فَرِّحْ نَفْسَ عَبدِكَ فإِلَيكَ أيّها السَّيِّدُ رَفَعتُ نفْسي (مز 86 /4)
مقالة سر مسحة المرضى - الأب منير سقّال
|
|||
|
|||
مقدمـة
|
|||
مسحة المرضى عمل سري تقوم به الكنسية في شخص وتجاه شخص المريض . عمل فيه تظهر الكنيسة بواسطة الرجاء الأخروي وكأنها تنتصر على الموت وعلى ظلامه وعلى قبضته . وهذا السر هو مكمّل لسر التوبة أو المصالحة ، مع هذا الفرق ، إن سر التوبة يُمنح للشفاء الروحي ، أي لمغفرة الخطايا . فهو يعالج الأمراض الروحية ، أي علل النفس ، وجميع الخطأة التائبين يمكنهم أن يحصلوا على هذا السر في أي وقت شاؤوا . وأما مسحة المرضى فهي مخصصة للمرضى لمعالجة عللهم الجسدية والروحية معاً .
هو سر يمسح به الكاهن بزيت مقدس جسد المريض ، مستمداً له بصلوات الكنيسة النعمة الإلهية لشفاء أمراضه الروحانية والجسدانية ، حسب هذه الآية الشهيرة للقديس يعقوب : " هل فيكم من مريض فليدع كهنة الكنيسة وليصلوا عليه ويمسحوه بالزيت باسم الرب ، فإن صلاة الإيمان تخلص المريض والرب ينهضه ، وإن كان قد ارتكب خطايا تغفر له " ( 5/14 ) .
|
|||
واضع السر
|
|||
واضح أن المسيح نفسه لم يكن يلجأ إلى الدهن بالزيت ليشفي من به مرض جسدي أو روحي . لماذا ؟ لأنه هو المسيح هو الممسوح الإلهي ، هو " الزيت المقدس " ? إن جاز القول ? الذي ينفذ إلى من يُعمد أو يُثبت أو يُسام كاهناً أو يُغفر له أو يُشفى من مرض . كان يكفيه أن يَلمس أو يُلمس أو ينطق بكلمة ليتم الشفاء . المسيح لم يمسح بالزيت ولكنه وافق عليه ، إن لم يكن أوصى به ، لما أرسل الاثني عشر قائلاً : " اشفوا المرضى ، أقيموا الموتى ، ? فمضوا وكرزوا بالتوبة ، وأخرجوا الشياطين ، ودهنوا بالزيت المرضى فشفوهم " ( متى 10/8 ، مر 6/12 ? 13 ) . ولما كان السر الكنسي اشتراكاً في موت وقيامة المسيح ، فإن المسحة تُشرك المريض في انتصار المسيح على الخطيئة والموت ، إما بنعمة الشفاء ، وإما بنعمة القوة لمجابهة الموت .
|
|||
الخطيئة ، الموت والمرض
|
|||
بين الشفاء والغفران ارتباط ، فهل يكون بين المرض والخطيئة ارتباطاً أيضاً ؟ الواضح أن هناك ارتباطاً بين الخطيئة والموت : " بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم ، وبالخطيئة الموت ، هكذا اجتاز الموت إلى الناس ، لأن جميعهم قد خطئوا " ( روم 5/12 ) . ولكن لما كان المرض مدخلاً إلى الموت ، قريباً أو بعيداً ، ففي وسعنا القول أن هناك ارتباطاً أيضاً بين المرض والخطيئة ، لا من حيث أن المريض قد أهان الله شخصياً بل من حيث أن المرض ، كالموت ، لا يبتلي البشر إلا بسبب وضع البشرية الخاطئ . لذا نرى يسوع المسيح الآتي ليقضي على الموت ينبري فيعالج سبب الموت ? الخطيئة ? بالغفران ، كما ويعالج مظاهر الموت ? المرض ? بالشفاء ، إلى أن يأتي ، بموته وقيامته ، على الخطيئة نفسها والموت عاقبتها . بالخطيئة الموت ، وللموت المرض والعاهات . إذ بالاثنين يكسر طوقهما بقدرة المسيح ، إلى اليوم الذي فيه ، بفضل قيامته ، يقضي على الموت نفسه ، فيتم الشفاء النهائي من كل خطيئة ومرض وكل عاهة وكل موت .
|
|||
قابل السر
|
|||
من يشعرون بأن المرض يلازمهم بشكل خطير ، ومن يقدمون على عملية جراحية خطيرة ، ومن تتضاءل فيهم الصحة والقوى بسبب الشيخوخة ، ومن يعلمون إنه ما من قدرة بشرية تستطيع بعد شيئاً لإنقاذهم ، إن كانوا يؤمنون بأن الله يكترث بهم ، وإن كانوا يقبلون بأن يلتفتوا إليه في شدتهم ، ويحاولون الاتكال عليه ، فإن الكنيسة ? باسم الرب يسوع ? تعرض عليهم مسحة المرضى . ويقول المجمع الفاتيكاني : إن مسحة المرضى ليست فقط للذين يكونون في خطر الموت الشديد . وبالتالي ، فإن الوقت المناسب لقبولها هو حقاً عندما يبدأ المؤمن بالدخول في خطر الموت ، بسبب الضعف الجسدي أو الشيخوخة .
|
|||
رسالة القديس يعقوب
|
|||
لدينا في هذه الرسالة ، الدستور الإلهي لسر مسحة المرضى : " هل فيكم مريض ؟ ليستدع شيوخ الكنيسة ليصلوا عليه ويدهنوه بالزيت باسم الرب . فالصلاة مع الإيمان تخلص المريض والرب يعافيه . وإن كان ارتكب خطيئة، غفرها له . ليعترف بعضكم لبعض بخطاياه وليصل بعضكم لأجل بعض حتى تنالوا الشفاء " ( 5/14 ? 15 .
