أُذكُرْ يا رَبُّ أَنَّ العَدُوَّ يُجَدِّف و شَعبًا جاهِلاً اْستَهانَ بِاْسمِكَ (مز 74 /18)
مقالة سر الافخارستيا ذبيحة و وليمة - الأب منير سقّال
|
|||
|
|||
مقدمـة |
|||
" من أكل جسدي وشرب دمي ، فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير . لأن جسدي طعام حقاً ، ودمي شراب حقاً . من أكل جسدي وشرب دمي أقام فيّ وأقمت فيه " ( يو 6/ 27 – 58 ) .الافخارستيا في قلب الحياة الكنسية والمسيحية ، بها يحضر المسيح شخصياً لشعبه في السر الفصحي . فلما كان المسيح هو قلب الحياة الكنسية والمسيحية ، أصبحت الافخارستيا هي محور الحياة المسيحية وذروتها المكلّلة ، وهي ينبوع التبشير كله وقمته ، إذ أن المسيح بتجسده وعمله الفدائي ، شفانا ودعانا إلى الاشتراك في حياة جديدة ، تربطنا بعضنا ببعض كأبناء لله معدين للاشتراك في حياة الثالوث . وقد اختصر الدستور المجمعي في الليتورجيا ذبيحة الافخارستيا بقوله : " رسم مخلصنا في العشاء السري ذبيحة الافخارستيا : اعني سر التقوى وعلامة الوحدة ورباط المحبة والوليمة الفصحية التي فيها يؤكل المسيح وتمتلئ النفس نعمة وتعطى عربون المجد الأبدي … إن ذبيحة الافخارستيا هي ينبوع وقمة كل حياة مسيحية . " هذه الحقائق المبنية على أمر السيد المسيح لرسله : " اصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي " نفذها الرسل والتلاميذ وواصلت الكنيسة الناشئة هذه الوصية . مطورة طقوس الوليمة الجديدة بحسب ظروف الزمان والمكان والأشخاص واتسعت الوليمة إلى وليمتين : وليمة الكلمة ووليمة الذبيحة . وتنوعت النظرة اللاهوتية والحياتية إلى هذه الوليمة : فهي وليمة محبة ، ميزة مسيحية ، حاجة وجودية ، ممارسة دينية وفريضة كنسية ، وانتظار نهيوي . سر لا بل سر الأسرار ، واحتفال لا بل قمة الاحتفالات كلها ، وينبوع الحياة الروحية المسيحية . لهذا السبب فإن لكل الأسرار والخدم الكنسية وأعمال الرسالة صلة وثيقة بسر الافخارستيا ، فإن النعمة التي وهبت في العماد وتثبتت في الميرون موجهة إلى الاتحاد بالمسيح القربان " من يقبل إليّ … يثبت فيّ وأنا فيه " ، والافخارستيا تكمل مفاعيل الشفاء الكائنة في سرَّي التوبة ومسحة الرضى " هذا هو دمي الذي يسفك لمغفرة الخطايا … وأنا أقيمه في اليوم الأخير " ، أما سر الكهنوت فموّجه إلى تقدمة الذبيحة القربانية " اصنعوا هذا لذكري " ، وأما سر الزواج فمن حيث هو عهد دائم بين الرجل والمرأة ، يرمز إلى الاتحاد القائم بين المسيح والكنيسة بفضل الافخارستيا ، وعلامة للعهد الجديد بين الله والإنسان " هذا هو دمي ، دم العهد الجديد " لذلك يحتل سر الافخارستيا الذروة في الأسرار ، لأن يسوع بهذا القول والفعل الحاسم سلّم الخبز والخمر وجمع فيهما وحطّ كل نعم تجسده واستحقاقات آلامه وقوة قيامته ، فأنجز تقدمة ذاته والخليقة كلها معه لله الآب ، وكرس استمرارها معنا إلى الأبد . |
|||
معنى الكلمـة |
|||
