مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي ؟ فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطني فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ (لو 1 /43-45)
الصفات الأساسية لممارسة سر التوبة - الأب د. رمزي نعمة
الصفات الأساسية لممارسة سر التوبة
المسيحي- ككل إنسان- ضعيف ومحدود ولا يستطيع أن يعمل كل ما يريد ولا يريد جديا كل ما عليه أن يعمل. فهذا التوتر القائم بين ما هو عليه وما هو مدعو ليكون، بين المثال الذي يتوق إليه والواقع الذي يعيشه، هذا التوتر قادر على أن يوقظ فيه طاقات غير متوقعة.
فهذه الطاقات تعمل بقوة الروح القدس على إنضاج الضمير، وتساعد على بدء مسيرة العودة للوحدة مع الله والقريب. ولكي تكون هذه المسيرة مجدية، لابد من بعض الصفات الأساسية لهذه الممارسة.
1) ممارسة شخصية متواترة وواعية
أ- ممارسة شخصية واعية: ممارسة سر التوبة ممارسة شخصية وواعية تعني قبوله بخشوع وإيمان وليس بصورة آلية وكأنه واجب مزعج فُرض علينا ويجب القيام به بأية طريقة كانت. إن ممارسة كهذه سوف تتحول إلى عمل روتيني ولن تعطي الثمار المرجوة.
لربما يشير تناقض عدد المتقدمين من سر التوبة واقعياً إلى الناحية العددية لا إلى الناحية النوعية: أي تناقص عدد المتقدمين من السر لا عدد الذين نالوا السر فعلاً. من المحتمل أن الأكثرية لم تكن واعية لمتطلبات سر التوبة.
وأحياناً ومراراً ما يلجأ المؤمن إلى السر ليخدّر ضميره ويسكته، أو لأنه يجد في هذه الممارسة حلاً سهلاً للتخلص من الخطايا... ولذا فإن اللجوء إلى السر يُعتبر بالنسبة للعديدين أكثر أهمية من التخلّي عن الخطيئة بالذات، والسبب يعود إلى البحث عن الحل الأسهل.
ومن هنا فمن المحتمل أن يكون السبب الرئيسي في تناقص عدد المتقدمين إلى سر التوبة هو عدم وضوح الربط القائم بين سر التوبة وواقع الحياة والالتزام الرعوي والاجتماعي. وعلينا ألا نكتفي بتحويل السر إلى نظام مستقل يُريح الضمير فردياً، دون الذهاب إلى عمق المشكلة التي تكمن في الاهتداء الداخلي، اهتداء القلب والعقل لكي يصبح إنساناً جديداً وأداة مصالحة في بيئته وكنيسته والعالم بأسره.
فبالإضافة إلى الحس بالخطيئة، تقود الممارسة الشخصية الواعية إلى اهتداء القلب واهتداء العقل:
يتكلم البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي حول "وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم" عن الارتداد التدريجي، الذي لن يتحقق إلا باهتداء العقل والقلب: "علينا أن نقاوم الظلم الناشئ عن الخطيئة التي تسربت إلى أعماق بنيان العالم اليوم، وذلك بالاعتماد على ارتداد العقل والقلب... ولا يمكن لمثل هذا الارتداد إذ ذاك إلا أن يكون له أثره التجديدي المفيد حتى في بناء المجتمع" (9).
1- معنى هذين الاصطلاحين: من المناسب توضيح المقصود بعبارة اهتداء (ارتداد) القلب واهتداء (ارتداد) العقل، لكي لا يُساء فهمهما فنتوقف عند العبارة وننسى المضمون:
اهتداء القلب: يجب ألا تؤخذ كلمة "قلب" بالمعنى الكتابي، حيث يشير القلب إلى الإنسان بكليته. إنما المقصود بهذه العبارة التوبة الذاتية (subjective)، أي تلك التي يُعمل بها بنية طيبة وتلك التي تتوقف على التوبة عن الخطيئة ذاتها وليس عن جذورها.
اهتداء العقل: المقصود بهذه العبارة، التوبة الموضوعية (Objective) أي تلك التي لا توقف على العواطف والأمنيات الطيبة، بل تذهب إلى أعمق من ذلك، إلا الالتزام المحسوس الملموس والمطابق للشريعة الوضعية.
2- أولوية اهتداء العقلية على اهتداء القلب: إذا كان اهتداء القلب يعمل من الشخص قديساً ، فإن اهتداء العقلية (تغيّر العقلية) هو الذي يجعل منه مسيحاً فعلياً. لاشك أنه يوجد قديسون غير مسيحيين، على سبيل المثال قديسو العهد القديم، وكما يوجد اليوم في مختلف الديانات غير المسيحية. قديسون، هؤلاء الذين يعملون "بنية طيبة" كل ما يعتقدون بأن الله يطلبه منهم إن كانوا فعلياً وموضوعياً على خطأ. يكفي أن نتذكر، على سبيل المثال، ما حدث مع "يفتاح" حينما قدّم ابنته ذبيحة محرقة (قضاة 11، 29-39). وبولس الرسول الذي، قبل اهتدائه إلى المسيحية، كان يظن أنه يعمل خيراً بزج المسيحيين في السجن. وبهذا المعنى نفهم قول السيد المسيح: "تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة" (يو 2:16-3).
فإن لم يكن هناك اهتداء عقلية، سوف تحدث انشقاقات داخل الكنيسة الواحدة والجماعة الواحدة والإيبارشية الواحدة كما في الماضي (روم 10و2). إذ إن القديس الذي لم يجتهد بعد في تغيير عقليته يصعب عليه قبول شخص يخالفه عقليته، ويُصبح من الأصعب عليه تمييز الخطيئة من الإنسان الذي يُخطئ. ولذا فإنه معرّض بصورة مستمرة لمخالفة الوصية الإلهية التي نادى بها المسيح يسوع "لا تحكموا على أحد" (مت 1:7).
إن القديس المسيحي هو ذلك الذي اهتدى بعقليته والذي يضع القداسة في المحبة (نور الأمم 42). إنه لا يتصرف بصدق النية فحسب، بل بضمير صادق، أي بانسجام مع شريعة الله ومحبة القريب (1بط 8:4). القديس المسيحي هو الذي لا يدّعي بأنه الحقيقة بل يتغذى من الحقيقة، من كلمة الله. فالقديس بهذا المعنى هو الإنسان المتواضع الذي لا يحكم على أحد بل يحاول أن يفهم ويحاور.
فبدون اهتداء العقلية نحن أيضاً معرّضون ولو "بنية طيبة" للاكتفاء بنوع من القداسة ومن العبادات. هذا النوع من التدين لا فائدة منه، لأنه عقيم ولا يتحول إلى حياة، لا يوجد فيه ما يُسمى بالـ "Transfer" أي التحول أو الاهتداء.
فبدون اهتداء عميق للقلب، وبدون اهتداء صادق للعقلية، وبدون الاهتداء الذي يقود إلى المصلحة، يبقى السر دون نمو.
3- ليس الاهتداء الداخلي مجرد أمنيات: أمنيات تستيقظ في قلوبنا بمناسبة عظة أو قداس أو رياضة روحية أو تأمل. طبعاً نشكر الله دائماً على الأمنيات الطيبة التي تولد في قلوبنا. ولكن الارتداد الداخلي هو التزام ملموس محسوس في حياتي. وما لم تتحول هذه الأمنيات إلى واقع محسوس في الحياة فإنها تظل عاقراً بلا ثمر.
يساعدنا هذا كله على أن نفهم أن ارتداد القلب بدون ارتداد العقلية لا يكفي. فهو كالأمنيات التي لا تتحول إلى التزام ملموس.
فمن يساعدنا على تحويل الأمنيات إلى التزام محسوس؟ من يساعدنا على فهم حقيقة تصرفنا والسبب العميق الذي يقودنا إلى أخذ هذا الموقف أو ذاك تجاه زميل أو تجاه أحد أفراد الأسرة.
ب- ممارسة متواترة لتوبة: منذ القرون الأولى وخاصة، لدى الرهبان في الصحاري، وفي الفترة نفسها التي بدأت فيها ممارسة سر التوبة بصورة فردية، وُجدت عادة اللجوء إلى إنسان حكيم لهدف الاسترشاد الروحي. وكن لها غاية علاجية أي إصلاح النقائص ودفع الإنسان إلى الكمال. واتسعت هذه العادة وعمّت ليس الرهبانية فحسب بل المؤمنين الراغبين في تنمية حياتهم الروحية.
وفي القرن السابع عندما بدا الاعتراف الفردي، أصبح يشمل الخطايا العرضية بالإضافة إلى الخطايا المميتة . أما المجمع التريدنتيني فأكّد على عدم ضرورة الاعتراف بالخطايا العرضية إلا إنه شجّع المؤمنين على الاعتراف بها واعتبرها هامة. فمنذ ذلك الحين أصبح للجوء إلى الاعتراف المتواتر محوراً أساسياً للحياة الروحية. تحرض المسيحي على ذلك دعوته المسيحية والوثائق الكنسية ومثال القديسين. يعلمنا التاريخ بأن الكثير من القديسين كانوا يلجأون إلى السر بصورة متواترة. القديس أغناطيوس دي لويولا والقديس فرنسيس كسفاريوس والقديس شارل بورومة كانوا يعترفون كل أسبوع. أما القديس فرنسيس دي سال فيومياً.
لربما يتساءل البعض عن المقصود بـ "القبول المتواتر للسر" في أيامنا هذه. أي كم مرة علينا أن نلجأ إليه لكي يُصبح متواتراً؟ ليست القضية موضوع عدد معين في الشهر أو في الأسبوع فالأمر مربوط بمسؤولية كل شخص وما يراه مناسباً لنموه الروحي: "إن لم أغسلك فليس لك نصيب معي" (يو 8:13). إذا كنا، رغم اعترافاتنا المتواترة، نجد أننا غير حاصلين على تلك النقاوة التي نرجوها، فكيف لو تركنا العنان لطبيعتنا لتسير مع تيار العالم المعاصر وموقفه من الاعتراف والخطيئة. يُصبح السر المتواتر هاماً في حياتنا إذا أشار إلى مرحلة جديدة في مسيرتنا الداخلية نحو الاندماج مع القيم الإنجيلية
+ + +