إذا تصّفحنا الإنجيل المقدس ملياً نلاحظ أن الرب يسوع
كان يستهّل كل عمل مهّم بفترة صلاة طويلة يقضيها في
عزلة تامّة: لقد بدأ حياته العلنية بالذهاب إلى
البرّية ليصوم ويصلّي طيلة أربعين يوماً يناجي فيها
الآب ويتأمل بكل ما أوحى لشعبه في العهد القديم.
يتعرّض للتجربة لكنّه يهزم الشيطان بفعل تمسّكه
"بالكلمة التي تخرج من فم الله" (متى: 4/4). وبعدها
فقط يتوجّه إلى بحر الجليل ليختار تلاميذه الأوائل
ويبدأ بتنشئتهم. وما أن مضى على ذلك وقت يسير حتى "ذهب
إلى الجبل ليصلّي ماضياً الليل كلّه في الصلاة للّه.
ولمّا طلع الصباح دعا تلاميذه فاختار منهم اثني عشر
سمّاهم رسلاً" (لوقا: 6/12). صلّى يسوع طوال الليل لأن
اختيار الرسل لَفي غاية الأهمية كونه سوف يرسلهم لحمل
بشارته الخلاصيّة.
بعد معجزة تكسير الخبز "أجبر يسوع التلاميذ أن يركبوا
السفينة ويتقدّموه إلى الشاطئ المقابل... فصرف الجموع
وصعد الجبل ليصلّي في العزلة وكان في المساء وحده
هناك" (متى 14/23). يمكننا أن نتصّور المكان والزمان
ونستنبط أية صلاة صلّى يسوع آنذاك. رّبما أحسّ يسوع
بحاجة ماسّة للتحدّث إلى الآب السماوي ليشكره على
معجزة إطعام "الخمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال"
(متى: 14/21) الذين تبعوه ذاك اليوم. وقد يكون بصلاته
هذه يجدّد للآب السماوي استعداده ليكون الخبز السماوي
الذي سيعطى للعالم ليلة العشاء السريّ في سر
الإفخارستيا: "إنك لم تشأ ذبائح ومحرقات فأنا أقول لك:
هاأنذا جئت لأعمل مشيئتك" (عبرانيين :10/8).
لم
تكن صلاة يسوع طلباً للعزلة والانفراد مع الله فحسب،
بل كانت أيضاً تستهدف رسالته:
-
صلّى يسوع بينما كان يعتمد..." فانفتحت السماء وحلّ
الروح القدس" (لو: 3/21).
-
صلّى على جبل طابور "وتجلّى أمام بطرس ويعقوب ويوحنا.
وبينما هو يصلّي تبدّل منظر وجهه وصارت ثيابه بيضاء
تتلألأ كالبرق" (لو: 9/28).
-
صلّى في العلية عشية آلامه من أجل تلاميذه كي يحفظهم
الآب من الشرير ( يوحنا: 17/15).
-
صلّى من أجل بطرس "حتى إذا ما عاد ثبّتَ أخوته" ( لو
22/32).
-
صلّى في بستان الزيتون وطلب أن تَعبُرَ عنه كأس
الآلام. لكنّه ثبّت ثقته بالآب ورضخ لمشيئته.
(مر:14/36)
-
أخيرا وفي خضّم الألم المميت صلّى يسوع لأجل صالييه
وطلب من الآب أن يغفر لهم. ( لو 23/34)
لم يكتفِ السيد المسيح بأن يصلّي بمفرده بل علّم
تلاميذه كيف يصلّون: "وكان يصلّي في بعض الأماكن...
ولمّا فرغ قال له أحد تلاميذه: يا ربّ علّمنا أن نصلّي
كما علّم يوحنا تلاميذه... (متى6/9) وكانت لنا أروع
صلاة انطوت عليها الكتب المقدّسة ألا وهي الصلاة
الربيّة: "أبانا الذي في السماوات...."
من
خلال هذه الصلاة علّم الرب يسوع تلاميذه الصلاة الحقة
حيث يكون الآب وملكوته المحور الأول والأساسي لكل
صلاة: "ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك.."
وبعد هذا التسبيح والاستسلام يطلبون لأنفسهم الخبز
والمغفرة والنجاة من الشرير.
علّمهم الصلاة وحثّهم على الاستمرار فيها ليل نهار:
"اسهروا مواظبين على الصلاة" (لو:21/36) لأن هناك
"أنواعٌ من الشياطين لا تُطرد إلاّ بالصوم والصلاة"
(مر: 9/29).
فَهِمَ التلاميذ أهمية الصلاة ليس فقط في حياتهم
الفردية بل في جماعاتهم المؤمنة بوعود الرب لهم،
فنراهم بعد صعود الرب إلى السماء يجتمعون في العليّة
بانتظار مجيء الروح القدس "وكانوا يواظبون جميعاً على
الصلاة بقلبٍ واحد مع بعض النسوة ومريم أم يسوع ومع
اخوته" (أعمال: 1/13-14). ولمّا أرادوا اختيار متيّا
خلفاً ليهوذا "صلّوا ... ثم اقترعوا .. وضُمَّ متيّا
إلى الرسل الاثني عشر" (أعمال:1/24-26).
لقد صلّى الرب يسوع طيلة حياته ومجّد الآب السماوي
وسبّحه وشكره وطلب منه المساعدة واستسلم لمشيئته وأعاد
له الملك... وكذلك فعلت الكنيسة الأولى !
|