تعني كلمة " افخارستيا " مبدئياً : عرفان الجميل والامتنان وبالتالي إبداء الشكر ؛ " شكر " هذا المعنى نجده خاصة في مجال العلاقات الإنسانية . أما في العلاقة مع الله ، فإن الشكر ، يأخذ عادة شكل صلاة ، وهو يتصل هكذا بطبيعة الحال بالبركة التي تحتفل بعجائب الله . وبذلك يكون الشكر مصحوباً بـ " تذكار " تستحضر به الذاكرة الماضي . وسادت كلمة " الافخارستيا " في الاستخدام المسيحي للدلالة على العمل الذي أسسه يسوع عشية موته . ولكن يلاحظ أن هذه الكلمة تعبر عن " حمد " لعجائب الله بقدر ما تعبر ، لا بل أكثر ، عن شكر على الخير الذي يحصل عليه البشر . بهذا العمل الحاسم " هذا هو جسدي ، هذا هو دمي …. إن لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه فلا حياة لكم في ذاتكم " ، أضفى يسوع على أطعمة بسيطة ، القيمة الأبدية القائمة على موته الفدائي ، وبذلك أكمل يسوع وحدد ، لمدى الأجيال ، تقدمة ذاته وجميع المخلوقات لله ، وهو عمل يعد جوهر تدبيره الخلاصي : ففي تقديم يسوع نفسه على الصليب وفي الافخارستيا ، إنما يتحقق عمل الإنسانية كلها ومعها الكون الذي يحيط بها ، عودتها إلى الآب . |
|||
ابرز أسمائه |
|||
1 - سر الذبيحة غير الدموية ، القداس الإلهي ( الليتورجيا الإلهية ) الذي فيه يحول الكاهن الخبز والخمر الطبيعيين إلى جسد ودم ربنا يسوع المسيح ، بقوة كلمات المسيح نفسه في العشاء السري وصلاة الكنيسة ، يدعى " الذبيحة الإلهية " أي ذبيحة الصليب غير الدموية .2 - سر الشكر : ذلك أن المسيح عند رسمه هذا السر في العشاء السري شكر أولاً أباه السماوي ، " أخذ (يسوع) الخبز وشكر وأعطى تلاميذه … وبعد العشاء أخذ الكأس وشكر … " ، واقتداء بالمسيح تفعل الكنيسة ، فقبل التقديس يدعو الكاهن الشعب : " لنرفع قلوبنا إلى العلاء ونشكر الرب " ، ويتلوا سراً أو علناً صلاة الشكر للثالوث الأقدس باسم الإنسانية كلها على نعمة الخلق والفداء والتدبير الخلاصي وما رافقه من نعم معروفة وخفية . ويتلى أيضاً صلاة شكر قبل خروج المؤمنين من الكنيسة .3 - سر الإيمان : لأن هذا السر لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبه أو يفسره . سر الافخارستيا هو فقط في منطق الإيمان الذي يقول لنا : هكذا أحب الله العالم ، الإيمان يفتح بصيرتنا لندرك ما لا تراه العين ، ويعمق الرؤية لنرى أن كل شيء بكلام يسوع وبفعل الروح القدس أصبح لدينا شيئاً جديداً : " قد زال كل شيء قديم ، وهوذا كل شيء جديد " ( 2 كور 5/17 ) .4 - سر الشركة : إن سر الافخارستيا يشركنا بشخص يسوع نفسه : الإله الكامل والإنسان الكامل . بالمناولة نتحد بالمسيح ، يصبح هو فينا ونحن فيه ، حسب وعده الإلهي " من أكل جسدي وشرب دمي يسكن فيّ وأنا فيه " (يو 6/56) . نتحد به بكامل كيانه الإنساني والإلهي . كما ويشركنا في حياة المسيح نفسها ، الحياة كما عاشها ، ولا سيما الأحداث المهمة المتميزة . قال المسيح " اصنعوا هذا لذكري " ، فنحن نذكر هذه الوصية الخلاصية وكل ما جرى لأجلنا : ميلاده وعماده وتجليه وآلامه وموته ودفنه وقيامته وصعوده إلى السماء ، وتمتد حتى نرى المسيح آتياً من جديد ، فنشترك في شركة تامة وكاملة مع المسيح الممجد : تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم . ( متى 25/34 ) وسر الافخارستيا هو أيضاً سر شركة الجماعة ، إنه يشركنا بجسد المسيح السري ، أي الكنيسة والعالم كله ، الذي أحبه ، وأخذه على عهدته ليخلصه بصليبه الكريم . |