لا يقول القديس يعقوب " منازع " بل الذي لم يعد في وسعه أن يمشي ، يتوقف ، يسمر في غرفته ، فالجماعة تأتي إليه ، تأتي الكنيسة إليه في شخص كهنته ، يسوع يأتي إليه . هو بأمس الحاجة إلى الكنيسة ، إنه بحاجة إلى الرب ، عبر جماعة الخلاص " ليستدع " ، إنها نصيحة ، لا أمر ، ليس هذا السر إلزامياً . على المريض أن يطلبه ، وهذا يفترض أن يكون واعياً منتبهاً ، وإنه يرغب في السر . " الشيوخ " هم المسؤولين في الكنيسة أو ممثلوها ، خدمتها ، الجميع مع الأهل والأصدقاء ، كانوا يقيمون في البيت ، ليتورجيا بيتية احتفالية . يصلون عليه ويمسحوه بالزيت باسم الرب ، فالسر يكمن في هذه الحركة الرمزية . صلاة الإيمان ، هي إيمان الكنيسة والكهنة وكل الحاضرين وبالأخص هو إيمان المريض : إيمانه العادي وإيمانه اليوم . وبهذه الصلاة يخلص المريض ، إما بشفائه وإما خلاصه الأبدي الذي لا يتضمن حتماً الشفاء . " فيقيمه الله " ، يوقفه على رجليه ، وإن كانت ساعة انتقاله قد أتت ، فالمسحة تتطبعه للقيامة الأخيرة . " غفرت خطاياه " ، الشفاء والغفران متلازمان كما أن المرض والخطيئة متلازمان فالصلاة والمسحة يحملان الخلاص في العمق : للجسد والروح ، للزمان وللأبدية .
يتكلم نصّ يعقوب على سر الخلاص كله ، هذا الخلاص الذي يحمله للمريض . إن كان المرض شراً بالنسبة إلى الإنسان كله وتبياناً للشر الروحي ( الخطيئة ) ، فدواء المسحة هو للإنسان كله يحمل له الخلاص ، خلاص النعمة الذي يتم بحسب العلامة المؤقتة ، علامة الشفاء أو الخلاص في المجد ، بالدخول في عالم القيامة .
|
|||
مفاعيل مسحة المرضى
|
|||
نستخلص من هذه الأقوال ومن غيرها ، مفاعيل سر مسحة المرضى كما يلي :
- التعافي والعودة إلى الحياة الطبيعية ، بقدر ما يكون ذلك لخير المريض الحقيقي ، وبحسب التقدير الإلهي .
- غفران الخطايا ، حتى لو كان المريض في حال اللاوعي ، على أن يكون قد أظهر استعداده في وعيه .
- الرجاء بالقيامة التي استحقها لنا المسيح ، والتي وطّد فينا رجاءها ، لما " أنهض " مخلع كفرناحوم ، وابن الأرملة ? هذا الرجاء هو الدواء الحقيقي ، أتعافى المريض أم لا .
- الاقتداء بالمسيح والاشتراك في آلامه ، فإن العذاب ، بحد ذاته ، لا قيمة له للخلاص ما لم يأخذه المسيح عليه، ويشركه في موته وقيامته . " إني أتم في جسدي ما ينقص من مضايق المسيح ، لأجل جسده الذي هو الكنيسة " (كو 1/24 ) .
- الإيمان بأن العذاب سوف يكون لنا ، كما للمسيح ، طريقاً إلى المجد الأبدي .
- نعمة الروح القدس التي تقود الإنسان بكامله إلى الخلاص ، وتشجعه على الثقة بالله ، وتقويه ضد تجارب الشرير ، وضد القلق أمام الموت .
- تأجيل الموت إلى الساعة التي يحددها الرب ، وتسهيل الموت ، إذ أن المسيح أتى ليشفينا من مرضنا الأساسي: الخوف والقلق أمام المجهول والاختفاء ، أتى المسيح ليضفي على موتنا طابع باكورة القيامة .
- وبما أن الزيت يستعمل أيضاً للتكريس ، يسعنا القول أم أن المسحة تكرّس المريض للمسيح من حيث أن مرضه يندرج في انتصار المسيح على المرض والموت ، فيستمد منه المريض القوة اللازمة لتقبل مرضه ، وموته عند الاقتضاء ، كعاملي تقديم نحو القيامة مع المسيح وملء تحقيق الإيمان .
( دستور رسولي في سر المسحة ، أصدره البابا بولس السادس ، في 30/11/1972 المقدمة رقم 8 ? 15 )
|
|||
خاتمـــة
|
|||
حبذا لو يُعاد للمرضى " سرهم " وأن يُنزع عنه اللافتة " خطر الموت " التي تجعل من لقاء المريض بالكاهن صدمة نفسية ? فهذا السر ، كسائر الأسرار هو أولاً سر الإيمان ، سر إيماني ، وهو أيضاً احتفال جماعي ، يحث على تجمع أخوي للعائلة البشرية والمسيحية حول أحد أعضائها المتألمين . جماعة الأرض وجماعة السماء : هذه هي كلمة هذا السر الأخيرة ، كما في سائر الأسرار : " بمسحة المرضى المقدسة وبصلاة الكهنة ، هي الكنيسة جمعاء ، تكل المرضى إلى الرب المتألم والممجد لكي يساعدهم ويخلصهم . وبالإضافة تحثهم على أن يشتركوا أحراراً بآلام السيد المسيح وموته لكي يساهموا في خير الشعب " ( المجمع الفاتيكاني الثاني ) ، الكنيسة بأسرها هي للمرضى والمرضى للكنيسة بأسرها ، في المسيح المتألم والقائم من الموت
|