- التواضع، كما قال الرب، هو أن نعمل البرّ كلّه ونحتسب ذواتنا عادمين البرّ كلّه. وهذا الفضل، هو ضروري جداً لطالبي الكمال، من طريق أنه أساس الكمال، وأساس كل فضيلة، كما هو الرأي عند جميع الآباء والعلماء. والرب تعالى قال: أنه لا ينظر خاصة إلاّ إلى المتواضع. فمن قبل ذلك صار الجد والإجتهاد في تحصيل التواضع ضرورياً جداً.
- ومن حيث أنه يتولد من المعرفة بالذات، وجب، أولاً، أن نعرف ما هي المعرفة بالذات، وإلى كم قسم تنقسم. ومثلها تنقسم درجات التواضع.
- فالمعرفة بالذات هي أن يعرف الإنسان ذاته خاطئاً عاجزاً عن كل خير. وهذه المعرفة تنقسم عند الآباء إلى ثلاثة أنواع، كما يجيء بيانها. ومنها نتج أنّ درجات التواضع ثلاث:
- فالدرجة الأولى: هي إحتمال الإنسان الإحتقار من قبل معرفته ضعفه.
- والدرجة الثانية: هي رغبة الإنسان بالإحتقار من قبل تمكن معرفته ضعفه.
- والدرجة الثالثة: هي فرح الإنسان بالإحتقار من قبل يأسه من ضعفه. ولنتكلم في واحدة فواحدة منها. فأولاً:
- الدرجة الأولى
- وهي إحتمال الإنسان الإحتقار من قبل معرفته ضعفه
- وسبب الإحتمال، من قِبَل هذه المعرفة، وهو أنّ الإنسان، إذا أدرك مقدار ضعفه وكثرة زلاته ونقائصه الفائقة العدد، ورأى مع ذلك جميعه، إعتداده بذاته، يبتدئ للوقت أن يخاف على ذاته من الهلاك ويطلب التحفظ والحرص. فإذا فاجأته الحقارة يراها كالمرهم، لإعتداده بذاته وغيرها من زلاته، ويرضى بها أتمّ الرضا. ههنا صار الدليل الصادق، عند الآباء، على معرفتنا ضعفنا، هو إحتمالنا الهوان من غيرنا، لا أن نحتقر ذاتنا بذاتنا. لأنّه يسهل على الإنسان أن يحتمل ذاته من غير معرفته ضعفه، لكن إحتماله غيره ليس يمكن إلاّ من قبل معرفته ضعفه، وهو الدليل عليها. وعن هذا المعنى قال القديس السلّمي: كلنا ندعوا أنفسنا خطأة، وربما نعتدها كذلك، لكنّ الهوان إمتحن قلبنا. أي إن أنت شتمت ذاتك وثلبتها بالخطأ، فليس ذلك بعجب. بل العجب إن ثلبَكَ غيرك وصبرت محتملاً، كما قال القديس إسحق: إنّ المحتمل الشتيمة كما يجب تعجب منه الملائكة.
- فإن قلت أن كثيرين يحتملون الإهانة لغرض بشري وربما يسرون بها، إذاً هم متواضعون. أجبتك: كلا، لأن علامة الإحتمال المتولد من معرفة الإنسان ضعفه، هو المقترن ببغض المديح والهرب من الكرامة، كقول القديس السلّمي: إن من يقول أنه يحس بنسيم التواضع، ويرى قلبه في أوان المدائح متحركاً إليها، ولو تحريكاً يسيراً، أو متفهماً قوة أقوالها، فلا يضل، فإنه مخدوع. أي ولو كنت تحتمل الحقارة كالمتواضع، وقلبك يميل إلى المديح، فإحتمالك هذا فاسد، ولغرض آخر غير التواضع. لأن إحتمال المتضع مقترن على الدوام ببغض المديح. بل ولا يقدر أيضاً، المحب المديح، أن يحتمل الإحتقار. وإن إحتمل فلا يكون إحتماله دائماً ولا باطناً، بل ظاهراً فقط.
- والسبب في عدم إستطاعته الإحتمال كما يجب، هو خضوعه لشهوة المديح. لأنّ الشهوة، من طبعها، متى فُقدت من الإنسان الجاهل ضعفه، تقلقه وتحركه إلى الغيظ، كما قال الأب وغريس: إنّ الغيظ كالكلب ناطور الشهوات، ومتى دنا منا غريب ليسلبنا إياها، نبح عليه وتحرك وإختبط. وهكذا أيضاً قال يعقوب الرسول: من أين تأتي الفتن والحروب؟ أليس من الشهوات التي تقاتل في أعضائكم؟ فقد صح إذاً القول: إنّ إحتمال الهوان الحقيقي، هو ما كان مقترناً بعدم الميل إلى المديح الناتج عن معرفة الإنسان ضعفه، ويطلق القول على صاحبه: أنه متواضع.
- وهذا واضح لكل متأمل، من حيث أن الإنسان، إذا اعتدّ ذاته أنها ليست بشيء، على جهة الهوان بها، فحينئذ لا يحزن فيما بعد على إهانتها، إذ كان هو المستهين بها أولاً، قبل مُهينه. وهذه الإهانة بالذات قد جاء بها القديس يعقوب الملفان بنوع آخر وقال: أني لست شيئاً ولا إثمي أيضاً بشيء. فهذه هي أيضاً معرفة ثانية للذات على جهة الإزدراء بها. ومن قبل هذه المعرفة أيضاً، لا يتجه لنا البتة تحريك الغيظ على من يحتقرنا أبداً، كما أن من يسلب منك شيئاً لا قيمة له عندك، لا تغتاظ عليه، فهكذا العارف أنه ضعيف وعاجز، لا يغتاظ على من يحتقره. ومن ها هنا حكم مفسّرو الإنجيل على الإمرأة الكنعانية بأنها متواضعة، ولم يسندوا إثبات قولهم إلاّ على أنها إحتملت التسمية بالكلبة ولم تغتظ البتة.
- ثم، ومن خواص المتواضع أيضاً، أنه يكون ساكناً، هادئاً، بهياً، وديعاً، طائعاً، رحوماً، وفي مثل هذه المحامد مستمراً، ثابتاً، لا متغيراً. لأنّ المتصف بصفات التواضع، وقتاً دون وقت، فذاك ليس بمتواضع، كما عرض لأحد الرهبان الذي كان متصفاً بأعمال الفضائل، ومشهوراً عند الرهبان بالتواضع والقداسة، وكانوا يمدحونه عند أبينا أنطونيوس. فلما حضر هذا الراهب، يوماً ما، عند أبينا المذكور، على جهة الزيارة، أحبّ القديس أن يمتحنه، فرشقه بنوع من الثلب. فلما رآه قد تغير منظره، وظهرت عليه علامات الغيظ والحزن، قال للرهبان: هذا الأخ يشبه قرية ترى من البعد ومن الخارج، عامرةً، وهي من داخلها خربة خاوية، ومأوى للصوص.
- فهذا الراهب كان له إحتمال كثير مع جملة فضائل كانت تدعو الرهبان إلى الشهادة له بالفضل، لكنه لم يكن حقّاً متواضعاً، كونه لم يظهر بما هو عليه، وما هو فيه من الإحتمال والوداعة، دائماً، إذاً، علامة التواضع هي الإقتران بصفاته دائماً. والعلامة الخصوصية لدرجته الأولى، هي الرضى بالإحتقار من غير أن يلحقه من قبله غيار، ولا من المديح أيضاً، كقول من يقول: لا في المديح لذة ولا في الهوان شدة. هكذا جاء عن الأب يوحنا القصير. حين شتمه أحد الرهبان، وسماه زانية تتصنع للناس لتكثر لها الأصدقاء. فأجابه الأب: نعم يا أخي، هكذا أنا بالحقيقة. وبعد قليل سأله أحد الرهبان: هل تسجست يا أبانا من الشتيمة؟ فأجابه الأب لا، بل كما كنت في الخارج، هكذا كنت في الباطن. فهذه صورة المتضع بالدرجة الأولى بالتمام.
- الدرجة الثانية
- هي رغبة الإنسان بالإحتقار من قبل تمكن معرفته ضعفه
- تمكن معرفة الذات، هو أنّ الإنسان يستغرق في معرفة ضعفه، حتى يعود يرى ذاته، بعد إمتلاكه الدرجة الأولى من التواضع وحسن فضائلها، أنه مشرّف، من قبل ضعفه، على العطب العظيم الذي يلزمه لأجله الإعتناء الكلي لأجل الخلاص منه، كما كان يراه الرسول بنفسه حيث قال: أني أقمع جسدي وأستعبده حذراً لئلا أنا، الذي بشّرت آخرين، أنفى وأُرذل. هذا هو التمكن بمعرفة الضعف لأنّ الرسول، بعد تمكنه بمعرفة جهاده الحسن، الذي جاهر به برسائله، كان أيضاً يرى ذاته، لإستغراقه بمعرفة ضعفه، أنه مشرف على السقوط، المقدار الذي يلزمه أن يتحذر منه بالإعتناء والإجتهاد.
- قال القديس السلّمي: إنّ الإنسان المسارع إلى إمتلاك التواضع لم يزل يتفطّن في سيرة يستسير بها، ويتحيل حيلاً يخترعها، ويبدع سجايا وأقوالاً وأفكاراً وعزائم وإستبحاثات، ويقدم نذوراً وصلوات، إلى أن يعتق سفينة نفسه، بطرائق أوفر تذللاً وهواناً، وبإسعاد الله، من بحر التعظم الدائم شتاؤه. ومن هذا القول ندرك نحن معنى هذه الدرجة بالكفاية، وذلك أن الساعي بالدرجة الأولى، لما حس بالمنفعة الواصلة إليه من الإحتقار، وهي نوع تنظيفه من إعتداده بذاته، حصل، من قبل هذا التنظيف، على صفاء بصيرة بزيادة عن الأول. ومن قبل زيادة صفاء بصيرته، حصل على معرفته ضعفه أكثر، ورغب الإحتقار أكثر، وصار، كما قال القديس المقدم ذكره، يخترع الحيل والسجايا والصلوات ليتقدم١ بالتواضع إلى قدام.
- والأمثلة في هذا المعنى كثيرة جداً. ولنكتف نحن بذاك الراهب الذي لما رأى رئيسه وإخوته لا يشبعونه هواناً، طلب أن يذهب إلى حيث يُهان أكثر. ويوحنا صاحب السيق، المذكور خبره في السلم، تظاهر بالجنون رغبة بالهوان. وهذا دليل واضح على أنّ هؤلاء فقدوا غضبهم بالتمام، وقبله، قد فقدوا الميل إلى المديح بالكلية. وهكذا قال الآباء: لولا موت الغضب والشهوة لما وصلوا إلى رغبة الإحتقار وملكوا درجة التواضع الثانية.
- الدرجة الثالثة
- فرح الإنسان بالإحتقار من قبل يأسه من ضعفه
- كثير من الآباء قالوا: إنّ كمال التواضع لا يعرف بالكلام، غير أن علاماته معروفة، وهي بمنزلة التعريف له. وهذه هي التي أتينا بها وقلنا: هي فرح الإنسان بالإحتقار من قبل يأسه من ضعفه. فالفرح هنا يدل على أنّ الكامل بالإتضاع، ليس فقط لا يحس بتعب الإحتقار، كصاحب الدرجة الثانية، السابق شرحها، بل أيضاً يصير يحزن بالكرامة، ويضجر ويملّ عند عدمه الإحتقار. ولذلك يفرح بوجوده، كما كان القديس مكاريوس يحزن، لما يسأله أحد الإخوة مسألة لنفع النفس، بإكرام وإحترام، ولا يجيب الأخ. ولما كان الإخوة يسألونه بنقص إكرام وعدم إحترام، كان يظهر لهم المحبة ويجيبهم بفرح. قال القديس السلّمي: إنّ كمال الكبرياء هو أن يتظاهر الإنسان، لأجل التشريف، بفضائل بعض الناس، كذلك كمال التواضع يتشكل صاحبه، بحضرة بعض الناس، لأجل التذلل، بعيوب ليست فيه. ثم أورد القديس المذكور، لإثبات كلامه، خبر الأب سمعان الذي جلس عند باب قلايته، وقت وصول القاضي لزيارته، وأخذ يأكل خبزاً وجبناً، بمنزلة راهب قليل الحشمة والعقل. وبهذا العمل، جعل القاضي ومن معه أن يرجعوا عن الوصول إليه والسلام عليه، مستخفين عقله، محتقرين قدره. وهذا الإحتقار، كان لذيذاً عند الأب القديس مفرحاً له. وهذا الفرح يتولد في المتواضعين من قبل يأسهم من ضعفهم.
- فإن سألت: وما الذي يراه المتواضعين في أنفسهم حتى ييأسون منها؟ يجيبك الآباء: أنهم متأملون فيها تأملين:
- الأول أنهم يرون ذواتهم ليس هم شيئاً، ولا لهم قوة على عمل شيء.
- الثاني يرون أنّ أعمالهم كلها معابة مرذولة من قبل نقصهم وزلاتهم الكثيرة والمتصلة دائماً. ولنتكلم قليلاً في:
- التأمل الأول
- نقول أن المتواضع الحقيقي يرى ذاته ليس هو شيئاً البتة، بدليل قول أب الآباء عن نفسه: أنه تراب ورماد، وما قاله أيضاً أيوب عن نفسه: أنه ورقة ينسفها الريح. وقال النبي عن نفسه: أنه دودة ليس بإنسان. ولا شك في أن من عرف نفسه، وإعتبر ذاته أنه تراب ورماد وورقة ودودة، فهو يرى ذاته ليس هو شيئاً، طبق قول الرسول القائل: أن من ظنّ بنفسه أنه شيء وليس هو بشيء، فإنه يضل نفسه. وإذا كان الإنسان، حسب صدق المقولات، ليس هو بشيء، فهل يمكنه الإستطاعة على عمل شيء؟ فالقول إذاً حق والتأمل به صحيح، وهو أن الإنسان ليس هو بشيء ولا يقدر على شيء، أي لا يقدر، من ذاته، على عمل فضيلة ما البتة. والرب تعالى قد أثبت صحة ذلك بقوله: إذا عملتم البّر كله، قولوا نحن عبيد بطّالون.
- فيقول قائل: كيف هذا وها الرب يقول عملتم البر؟ إذاً يوجد للإنسان عمل ليس هو باطلاً، إذ الواحد وحده، لا يقال عليه أنه بطال وعمال معاً.
- فنجيبه: إنّ البطالة والعمل، لا يقال علينا بالسواء فالبطالة تختص بنا قولاً ومعنى، وذلك لأنها خطيئة محض، والخطيئة ما لها مصدر ومبدأ إلاّ منا، بدليل قوله تعالى، على لسان النبي: إنّ هلاكك معك يا إسرائيل. أما عمل الخير فهو من الله، لا منا، بدليل قوله تعالى: بغيري لا تقدرون على شيء. وقال الرسول: إن الكل منه وبه وإليه. فيتضح من ذلك، أن قوله تعالى?عملتم? معناه: أنا عملته بكم. وإلاّ فيكون الرب أمر بالكذب عن ذلك، لأنه قال: قولوا نحن بطالون. فمن حيث هو تعالى صادق وعين الصدق، فلا بد أن نكون بطالين، كما قال، ولو عملنا البرّ كله، إذ نحن لم نعمله، إنما هو تعالى عمله بنا. فحقيقة العمل له، والإسم لنا. وهذا قد تكلم به الرسول وأوضحه بالتمام حيث قال: أنه تعب أكثر من باقي الرسل. ثم قال: لست أنا بل نعمة الله.
- وليس عملنا العملي فقط هو لله تعالى، بل عمل أفكارنا وإرادتنا الصالحة، هو أيضاً منه، بدليل قول الرسول: أننا لا نقدر أن نفكر فكراً من قبل أنفسنا كأنه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله. وقال أيضاً: أن الله هو الذي يعمل معنا أن نريد. والنتيجة من كل شيء قلناه، هي إنّ الإنسان ليس هو شيئاً ولا يقدر أن يعمل شيئاً. وهذا هو التأمل الأول المختص بالمتواضعين الحقيقيين، ومنه يتولد فيهم اليأس من ضعفهم ويحتقرون ذواتهم كثيراً.