|||
وليمة خبز وخمر |
|||
لكي يتيح لنا لقاءه في الأسرار ، أصبح المسيح حاضراً وفاعلاً في أعمال بشرية : ماء في العماد وزيت في الميرون ، وخبز وخمر في الافخارستيا . إن ما ندعوه " ذبيحة القداس " رسمه يسوع كوليمة " جسدي مأكل حقاً ودمي مشرب حقاً ( يو 6/55 ) ، وليمة أخوية " خذوا اقتسموا بينكم " ( لو 22/17 ) ، وليمة خبز وخمر . من خلالها يريد المسيح أن يشركنا في حقائق أسمى إلى ما حد له : الاتحاد بالله وباخوتنا في الجسد السري الواحد . ما يقول هذا السر – الوليمة ؟ يقول : حياة ، يقول اتحاد بالكون وبالله . الحقيقة الأولى المفروضة على المرء هي أنه إذا ما توقف عن الأكل فقد الحياة : خذوا كلوا … خذوا اشربوا … أكل الخبز وشرب الخمر يعني إذاً ، قبل كل شيء الحياة ، إنه يربطنا بمن هو خالق الكون وسيد المطر والنمو ، بالذي هو الحياة . الخبز والخمر المكرسان يعنيان فعلياً جسد المسيح ودمه كينبوع حياة إلهية للذي يأكل ويشرب بإيمان ، لأنهما قبل كل شيء مأكل ومشرب .بالمأكل والمشرب يتحد الإنسان بالكون والكون بالإنسان . والإنسان الذي هو على صورة الله وابن الله ، مدعو دائماً إلى مائدة الكون . عندما يتحول " إلى ما يأكل " يمزج العالم بجسده ودمه . إن هذا الانطلاق صعداً سيحمل الإنسان إلى تجسد الله بين الناس ، وككل إنسان ، الإله الإنسان سيتحد بالكون والكون بالله الذي يأكل ويشرب ، فيصبح هو هذا الشيء الذي أكله وهذا الشيء يصبح جسده ودمه الإلهيين ، والمسيح تجسد لكي يصبح " بكراً بين أخوة عديدين " في التأليه ، لا أكثر ولا أقل . في الافخارستيا : ينتج الكون الخبز والخمر و يحولها الروح القدس إلى جسد الرب ودمه . الإنسان يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذا الخمر المكرسين فيتحد واياهما بالمسيح القائم من الموت . فباستطاعة الله أن يقول حقاً فوق هذه العناصر وهذا الشخص الذي يتناول وهذه الجماعة : هذا هو جسدي … هذا الإنسان هو جسدي … هذه الجماعة هي جسدي … |
|||
ثمار الأرض |
|||
الخبز والخمر هما الغذاءان الأساسيان والرمز لكل غذاء ، نأكل خبزنا ، نكسب خبزنا أي حياتنا ، في الافخارستيا يتوجه المسيح إلى جوع الناس . والخمر ضروري لوجبة كاملة ولوليمة عيد . وإلا حكم علينا بأن نأكل خبزنا يابساً ، والخمر يضفي على الطعام هذا الحبور الذي من دونه لا " حياة " ، وإذ لا يعيش الإنسان من الخبز فحسب ، لكي يهضمه هو بحاجة إلى هذا القليل من الفرح الذي يرمز إليه ويعطيه عصير الكرمة . ولكي يهيئ الحياة والعيد الأبديين: أخذ يسوع خبزاً وكأساً من ثمرة الكرمة . هذا الخبز والخمر هما من ثمار الأرض ، تجذرهما في الأرض يجعلهما يمتصان طاقات الأرض العميقة والخفية لكي يعيشا منها ويقدماها لنا ، وعندما يبلغان سطح الأرض لا ينفكان يمتصان كل قوى الأرض ويحولان إليها كل طاقات السماء ، في نموهما : المطر والهواء والنور والحرارة والأشعة والقوى الكونية ، في القمح كما في العنب ، يلتقي الكون كله . وهكذا يتبادر الكون كله إلى طاولة الإنسان ، الكون كله مدعو إذاً إلى طاولة الله ، الكون بأسره سيحمل يوماً بحضور حب المسيح القائم من الموت وقوته . إن كانت مادة الافخارستيا تتألف من عناصر نباتية فما ذلك إلا لنتخلى بكل وسيلة عن ذبح الحيوانات حيث كان الدم يسيل بغزارة في أحواض الهيكل : هذا هو العهد الجديد .كان يجب خاصة التشديد على أن هناك ذبيحة قدمت مرة واحدة ، ودماً واحداً اهرق إلى الأبد . وليمة المسيحيين المقدمة لن تهرق إذاً دماً غير هذا الدم . هذه النباتات – الخبز والخمر – بعيدة جداً عن ذبائح الوثنيين واليهود بحيث يزول كل التباس . وهي قريبة بما فيه الكفاية من ذبيحة المسيح لتكوّن العلامات المعبرة عنه يشبه يسوع ذاته بحبة الحنطة ( يو 12/24 ) ، إن لم تمت تبق وحدها وإن ماتت أتت بثمار كثيرة . في الخبز والخمر مأساة موت الوحيد لأجل حياة جميع الآخرين أخذت معناها . واختيار النيات يخضع لضرورة عدم تحويل أنظارنا عن الجسد الوحيد حيث يتم خلاصنا ، وعن الدم الوحيد ، دم الذبيحة الحقيقية – أي عن الجسد والدم الوحيدين المقبولين عند الله – وعن الموت الوحيد حيث تعمد الإنسان والعالم . |
|||
ثمرة عمل الإنسان |
|||
الخبز والخمر ، ثمار الأرض ، ليست منتوجات خام ، بل هي أيضاً ثمار عمل الإنسان " بعرق جبينك تأكل خبزك" ( تك 3/19 ) . لذلك فالخبز والخمر هما أناس . أناس بأبعادهم الروحية ونشاطهم العقلي . فعلى الإنسان أن يصنعهما وأن يصنعهما جيداً . مما يتطلب سلسلة من العمليات الذكية ، فهي مرتبطة بالإنسان الخالق أكثر مما هي مرتبطة بالإنسان المستهلك . عندما نقدم لله الخبز والخمر لكي يحولهما إلى جسده ودمه ، فنحن نقدم عملنا اليدوي والعقلي ، عملنا وعمل كل عالم العمال . فالخبز والخمر هما أيضاً الناس وأتعابهم . فعلى مائدتنا ومذابحنا عرقهم وتعبهم ، كل عمال العالم حاضرون هنا . ذبيحة الافخارستيا هي ثمرة أعمالهم وحياتهم التي أعطوها هكذا لاخوتهم . على طاولة الافخارستيا ، نرى التضامن البشري رغم تنوع البشر ، نجد سلسلة العمال رغم فروقاتهم وحتى عداواتهم، هذا التقارب بين الناس يستعمله المسيح " سأجتذب كل شيء إليّ " ، يأخذ على عاتقه ، يقدمه لأبيه ذبيحة هي " سلامنا إذ توحد ما كان منقسماً وتدك أسوار التفرقة " ( افسس 2/14 ) . |
|||
سر العهد |
|||
" هذه كأس دمي ، دم العهد الجديد " ، دم العهد المهراق لأجل كثيرين … " هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي المهراق لأجلكم " ، هكذا تسيطر فكرة العهد وحقيقته على الافخارستيا التي تضرب جذورها في العهد ، وتكمل العهد .فالافخارستيا هي سر عهود الوعد التي بدونها نصبح " بلا رجاء وبلا إله في العالم " ( افسس 2/12 ) ، أية عهود ؟ العهد بأرض جديدة وبأمة عظيمة . فبفصحه – بموته وقيامته – يسوع " ابن إبراهيم ابن الله " ( لو 3 ) :1- يدخل شخصياً في السعادة الأبدية ، في أرض الميعاد الحقيقية التي نجهلها ويفتح أبوابها لكل الجنس البشري .2- " يجتذب إليه جميع الناس " ( يو 12/32 ) ، كل شعب الله أفقياً ، ويجعل منه عائلة أخوة موحّدة . ويجعل منه أكثر من ذلك ، جسداً واحداً لأعضاء عديدين . إذن سلالة واحدة روحية لإبراهيم ، ثمرة إيمانه .3- ويجتذب إليه ، عامودياً ، إلى الآب حيث صعد هو شعب الله هذا الذي يولد ويسير ويموت من جيل إلى جيل حتى ظهوره الأخير . ذرية شاملة وعد بها إبراهيم . " من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير " (يو 6/54 ) . |
|||
سر الفصح |
|||
" شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل آلامي " (لو 22/15 ) كما أن الافخارستيا هي سر العهد فهي أيضاً " سر الفصح " إنه الوجه الثاني للافخارستيا .فصح ، لا نعرف بالتمام أصل الكلمة التي تعني العيد الأكثر شعبية لدى اليهود والمسيحيين ، يمكننا القول : " يتخلى " عنا الموت ، " فنعبر إلى الحياة الأبدية " .قبل أن يؤسس الافخارستيا ، ينتظر يسوع الفصح اليهودي تلك السنة ، حيث أصبح البعض ناضجاً لقتله . إنها ساعته ، وهو عين الوقت ، هذا الفصح ، لكي تتم ساعة الفصح ، لا قبل ولا بعد : الدم الذي ينزفه هو " دم العهد " دم الحمل الفصحي " ابن الإنسان سيسلم إلى الصلب . قرر أنه سيكون عشاءه السري . وبينما هم على المائدة أخذ يحدد الفصح الذي يحتفل به – الافخارستيا التي يؤسسها إذاك ، " ثم أخذ خبزاً … والكأس … " ( لو 22/15 ) ، عشاء خميس الأسرار وذبيحة الجمعة هما إذاً معاً الفصح اليهودي … في طريق الكمال نحو " الفصح الآتي " في نهاية الأزمنة . الحمل الفصحي الحقيقي هو المسيح المصلوب . بولس يحتفل " بفصحنا الذبيح " ( 1 كور 5/7 ) ، ويذكرنا بطرس بأننا " افتدينا بالدم الثمين ، دم حمل لا عيب فيه ولا دنس ، دم المسيح " ( - بط 1/19 ) ، ويوحنا المعمدان يشير إليه قائلاً : " هوذا حمل الله الحامل خطايا العالم " ( يو 1/29 ) ، ويوحنا الإنجيلي يخبر أن اليهود عيّدوا الفصح ليلة الجمعة العظيمة . فقد ذبحوا الحمل إذاً بعد الظهر ، ساعة موت المسيح ، بالضبط . ويختم قصته بملاحظة تجعل من ذبح الحمل نبوءة موجهة إلى ذبح المسيح : " هذا كان ليتم الكتاب : لم يكسر له عظم " ( يو 19/36 ) . حمل الله ، في ذبيحته الفصحية ، في وليمته الفصحية ، هذا هو القداس . عند موته على الصليب ، ساعة ذبح الحيوانات في الهيكل ، رفع نحو أبيه وفوق العالم جسد ودم الحمل الوحيد " الفصحي " الحقيقي " أي الذي " يعبر " نحو الله ويجعلنا نعبر معه . الذبيحة الوحيدة التي هي ذبيحته وضعت حداً ، في نظام الحب الذي يدشنه ، لخداع الإنابة ، لم يعد من حق أحد أن يتهرب شخصياً ليبحث عن ضحية خارجاً عنه . " ذبيحة وتقدمة لم تشأ ، لكنك ألبستني جسداً ، ولم ترتض بالمحرقات ولا بذبائح الخطيئة . حينئذٍ قلت : هانذا آت لأصنع مشيئتك " ( عب 10/4 ) . |
|||
ذبيحة القداس |
|||
" يحسن بنا أولاً أن نذكر بما هي خلاصة وذروة هذا التعليم : في سر الافخارستيا تصبح بشكل رائع ذبيحة الصليب التي تمت مرة واحدة على الجلجلة . ( بولس السادس ) . في الممارسة اليهودية ، كان طقس التكفير الكبير يقام كل سنة . " تقادم وذبائح لم تقد إلى الكمال … لكن المسيح جاء رئيس كهنة الخيور المستقبلة … وبدمه شخصياً لا بدم التيوس والعجول دخل مرة واحدة القبة ونال خلاصاً نهائياً " ( عب 9/ 9 – 12 ) . " هكذا قدم المسيح مرة واحدة ليحمل خطايا الكثيرين " ( 28 ) " ونحن تقدسنا بتقدمة جسد يسوع مرة واحدة " ( 10 /10 ). إذن هذه الذبيحة لا تجددها أية ذبيحة ولا يزيد عليها أي قداس … القداس يجعل ذبيحة المسيح الوحيدة حاضرة .فذبيحة المسيح هي إذاً في الماضي : لا نذبحه من جديد عندما يحضر تحت شكل الخبز والخمر وعندما نأكله أو نشربه أو عندما نفصله ، نفصل الخبز عن الخمر كما يفصل اللحم عن الدم " مرة واحدة " لا غير . ومع ذلك فالذبيحة الوحيدة حاضرة حقاً في القداس وليست فقط ممثلة في رمز الخبز ، الجسد المعطي ، والخمر ، الدم المهراق ، بل حاضرة وحاضرة من جديد . إذ يجب أن تكون حاضرة ، فخلاص العالم هو في موت المسيح : قيامة البشر هي في جسده . |
|||
كيفية هذا التأوين |
|||
إن الموت يثبت الإنسان إلى الأبد في الحالة التي يفاجئه فيها . لقد مات المسيح في ذروة حبه المعطاء لأبيه واخوته . فقد قام إذاً إلى الأبد ممجداً في هذه الحالة . فلا يوجد مسيح آخر إلا يسوع في ذروة حياته وموته وحبه : يسوع الممجد في ذروة الصليب – ذبيحته . مذاك ارتفعت ذبيحته فوق العالم . في كل قداس " هذا هو جسدي – هذا هو دمي " ، هو حاضر حقاً على المذبح في الحالة الثابتة أبداً . إنه ممجد في ذروة ذبيحته . كالشمس التي لا تغيب مطلقاً ، بل " تشرق " هذا الصباح هنا من أجلنا .عندما يدعونا المسيح لكي نأكل جسده المعطى ودمه المهراق ، فهو يدعونا إلى أخذ ذبيحته على عاتقنا . يدعونا لكي نصبح واحداً معه ( أن نأكله ) ، لكي نشترك بذبيحة حياته المقدمة لأبيه واخوته : نحيا مثله ونموت معه . من دون حضور القائم من الموت في كل افخارستيا نحتفل بها ، لا تكون قداساتنا اتحاداً بل حلماً عاطفياً فارغاً . لا تكون " ذكرى " ، " تأوين " ، أي حضوراً حقيقياً لحدث الفصح ، مع كل العهود التي هيأت منذ الخليقة ومع كل قوة الحب والحياة التي تقود إلى الملكوت ، القيامة العامة ، بل محض ذكريات باطلة . قداساتنا اتحاد بالله القريب وبالقريب لأنها حضور حقيقي ليسوع المسيح .أي حضور حقيقي ؟ حضور المسيح القائم من الموت والحاضر في العالم كله لأن جسده الممجد لم يعد خاضعاً للمكان والزمان : هو في كل مكان يعمل " ينير كل إنسان " حتى الذين لا يعون ذلك . في الافخارستيا المسيح حاضر حقاً ، شخصياً ، بجسده ، وليس فقط بعمله الروحي : " هذا هو جسدي … هذا هو دمي " ، " هذا هو " كلمة قاطعة كالسيف … أما الذين لا يريدون أن يروا هنا سوى تشبيه أو استعارة كما عند قوله " أنا الكرمة الحقيقية " فالجواب لهم يجب أن يكون كلام الرب ذاته في مجمع كفرناحوم ( يو 6/51 … ) : أنا خبز الحياة … من يأكل من هذا الخبز … الخبز الذي أعطيه هو جسدي … جسدي مأكل حقاً ودمي مشرب حقاً … حضور حقيقي ، توكيد يسوع لا يقبل الجدل .أما شرح هذا التوكيد – كيف هو حاضر – فلم يعطه . هذا برهان على أن الأمر ليس هاماً ، " حقاً ، فعلاً جوهرياً " هذا المهم ، إنه حاضر . إن الجسد الحاضر في الافخارستيا هو جسد القائم من الموت . الخبز والخمر المكرسان هما حقاً وجوهرياً المسيح القائم من الموت لأنه هكذا شاء ، إياه نطلب وإياه نجد ، ليس إلا . بقوة حبه المعطاء وكلمته السرية . حقيقة الخبز والخمر العميقة " تحولت " إلى حقيقة في عالم ثان ، هو عالم القيامة : المسيح الممجد بالذات .ويذكرنا مجمع ترانت بأن الافخارستيا إنما أسست لكي نأكلها . إرادة يسوع المسيح تكريس الخبز والخمر لأجل الوليمة . فلا يمكننا أن نفصل بين " هذا هو جسدي " وبين " خذوا فكلوا جميعكم " . إن هدف الرب في هذا السر ليس " تحويل الخبز والخمر بل تحويل قلوبنا وجماعاتنا بحيث نصبح ، شخصياً وكجماعة مسيحية ، " جسد المسيح". فالافخارستيا تحول الكنيسة شيئاً فشيئاً ، دائماً وأكثر إلى ما صارت إليه في العماد والإيمان : عروس المسيح وجسده في العالم . أصبح الإنسان بدوره – بعد أخذ السر – مكرساً في الروح القدس ، بعد أن اتحد بربه ، وسر حضور المسيح الفصحي للعالم . |
|||
نحتفل معاً بالافخارستيا |
|||
القداس هو أعظم عمل في حياتنا ، ففي كل مرة هو حدث لا ينضب . والقائمون بهذا العمل هم أنتم . الافخارستيا هي " اشتراك في احتفال " ، جميع المسيحيين الحاضرين هم محتفلون ، نظراً لعمادهم وتثبيتهم . الكاهن ، الكاهن الوحيد ، هو المسيح . والذبيحة ، الذبيحة الوحيدة ، هي ذبيحة الجلجلة . والقداس هو " تأوين " لها . الافخارستيا هي " ذكرى " وحضور الجلجلة . والكاهن المرسوم يتمتع بنعمة وبرسالة ترؤس تقديس الافخارستيا ، نظراً لسر الدرجة الذي قبله . فهو علامة المسيح – الرأس ، أي سره . فالمسيح إذاً يقدم ذاته ويقدمنا معه . والكاهن يقدم المسيح ويقدم ذاته والجماعة مع المسيح . لكن المؤمن أيضاً ، وإن لم يكرس الخبز والخمر يقدم المسيح ويقدم ذاته معه . المعمدون لا ينفصلون عن الكاهن كما لا ينفصلون عن المسيح ، لذلك يتكلم الكاهن بصيغة الجمع " لنصل … لنرفع … لنشكر … " الشعب الكهنوتي بأجمعه ، مع الكاهن ومع المسيح ، يحتفل بالليتورجيا المقدسة ، ( عمل شعب ) ، ليست الليتورجيا إذاً من اختصاص الاكليروس فقط بل اختصاص الجماعة المسيحية . الكاهن يحتفل بالافخارستيا لأجل جماعة ومعها وهي معه ، بالاتحاد بالكنيسة الجامعة ." يهمنا إلا ندع المؤمنين يرون هذا السر ، سر الافخارستيا ، وكأنهم مشاهدون بكم وغرباء . بل ، بعد أن يفهموا جيداً طقوسه وصلواته ، يجب أن يشتركوا بوعي وتقوى وحماس في العمل المقدس وإن يتثقفوا بكلمة الله ويقتاتوا من مائدة جسد الرب ويشكروا الله . عندما يقدمون الذبيحة الطاهرة ، ليس فقط بواسطة الكاهن بل بالاشتراك معه ، يجب أن يتعلموا كيف يقدمون ذواتهم وألا يؤلفوا ، يوماً بعد يوم ، وقد جمعهم المسيح الوسيط ، سوى جسد واحد مع الله ومع بعضهم البعض ، ويصبح الله أخيراً كلاّ في الكل . " ( المجمع الفاتيكاني الثاني ، الإصلاح الليتورجي ) .يوحنا 6/ 27 – 58 : " لا تعملوا للقوت الفاني ، بل اعملوا للقوت الباقي في الحياة الأبدية … أبي يعطيكم خبز السماء الحق ، لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة … سيدي أعطنا من هذا الخبز دائماً أبداً … أنا خبز الحياة من يأتني لا يجع أبداً ، ومن يؤمن بي لا يعطش أبداً … من أكل جسدي وشرب دمي ، فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير . لأن جسدي طعام حقاً ودمي شراب حقاً … من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد . " |