداً مع شعبه. فكل العهود القديمة في سيناء ومع الأنبياء التي أراد الله من خلالها خلق رباط مع الشعب، جاء يسوع هو بنفسه حقق هذا الرباط. فهو إله ويحمل للبشريّة محبّة الله، وهو إنسان ويحمل لله معاناة البشريّة، وهكذا قرر أن يحقق الرباط والعهد بينهما. فالعهود القديمة كانت صورة لحقيقة هذا العهد الجديد.  

  ج)  مغفرة الخطايا:      

  وهذا ما يذكره متى عندما يتحدّث عن الكأس. فهو يهرق لأجل الكثيرين بمعنى الكلّ، ولأجل محو الخطايا. فالذبيحة هنا هي ذبيحة تكفير، أي ذبيحة مقدّمة لنيل غفران الخطايا. وهذا النوع من الذبائح تحدثنا عنه في العهد القديم. ولكن الذبيح هنا ليس فقط حياة إنسانية إنّما هي إلهيّة أيضاً من هنا عظمة هذه التقدمة التي تكفر عن أكبر خطايا العالم. ولكن الهدف من هذه الدبيحة لم يكن فقط تخليص البشريّة من الخطيئة بل إن يسوع يريد أن يذهب أبعد، وهو أن يُعطي هذه البشريّة الحياة الأبديّة. "أمّا أنا فقد أتيت لتكون الحياة للناس، وتفيض فيهم؛ أنا الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف" هذا ما يقوله يسوع في يوحنا (10/ 10-11). وهذا البذل وعطاء الحياة الأبديّة حققه يسوع على الصليب. هناك، انتصر على كل قوى الشر. والقربان يعيد مجدداً انتصار يسوع المخلّص النهائي على كل قوى الشر ويُعطي بفيض كبير حياة الحبّ التي يرافقها محو الخطايا.     

  د)  لوقا:  

قلنا إن لوقا يشبه بنصه نص مار بولس. ولكن هناك ملاحظة صغيرة عندما يتحدّث عن الجسد، فبولس يقول "هذا هو جسدي، إنه من أجلكم". أمّا لوقا فيقول "هذا هو جسدي يبذل من أجلكم". كما أنّه يشدد على الكأس حين يقول "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُراق من أجلكم". أو يقدّم من أجلكم. فلوقا يشدد على "العطيّة" ليس للأكل فقط إنّما عطيّة لإفادة الجميع.         لكن المميّز بشكل خاص في نص لوقا هو إعلانان مهمّان قبل العشاء وبعده. يقول نص لوقا "فلمّا أتت الساعة جلس هو والرسل للطعام. فقال لهم "اشتهيت شهوة شديدة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألّم. فإني أقول لكم: لا آكله بعد اليوم حتى يتم في ملكوت الله". ثم تناول كأساً وشكر وقال "خذوا هذا واقتسموه بينكم، فإنّي اقول لكم "لن أشرب بعد اليوم من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله". (لوقا 22/ 14-18).  هذان الإعلانان يربطان حدث العشاء بالبعد الإسكاتولوجي النهيوي. بمعنى أنّ تحقيق ملكوت الله هو عمل بالأزمنة الأخيرة، والإفخارستيا هو عشاء وطعام على الأرض. لكن الغذاء الذي يعطيه هذا الطعام هو غذاء سماوي يتغذى به المؤمنون من أجل تحقيق الملكوت الذي ينمو ويكبر على الأرض حتى يصل إلى النهاية في السعادة السماوية. فالإفخارستيا تزرع بذار الملكوت وتنمّيها إلى أن يتحقق في آخر الأزمنة ويصبح بكامله. أمّا الشهوة الشديدة التي يرغب فيها يسوع فتعني أن كلّ شخصه يعيش هذه الرغبة وهو بكل استعداد وشوق للقيام بالعشاء أكثر من الرسل الذين ينتظرون الغذاء. فرغبة يسوع تولد فينا نحن الرغبة إلى القربان، لأنّه يحبّ العطاء حتى نصبح نحن نعطي مثله. وهذا بُعد من أبعاد القربان في حياتنا.      

 ه)  يوحنا  

 من الملاحظ أن الإنجيلي يوحنا لا يذكر العشاء السرّي بنص خاص مثل الأناجيل الثلاثة الباقية، لعل السبب هو أنّه يريد أن يكمل العمل ويساعدنا على فهم الموضوع اكثر من ترداده بخبريّة جديدة. فالتعويض الذي يعطيه بذكْرين خاصين بالقربان يؤكدان صلابة تفكيره. يذكر اولاً بشرحه لمعجزة تكثير الخبز والسمك أنّه هوَ الخبز النازل من السماء حتى أن من يأكل منه يجد الحياة الأبديّة وبهذا يربط ما بين الإفخارستيا أي القربان والتجسّد. وهذا الخبز الجديد مَن يأكله تكون له حياة جديدة وهي الحياة الأبديّة. ونجد بعض العبارات تشبه نصوص التكريس التي يتحدّث عنها الإنجيليون الآخرون مثل: "فأخذ يسوع الأرغفة وشكر"، "أنا الخبز الذي نزل من السماء مَن يأكل من هذا الخبز يحيَ للأبد". وهذه الحياة الأبديّة سوف تمتلئ وتُعاش بكل جوانبها بفعل الروح القدس فيقول يوحنا "إن الروح هو الذي يحيي، وأماّ الجسد فلا يجدي نفعاً، والكلام الذي كلّمتكم به هو روح وحياة" (يوحنا 6/ 63). يذكر ثانياً غسل أرجل التلاميذ بعد العشاء ومن ثم يدعوهم أن يعملوا هم أيضاً ما صنعه هو المعلّم بينهم. "فقام عن العشاء فخلع ثيابه، وأخذ منديلاً فأتزر به ثم صبّ ماء في مطهرة وأخذ يغسل أقدام التلاميذ ويمسحها بالمنديل الذي ائتزر به" (يوحنا 13/ 4-5). ولما انتهى من الغسل أعطى يسوع الأمثولة لتلاميذه في المحبّة المتبادلة التي تتجسّد بالخدمة والتواضع. فعلى العشاء إذاً يُعطي يسوع مختصر تعليمه ورسالته فيقول "فاذا كنت انا الربّ والمعلّم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضاً ما صنعت إليكم. الحق الحق أقول لكم: ما كان الخادم أعظم من سيدّه ولا كان الرسول أعظم من مرسله. أمّا وقد علّمتكم هذا، فطوبى لكم إذا عملتم به" (يوحنا 13/ 14-17). ويختم يسوع لقاءه بتلاميذه هذا بصلاته الكهنوتيه بالفصل 17 حيث يعبّر عن العطاء والتقدمة وعن الشكر للآب، وهذا ما يميّز صلاة الإفخارستيا.    

السؤال: كلمة الله في الكتاب المقدّس، وكلمة الله المتجسّدة في القربان، كيف صار عندي فيها خبرة حياتيّة روحيّة؟ هل صار لي إلفة معها بعد اختبار عشته في عيلة مار شربل، وبعد اختبار وصلت إليه في خبرتي الروحيّة؟   آمين



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +