اللَّهُمَّ إِنِّي دَعَوتُكَ لأَنَّكَ تُجيبُني فأَمِلْ أُذُنَكَ إِلَيَّ و اْسْتَمع قَولي ( مز 17 /6)
مقالة هل الله موجود
مقدمة
لم يعرف التاريخ سؤالاً أهمّ من هذا السؤال، ولا أبعد منه أثراً. إنّه
سؤال العصور كلّها منذ أن وُجد الإنسان إلى يومنا هذا. وسيبقى هكذا ما بقي
الزمان. وهذا السؤال يطرحه القلب البشريّ محاطاً بالتوق إلى معرفةٍ يأمل
أن يجد فيها النور والاشراق والسعادة وشبع السرور في عالم مليء بالمآسي
والأحزان. ولعلّه السؤال الأهمّ الواجب الإجابة عليه قبل مناقشة الإيمان
نفسه.
ثلاثة مواقف من الله
أمّا أجوبة الناس على مختلف ميولهم ومذاهبهم فيمكن حصرها في ثلاثة:
أ-جواب الملحدين: هؤلاء يقولون إنّ الله غير موجود. وقد نعتهم الكتاب
المقدّس بالجهلاء، إذ يقول »قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: »لَيْسَ
إِلهٌ« (مزمور 14:1). وقد وُصفوا بالجهالة لأنّهم يستندون في إلحادهم إلى
حجّة سلبيّة، قوامها إنكار الأشياء، دون أن يقدّموا مبرّراً معقولاً أو
سنداً واضحاً. ولا نعرف أنّ أحداً منهم حاول أن يبرّر عدم إيمانه بالله
تبريراً إيجابيّاً معقولاً.
ب-جواب اللا أدريّين: هؤلاء يقفون في الوسط بين الإلحاد والإيمان، دون أن
يقطعوا بهذا أو ذاك. ومصيبتهم أنّ ضباب الشكّ يغشى قلوبهم، وأنّ عواطفهم
شُحنت بالقلق والاضطراب. ولعلّهم في فقدهم دوافع الإيمان صاروا أقرب إلى
الإلحاد منهم إلى الإيمان. قال بعضهم إنّ الديانة في كلّ أبوابها لغز لا
يُحَلّ وسِرّ لا يُكشَف. وجلّ ما نحصل عليه بالبحث في الدين هو شكّ وعدم
تأكيد! ويقيناً أنّ اللاأدريّة عقم في التفكير، ينزل بالإنسان إلى درجة
مؤسفة من الجهل. لأنّها تقتل فيه الشعور بالمسؤوليّة والكرامة، وتجعله في
حالة إحجام عن مواجهة الأمور التي تتطلّب الإيمان.
ج-جواب المؤمنين: هؤلاء يعلنون إيمانهم بوجود الله، وإنّما لا يُخضِعون
إيمانهم للتحليل المادّيّ أو العقليّ أو الحسّيّ، لأنّ الله الذي يؤمنون
به روح ولا يمكن إدراكه بالعقل أو الحسّ، لأنّه لو أُدرك الله بالمحسوسات
لأصبحت المحسوسات أعظم من ذاته الإلهيّة. هذا أوّلاً. وثانياً لو استطاعت
الحواس أن تدركه لانتفت كلمة »إيمان« من معاجم اللغة، لأنّ الإيمان كما
عرّفه بولس هو »الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالْإِيقَانُ بِأُمُورٍ لَا
تُرَى« (عبرانيّين 11:1).
الأدلّة على وجود الله
قبل البدء بتقديم الأدلّة، يجب أن نضع في أفكارنا كحقيقة أوليّة أنّه لا
ينبغي أن ننتظر دليلاً مادّيّاً على وجود الله. فالله غير منظور،
والديانات السماويّة تعلّم بذلك. لذلك ليس من الحقّ في شيء أن نسأل مؤمناً
أن يرينا الله لكي يثبت لنا وجوده فنؤمن به. كلّ ما ينبغي علينا أن نفهمه
هو أنّ الإيمان بالله خير من عدم الإيمان. وقديماً قال أحد شعراء العرب
الحكماء:
قال المعلّم والطبيب كلاهما أنْ لا إله، فقلت ذاك إليكما
إن صحّ ظنّكما فلستُ بخاسرٍ أو صحّ ظنّي فالوبال عليكما!
إليك في ما يلي بعض الأدلّة على وجود الله، والتي استطعت أن أجمعها من بعض المصادر.
وجود الكون:
من المسلّم به أنّ كلّ معلول لا بدّ له من علّة سابقة وكافية لإحداثه.
فالكون أو العالم غير أزليّ، ولا هو كوّن نفسه. لذلك فهو معلول، أي له
علّة خارجيّة عنه، كافية لإحداثه. وهذا بالطبع يستلزم الاعتراف بأنّ
للعلّة وجوداً حقيقيّاً دائماً. فاللاشيء لا يمكنه أن يوجد شيئاً.
والأدلّة على عدم أزليّة الكون متعدّدة نكتفي بذكر اثنتَين منها:
(أ)إنّ العالم على هيئته الحاضرة متغيّر باستمرار. وكلّ متغيّر مُحدَث، أي أنّ لديه بداية.
(ب)إنّ الانقلابات الجيولوجيّة التي توالت على العالم وأحدثت فيه تغييرات
عظيمة وكثيرة تبيّن أنّه غير أزليّ. أمّا القول بأنّ الكون واجب الوجود
فمخالف لحكم العقل السليم، لأنّ العالم مركّب من عناصر عديدة. وكلّ مركّب
معلول أي حادث، وشهادة الاكتشافات الطبيعيّة الجديدة تبيّن أنّ العالم
صنعته يد واحدة، لأن ما فيه من المخلوقات مركّب ومنظّم بقوّة عقل واحد،
ممّا يؤكّد كلّ التأكيد وجود خالق عظيم هو علّة العلل.
هناك بعض أقوال علماء الجيولوجيا والطبيعة التي تبرهن أنّ الأرض التي نعيش عليها محدَثة:
(1)إنّ كلّ أنواع الحيوانات والنباتات المعروفة الآن حديثة العهد بالنسبة لمدّة وجود العالم.
(2)إنّ الموادّ الخالية من الحياة لا يمكن أن تولّد حياةً في نفسها ولا في
غيرها. وإنّما الحياة وحدها تحدث الحياة. وفي تعبير آخر أنّه لا حيّ إلاّ
من حيّ.
(3)لم يتبرهن بعد الفحص الكافي أنّ نوعاً من المخلوقات الحيّة استحال إلى
آخر. فيلزم من هذا المبدأ أنّ لكلّ حيوان ونبات بداءة. وكلّ ما له بداءة
فهو مخلوق، والمخلوق لا بدّ له من خالق.
علامات القصد في الكون:
هذا الدليل من أصدق الأدلّة على وجود الله. وصورته الإجماليّة، هي أنّ
التنظيم يستلزم بالضرورة وجود منظّم نظّمه. والكون منتظم جدّاً لأنّ فيه
يظهر حُسْن الترتيب والتركيب والقصد في كلّ شيء. ممّا يدلّ على وجود كائن
عاقل قد نظّمه. وهذا الكائن هو الله.
الواقع أنّ علامات القصد في الكون تدلّ حتماً على وجود قاصد عاقل جدّاً، قادر أن يصنع كلّ شيء. ولذلك يجب التسليم بوجود خالق عاقل.
وقد تبيّن أنّ علامات القصد ظاهرة في الكون على حالات مختلفة، كالترتيب
الدقيق في أنواع المخلوقات، وأجزاء كلّ شيء وفقاً لنواميس طبيعيّة محكمة
ومرتبطة معاً، وارتقاء أحوال الخلائق بالتدرّج في سلّم النظام وموافقة
البنية الآليّة لإتمام وظائفها ونموّها وتقدّمها، وموافقتها عند اكتمالها
للغاية المقصودة من خلقها، وموافقة كلّ ما سبق لغايات أدبيّة في ذهن
الخالق، الذي يستخدم خلائقه لتمجيد اسمه ولتربية مخلوقاته العاقلة الناطقة
في الأدبيّات والروحيّات. فلولا القاصد الحكيم وتنظيمه العالم لعمّ
التشويش الخليقة كلّها.
وعلامات القصد تظهر في أمور كثيرة منها:
(أ)علامات القصد في أعضاء الجسد: فليس عند البشر من المصنوعات ما يستحقّ
أن يُقابَل بأعضاء جسد الإنسان في الكمال والدقّة والإتقان. فالعين مثلاً
أكمل من جميع آلات النظر التي صُنعت، في مطابقتها لقوانين الضوء، لأنّ
فيها عصباً منتشراً في شبكتها يشعر بالنور والألوان. ويدخل النور العين من
الحدقة، وهذه تضيق إذا كثر وتتّسع إذا قلّ. وفعلها هذا ضروريّ لتعديل
البصر وهو يعمل آليّاً دون خضوع للإرادة. مجرّد دخول النور من ثقب ما لا
يكفي لرسم صور المرئيّات رسماً واضحاً، بل لا بدّ من مروره في بلّورة
محدّبة لكي تنكسر أشعّته وتتجمّع في بؤرة. وهذان الشرطان متوفّران في
العين.
ثمّ لو كان باطن العين أبيض، لانعكست أشعّة النور، وتشوّش البصر. فدفعاً لذلك، بُطِّنت العين ببطانة سوداء.
وفي العين فضلاً عن ذلك عضلات مخصوصة تحكمها لنظر ما هو قريب وما هو بعيد،
بسرعة مدهشة. كلّ هذا يظهر حكمة الله الفائقة في إعداد الوسائط لنوال
الغاية المقصودة على منوالٍ يفوق كلّ ما في أعمال البشر.
وكذلك الأذن، آلة عجيبة في كمالها. ففيها عصب السمع من الباطن، وآلة
مموّجة اسمها الصماخ. هذه تحمل الموجات الهوائيّة إلى غشاء رقيق يُسمّى
الطبلة. وهذا الغشاء يهتّز بتموّج الهواء. وداخلها عظيمات دقاق تنقل
التموّجات إلى العصب السمعيّ، فينقلها هذا إلى عقدة السمع في الدماغ. ومن
المعلوم أنّ معظم معاملات الناس تتمّ بواسطة هذه الآلة العجيبة، التي
يتوقّف عليها السمع وتعلّم النطق.
ولو أخذنا أعضاء جسد الإنسان واحداً فواحداً، لوجدنا أنّها رُكِّبت بصورة
عجيبة، بالغة الدقّة والكمال للقيام بوظائفها، ممّا يدلّ على حكمة الخالق
العظيم وقدرته في صنع الأشياء.
(ب)علامات القصد عند الطفل حين ولادته: فحياة الإنسان تتوقّف على
الأوكسجين الذي يتنفّسه، وبحسب ذلك، يولد الطفل مجهّزاً بآلة التنفّس مع
أنّه لم يكن في حاجة إليها قبل ولادته. وهي في غاية الدقّة والإتقان،
لتنقية الدم قبل توزيعه في كلّ أعضاء الجسم. وأيضاً قبل الولادة لا يحتاج
الجنين إلى طعام ولكنّه حين يولد يصير محتاجاً إليه، ولذلك صنع الخالق
جهاز الهضم، بأجزائه الكاملة. وكذلك قبل ولادته، لا يحتاج الطفل إلى أعضاء
للمشي والعمل. ولكنّ الخالق كوّنها له قبل أن يولد، وفقاً لحاجته بعد
الولادة، وهي مكوّنة من عظام ومفاصل متنوّعة، لكي تتحرّك تمشّياً مع حاجته
في المستقبل. ممّا يدلّ على حكمة هذا الخالق العظيم.
(ج)التناسب في أعضاء الجسد: في كلّ حيوان تتناسب الأعضاء مع أحواله
الخاصّة به، فأجهزة السمع والبصر والهضم والتنفّس والحركة مرتّبة ترتيباً
دقيقاً تمكّنه من القيام بوظيفتها على أحسن وجه. و نرى في خصائصها من
الاختلاف ما يوافق الاحتياج الخاصّ لكلّ جنس أو نوع من الحيوان. فالبرّيّ
منها مجهّز بأجهزة توافق السكنى في البرّيّة. وكذلك المائيّ والهوائيّ.
و يستطيع العالم المدقّق بواسطة بعض الخصائص أن يعرف من عظم واحد جنس
الحيوان ونوعه. فالطيور التي تخوض المياه وتتغذّى بالأسماك مجهّزة بأعناق
وسيقان طويلة جدّاً، لتمسك فريستها من تحت الماء، والطيور التي تسبح على
وجه المياه، مجهّزة بأصابع ملتحمة لها شكل المجذاف، والتي تطير في الأجواء
مجهّزة بأجنحة طويلة وعظام فارغة لتصبح خفيفة الوزن بالنسبة لأحجامها.
والتي تعيش على الأشجار، لها مخالب ومناقير حادّة ولسان طويل للوصول إلى
طعامها من قلب الأشجار، وغير ذلك من الخصائص التي جهّزها بها الخالق
الحكيم.
ولعلّ أعجب الخصائص ما وُجد عند الحرباء، فهذا الحيوان الصغير تنتشر على
جسمه غدد تتأثّر بألوان الوسط المحيط به، فيتغيّر لون جلد الحرباء تبعاً
لذلك الوسط. فحينما تقف على فرع شجرة أخضر يتغيّر لونها إلى الأخضر.
وحينما تصل إلى زهرة زاهية اللون تتّخذ لون الزهرة، وإذا وجدت بين الأحجار
تتّخذ لون الأحجار. وهي تستخدم هذه الميزة للتمويه دفاعاً عن نفسها إذ
يتوهم عدوّها أنّها فرع من الشجرة أو زهرة من الأزهار أو حجر بين الأحجار.
فكلّ هذه الخصائص عند هذه الحيوانات مكوّنة وفقاً لحاجتها. وهي تؤكّد حكمة
الله صانعها.
(د)الإعداد السابق: ولعلّه أقوى الأدلّة على تدبير الخالق، وعالمنا مليء
بالشواهد على ذلك. خذ مثلاً إعداد الطعام للمواليد قبل ولادتها، ففي ذوات
الثديّ تكبر الأثداء قبل الولادة ويعدّ فيها الحليب، حتّى متى دخل المولود
العالم، يجد طعاماً على غاية الملائمة لتغذيته. أمّا في الحيوانات التي
تبيض فجرثومة الجنين محاطة بالمحّ والبياض، فيتغذّى بهما وينمو إلى أن
يبلغ التكوين الكافي. وحينئذٍ يخرج من البيضة مجهّزاً بكلّ ما يلزمه من
الأعضاء للسعي والحصول على طعامه، وقد كان هذا التدبير من الله وليس من
أمّه.
(ه)موافقة العناصر لحاجات المخلوقات الحيّة: نرى علامات القصد في تركيب
عالم الجماد بصورة موافقة لحفظ حياة النبات والحيوان، فإنّ هاتين
المملكتَين لا تستطيعان أن تعيشا بدون نور وهواء وحرارة. فمن أبدع لهما
النور والحرارة والماء والهواء ونشرها في كلّ العالم؟ مَن أوجد الشمس مصدر
النور والحرارة؟ ومن جهّز الهواء بعناصره على نسبة ثابتة موافقة لحفظ
الحياة وأحاط أرضنا به؟ ومن جعل الماء يتحوّل إلى بخار ثمّ يتجمّع في
السحب ويُساق بالرياح ويهطل مطراً لإرواء وجه الأرض، إلاّ ذلك الإله
الحكيم القدير؟
نظام الكون:
أورد العالِم ا. كرسي موريسون، رئيس أكاديميّة العلوم في نيويورك، طائفة من الأدلّة العلميّة تؤيّد الإيمان بوجود الله، منها:
(أ)تدور الأرض حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة ولو أنّها دارت بسرعة
ماية ميل في الساعة، لأصبح الليل والنهار عشرة أضعاف ممّا هما عليه.
وتبعاً لذلك تحرق الحرارة النباتات في النهار، أو يقتل الجليد الكائنات
الحيّة في الليل.
(ب)تبلغ درجة حرارة سطح الشمس 12 ألف درجة بمقياس فهرنهايت، و الأرض قائمة
في الوضع المناسب بالنسبة لهذه الحرارة، بحيث لو هبطت حرارة الشمس إلى
النصف لتجمدنا. وعلى العكس لو تضاعفت لكنّا احترقنا.
(ج)إنّ انحراف كرويّة الارض بمقدار 23 درجة أوجد لنا الفصول الأربعة. ولو
لم تكن منحرفة هكذا لتحرّكت أبخرة المحيطات شمالاً وجنوباً وقذفتنا
بكمّيّات لا تُقدَّر من الجليد.
(د)لو أنّ القمر على بعد خمسين ألف ميل فقط لتعرّضنا للغرق مرّتَين كلّ يوم ولتفتّتت الجبال.
(ه)لو أنّ قشرة الأرض أكثر سماكة ممّا هي بعشرة أقدام لانعدم الأوكسجين، وتبعاً لذلك تنعدم الحياة.
(و)لو أنّ المحيطات أعمق ممّا هي الآن بأقدام قليلة لامتُصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين، وماتت الحياة النباتيّة.
(ز)لو أنّ الجوّ المحيط بالأرض أقلّ سمكاً ممّا هو لتعرّضت الأرض للحرائق بسبب النيازك التي ترتطم بسطحها كلّ يوم.
وينهي العالم الكبير ملاحظاته بالقول إنّ هذه الحقائق والكثيرة من أمثالها
تقنعني بأنّ الكوكب الذي نعيش عليه لم يأتِ بمحض المصادفة بل هو من صنع
إله حكيم، قادر على كلّ شيء.
شهادة بلوغ وسائل الحياة أغراضها :
إنّ في وسائل الحياة لبلوغ أغراضها دليل واضح على حكمة شاملة عند موجدها.
فمع أنّه لا يستطيع أحد أن يحلّلها، لأن لا وزن لها ولا قياس، فهي تمتلك
القوّة على تحطيم الصخر وقهر الماء والهواء، وتسود على العناصر وتحلّلها
أو تركّبها كما تشاء.
وكذلك الحياة هي المثال البارع الذي يصوغ الكائنات الحيّة، والفنّان
المبدع الذي يرسم كلّ ورقة في كلّ شجرة ويلوّن كلّ زهرة، وهي الموسيقيُّ
الذوّاق الذي يعلّم الطير شدوها العذب الجميل، ويعلّم الحشرات أن تنادي
بعضها بعضاً بالإيقاع البديع المفهوم في ما بينها، وهي الكيمائيّ الماهر
الذي يعطي الأثمار والتوابل مذاقها المستساغ، ويعطّر الورود بالشذى
الطيّب، الذي ينعش النفس ويحوّل حامض الكربونيك إلى سكّر.
وهناك حقيقة ذكرها العلماء وهي أنّ نقطة البروتوبلازم، المادّة الحيّة
التي تتكوّن منها جميع الكائنات الحيّة، والتي هي شفّافة متخثّرة لا تُرى
بالعين المجرّدة، والتي تأخذ نشاطها من الشمس، تحمل في طيّاتها جرثومة
الحياة. ولها القدرة على توزيع الحياة على الكائنات الحيّة كبيرها
وصغيرها. وهي بقوّتها هذه أعظم من الحيوانات والنباتات حتّى من البشر
أنفسهم، لأنّ كلّ حياة تنبثق منها. فالطبيعة أعجز من أن توجِد الحياة كما
يدّعي البعض. وكذلك الصخور البركانيّة والمياه العذبة لا يمكن أن توجدها
الطبيعة. فمن هو الذي أوجدها إذاً؟ إنّه ذلك الخالق العظيم ذو العقل
العجيب »الذي كلّ شيء بحكمة صنع«!
شهادة غرائز الحيوانات:
إنّ حكمة الحيوان تتحدّث بصورة لا تجادَل عن الخالق الصالح، الذي زوّد هذه
المخلوقات العجماء بالغرائز اللازمة لحياتها. خذ السالومون مثلاً، فهذا
الحيوان المائيّ الصغير الذي يقضي أعواماً في البحار، يعود في آخر الأمر
إلى المكان الذي وُلد فيه عند روافد الأنهار. فمن الذي أرجعه إلى مهده
الأوّل؟ بل ما الذي يجعله يجاهد في سبيل الرجوع إلى ذلك المكان؟ إنّها
الغريزة التي جهّزه الله بها!
وكذلك طير »البارتروج« حينما تكتشف أنّ عدوّاً يريد أن يداهم صغارها تسقط
أمامه إلى الأرض ثمّ تطير قليلاً على ارتفاع منخفض وتسقط ثانية متظاهرة
بأنّها كسيرة الجناح، فإذا ما اقترب منها العدوّ تعيد الكرّة مبتعدة عن
منطقة صغارها. أليست هذه غريزة تدلّ على حكمة الخالق الوهاب؟
ولعلّ أدقّ الألغاز وأصعبها عند الحنكليس، فهذه المخلوقات تخرج عند اكتمال
نموّها من الأنهار والبحار لتتجمّع عند نقطة معيّنة عميقة بالقرب من
برمودا، حيث تلد صغارها وتموت. والعجيب في أمرها أنّ أولادها التي وُلدت
هناك ترحل كلّ مجموعة منها إلى المكان الذي جاء منه آباؤها. وهذه
الحيوانات وأمثالها التي تفعل بدافع الغريزة أموراً يعجز عقلنا عن
تحليلها، ألا توجّه أفكارنا إلى الخالق العظيم الذي زوّدها بالغريزة
اللازمة لحياتها ولحفظ جنسها؟!
شهادة عقل الإنسان:
لقد زوّد الله الإنسان بعقل من دون سائر المخلوقات الحيّة، والثابت أنّه
لم يوجد مخلوق حيّ غير الإنسان يستطيع أن يعدّ من واحد إلى عشرة، لذلك يجب
أن نشكر الله لأنّه منحنا العقل، الذي بواسطته ندرك الأشياء ونحلّلها، وبه
نستطيع أيضاً أن نفكّر بأنّ لنا إلهاً كلّيّ الحكمة والقدرة.
و من البديهيّ أنّ قدرة عقل الإنسان على تصوّر ما هو غير منظور لدليل على
وجود الله، لأنّ تصوّر الله ينبعث في الإنسان عن طريق مَلَكة إلهيّة كامنة
فيه، لا يشاطره فيها مخلوق آخر على الأرض. وبما أنّ التصوّر عند الإنسان،
يصبح في سموّه حقيقة روحيّة في البشر، صار ميسوراً للإنسان أن يرى من
الكون وما فيه أنّ الله موجود وأنّه مالئ الوجود لكلّ زمان ومكان، وأنّه
أقرب الكلّ إلى قلوبنا. هذه الحقيقة تكشّفت يوماً لداود الملك فسبّح الله
قائلاً »اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللّهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ
بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلَاماً، وَلَيْلٌ إِلَى
لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً« (مزمور 19:1،2).
شهادة الوجدان:
من المسلّم به أنّ الإنسان ينفرد عن سائر المخلوقات الحيّة بوجود الوجدان
في نفسه، فهذا الشعور الكامن في أعماق الإنسان كان وما زال يتحدّث عن وجود
الله. ومهما اختلف الناس في أحوالهم المعيشيّة والاجتماعيّة والفكريّة،
فممّا لا شكّ فيه أنّ وجدانهم الدينيّ ملازم لهم ولا يمكن أن يزول. وقد
قال أحدهم: قد تجد بلداً بدون عملات وبدون مدارس وبدون مسارح وبدون فنادق،
ولكنّك لن تجد بلداً بدون هيكل للعبادة. هذه الحقيقة تذكّرنا بقول سليمان
الحكيم »قَدْ رَأَيْتُ الشُّغْلَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللّهُ بَنِي
الْبَشَرِ لِيَشْتَغِلُوا بِهِ. صَنَعَ الْكُلَّ حَسَناً فِي وَقْتِهِ،
وَأَيْضاً جَعَلَ الْأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلَاهَا لَا
يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللّهُ مِنَ
الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ« (جامعة 3:10 ، 11).
شهادة الضمير:
الضمير مستقلّ في حكمه، بحيث لا يخضع للعقل والإرادة. فإذا كان مستقيماً
لا يرى الحرام حلالاً ولا الحلال حراماً، ولو أنّه حاول ذلك. مثله كالعقل
الذي لا يقدر أن يرى الأسود أبيض ولو حاول ذلك. ويلزم عن حكم الضمير وجود
شريعة أدبيّة، سلطانها من فوق، وتحكم بما هو واجب علينا.
وممّا لا ريب فيه أنّ وجود الضمير والشريعة الأدبيّة يشعرنا بأنّنا
مسؤولون عن حالنا وأعمالنا، لا لأنفسنا ولا للبشر فقط، بل أيضاً لكائن
عظيم هو مصدر الشريعة ومنشئ الضمير فينا. هذا الكائن العظيم يسرّ بالصلاح
ويكره الشرّ ويجازي كلّ واحد حسب استحقاقه. فيلزم ممّا تقدّم وجود مَن نحن
مفتقرون إليه ومسؤولون له وهو الله.
شهادة النظام الفلكيّ:
البيّنات من النظام الفلكيّ على وجود خالق عظيم حكيم عاقل قدير كثيرة
جدّاً يضيق مجال هذه الرسالة لذكرها. وإنّما أذكر أنّ المتأمّل في عظمة
هذا الكون وأجرامه السماويّة التي لا تحصى، ودورانها في أفلاك نسق واحد
قرناً بعد قرن وسرعتها، وما بين القوّتين الدافعة والجاذبة من توازن مدهش،
لا يسعه إلاّ أن يهتف مع داود قائلاً »مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا
رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلْآنَةٌ الْأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ«
(مزمور 104:24).
قال الرسول بولس لأهل لسترة »الْإِلهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ
وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، الَّذِي فِي الْأَجْيَالِ
الْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الْأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ - مَعَ
أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلَا شَاهِدٍ - وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً،
يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً،
وَيَمْلَأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً« (أعمال الرسل 14:15-17).
شهادة اقتصاديّات الطبيعة:
تلزمنا اقتصاديّات الطبيعة أن ندرك أنّ الحكمة الإلهيّة سبقت فرأت وأعدّت
كلّ شيء في الطبيعة بتدبير حكيم. مثلاً أشجار الصبّير التي زُرعت في
أستراليا لتحصين المزارع. فلمّا كانت أستراليا خالية يومئذٍ من الحشرات
المضادّة لهذا النوع من الشجر أخذ يتكاثر بكيفيّة مذهلة، حتّى مساحات
شاسعة من الحقول والمزارع. وإذ فشلت كلّ الوسائل للحدّ من انتشاره السريع،
لم يجد العلماء بدّاً من الإتيان بالحشرات التي تعيش على الصبّير،
وأطلقوها عليه. عندئذٍ توقّف عن اجتياح الأراضي وقُضى نهائيّاً على خطره.
ومن هنا نرى أنّ هذا التعادل بين القوّة والمقاومة في عالم النبات لا يمكن
أن يوجدها سوى خالق مدبّر هو الله.
شهادة الكتاب المقدّس:
قال الدكتور العلاّمة فاندايك » ليس في العالم كلّه كتاب كالكتاب المقدّس،
يحفظ لنفسه هذه الحيويّة الغريبة والأثر المتزايد والإيحاء القويّ! فإنّه
لم يعطِ الممالك فقط مُثلاً جديدة للمدنيّة، ومبادئ سامية للأخلاق،
وأفكاراً جديدة عن الفضائل وآمال السعادة، بل أيضاً أعطى دوافع وصوراً
للخيال الإنسانيّ، ليبدع في الآداب والفنون. الواقع أنّه أوحى روائع الفنّ
لميشيل أنجيلو ورفائيل وموريلا وليوناردو دافينشي وغيرهم، وألهم روائع
الألحان لباخ وبيتهوفن وهاندل، وروائع الأدب لدانتي ومارتن لوثر وفكتور
هيجو وجبران خليل جبران«.
وهذا الكتاب العزيز يحتوي بين دفّتَيه الإعلانات السماويّة والتعاليم
الإلهيّة التي تشكّل أدلّة قاطعة على وجود الله. ومن لا يقف مندهشاً وهو
يقرأ الأحداث التاريخيّة التي ورد ذكرها في كتاب الله، وكانت تتمّة
لنبوّات سابقة أعلن عنها رجال الله قبل حدوثها بعدّة قرون! وقد عرفوها من
إعلانات الله التي صارت إليهم.
و لو نظرنا إلى كياننا الروحيّ وبحثنا عن احتياجاته لوجدنا أنّ محتويات
الكتاب المقدّس على غاية الموافقة لسدّها، فإنّ فيه إعلان الخالق بأنّه
ليس فقط حاكماً عادلاً، بل هو لنا أيضاً أب رؤوف يحفظنا ويعتني بنا. وأنّه
لأجل خيرنا وضع في الكتاب الإلهيّ الوصايا والنواهي الموافقة لأحوالنا،
ولامتناعنا عن كلّ ما هو مضرّ لنا ومهين لشأننا وشأن خالقنا العظيم، وأنّ
وصاياه المقدّسة تؤول إلى خيرنا ولا سيما سعادتنا.
وكذلك في الكتاب المقدّس، التعليم والارشاد وترقية الأفكار وتربية الآداب
وإعدادنا للحياة الأبديّة. لذلك حقَّ أن نعتقد بأنّ الكتاب المقدّس هو
الكتاب الوحيد الذي يرشدنا إلى الحقّ، وبواسطة إرشاده ننال السعادة في هذا
العالم وفي العالم الآتي. هذا السفر العظيم ناشئ عن عقل سامٍ وكائن عالم
بكلّ شيء وقدّوس وعادل هو الله العظيم الذي ألهم رجاله القدّيسين، فكتبوا
لنا هذا السفر الجليل.
شهادة التجسّد:
إن كان الله قد ظهر في القديم بهيئة منظورة لأشخاص متعدّدين، كهاجر
وإبراهيم ويعقوب وموسى ومنوح وغيرهم فإنّ التجسّد هو سيّد الأدلّة، إذ به
ظهر الله في المسيح ظهوراً واضحاً وملموساً وفقاً لقول الإنجيل »فِي
الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللّهِ، وَكَانَ
الْكَلِمَةُ اللّهَ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا،
وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً
نِعْمَةً وَحَقّاً« (الإنجيل بحسب يوحنا 1:1 ، 14).
وإذا تأمّلنا في شخص المسيح من خلال الإنجيل، نرى أنّه لم يكن دعيّاً ولا
مختلساً حين قال »أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ« (الإنجيل بحسب يوحنّا 10:30).
»اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْآبَ« (الإنجيل بحسب يوحنّا 14:9).
»أَنِّي فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ« (الإنجيل بحسب يوحنّا 14:11). لأنّ
المسيح بأقواله وأعماله العجيبة برهن أنّه فعلاً »اللّهُ ظَهَرَ فِي
الْجَسَدِ« (1 تيموثاوس 3:16). وكذلك في الإنجيل شهادات مسجّلة للذين
عاشوا معه، وسمعوا تعليمه وشاهدوا عجائبه ورأوا مجده، فقد قال يوحنّا
»اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي
رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ
أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ
أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ
الْأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا« (1
يوحنّا 1:1 ، 2). »وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
هذَا هُوَ الْإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (1 يوحنّا
5:20). وقال بطرس »لِأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ
عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ
قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ« (2 بطرس 1:16). وقال بولس »الَّذِي
لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، الَّذِي هُوَ
صُورَةُ اللّهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ
فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ، مَا
يُرَى وَمَا لَا يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ
رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلَاطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي
هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ« (كولوسي 1: 14-17).
فهذه الشهادات وأمثالها كثير ممّا لا يتحدّث عن لاهوت المسيح وحسب، بل عن وجود الله، الذي أظهر هذا التجسّد بأفصح وأجمل أسلوب.
شهادة الاختبار الشخصيّ:
هذا هو أصدق دليل على وجود الله، فنحن لا نستطيع أن ننكر هذه الشهادة التي
تصدر من أعماق القلب. وكما قال ذلك الشابّ الذي وُلد أعمى، حين شفاه يسوع
»أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالْآنَ أُبْصِرُ«
(يوحنا 9:25). هكذا يقول كلّ إنسان وجد الله وعرفه كحقيقة قويّة دافعة في
اختباره الذاتيّ.
والتاريخ حمل إلينا شهادة الكثيرين في كلّ جيل وعصر ممّن عاشوا مع الله
واختبروا اختبارات حيّة قويّة ملموسة، لا يمكن أن توصف بأنّها تخيّلات أو
أضغاث أحلام. وإذا كان من الحماقة أن ينكر أحد شهادة المختبرين في شؤون
الحياة لأنّه لم يختبرها شخصيّاً، فكم بالحريّ تكون الحماقة أشدّ إن
أهملنا شهادة الملايين الذين عاشوا قبلنا أو يعيشون معنا والذين يشهدون
كلّ يوم عن عجائب أجراها الله معهم، وكانت سبباً في تغيير مجرى حياتهم،
وذلك نتيجة لإيمانهم وثقتهم في الله.
كان العالِم الشهير فراداي لا يؤمن بشيء قبل درسه وفحصه بدقّة. ولكن حين
سُئل وهو على فراش الموت إن كان يؤمن بالله والأبديّة والخلود، أجاب وقد
تألّقت على وجهه ابتسامة مشرقة »لستُ نائماً على وسادة تخمينات«. وفراداي
ليس إلاّ واحداً من أعلام الفكر الذين آمنوا بالله واختبروا عنايته وعاشوا
معه ورقدوا في حضن محبّته.
شهادة التاريخ:
قال كرمويل »ليس التاريخ إلاّ ظهور الله في قيام وسقوط الممالك«. الواقع
أنّه لو أحسن الناس قراءة التاريخ وتأمّلوا في أحداثه لأدركوا أنّ الله
فيها. وأنّ الشرّ قد يكسب معاركه الأولى إلاّ أنّه يخسر الحرب في النهاية.
حين تنظر ببصيرة المدقّق إلى الحضارات الغابرة والمدنيّات السالفة والأمم
الماضية وهي ترتفع حيناً وتنخفض حيناً آخر، لا بدّ أن تهتف مع دانيال
النبيّ »لِيَكُنِ اسْمُ اللّهِ مُبَارَكاً مِنَ الْأَزَلِ وَإِلَى
الْأَبَدِ، لِأَنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ وَالْجَبَرُوتَ. وَهُوَ يُغَيِّرُ
الْأَوْقَاتَ وَالْأَزْمِنَةَ. يَعْزِلُ مُلُوكاً وَيُنَصِّبُ مُلُوكاً.
يُعْطِي الْحُكَمَاءَ حِكْمَةً، وَيُعَلِّمُ الْعَارِفِينَ فَهْماً«
(دانيال 2:20 ، 21).
أجل! إنّ كلّ من يلاحظ تاريخ الجنس البشريّ يرى فيه ما يدعو إلى الاعتقاد
بوجود كائن عظيم ذي سلطان مطلق، يدير كلّ شؤون البشر وأعمالهم على ما
يوافق مشيئته ويؤول إلى إتمام مقاصده الفائقة، وذلك لما يُرى فيه من حوادث
وعِبَر واختراعات وانقلابات أدّت أخيراً إلى تقدّم البشر وارتقائهم، من
جيل إلى جيل في كل معارج المعيشة والتمدّن والمعرفة والبنيان الدينيّ..
ألا ترى في ذلك دليلاً قاطعاً على وجود مرشد حكيم، يهدي البشر إلى سبل
البرّ والفلاح بوسائط خاصّة سبق فعيّنها؟
شهادة العقل:
آمن جمهور من أهل العلم والفلسفة الأفاضل الذين نبغوا في هذا العصر وما
قبله من العصور الخالية، بوجود الله من خلال الأدلّة التي وردت آنفاً.
صحيح أنّ هذه الأدلّة ليست من الموادّ التي يمكن أن توزن بموازين البشر أو
أن تُفحص بالامتحانات المادّيّة المنظورة، بل هي أدلّة معقولة جدّاً،
لأنّها بُنيت على حقائق ظاهرة لعين الإنسان وعقله، نظير ما هو مدرك
بالحواسّ الخمس. فإنّ العقل السليم متى نظر إلى الكون وميّز ما فيه من
علامات النظام والقصد التي لا تُحصى، يحكم طبعاً بوجود علّة له، وأنّ تلك
العلّة عاقلة وحكيمة وقادرة على إيجاد ما يُرى فيه من الغرائب والبدائع.
لأنّ نسبة الكون وكلّ غرائبه وما فيه من كائنات حيّة إلى الطبيعة بدون
خالق، مخالف للعقل السليم، ولشهادة الطبيعة نفسها التي يصرخ لسان حالها
بأنّها مصنوعة لا صانعة. وَأنّ ما حوته من العناصر والحياة وغرائب التركيب
والنظام وخواصّ النموّ والتقدّم التدريجيّ إنّما هو صادر عن قوّة خارجيّة
ومستقلّة عنها. ولا ريب في أنّ هذه الأدلّة تجد قبولاً عند كلّ المؤمنين،
وأنّ كلّ واحد منهم متيقّن ومقتنع ومتمتّع بما له من الأدلّة اليقينيّة
على وجود الله. أوّلاً من الكون وما فيه من علامات القصد والقدرة والحكمة.
وثانياً من بنية الإنسان الأدبيّة والروحيّة ومن شهادة الضمير. وثالثاً من
الكتاب المقدّس وإعلان اللاهوت في شخص يسوع المسيح المتجسّد.
شهادة العلماء:
لقد جاء على الناس حين من الدهر ظنّ فيه البعض أنّ تقدّم العلم والاكتشاف
سيكسر شوكة الدين، وبالتالي سيهزّ الإيمان بوجود الله. ولكنّ رياح العلم
الصحيح جرت بما لا تشتهي سفن الإلحاد، فالعلم النزيه أتى بتأييدات وشهادات
جديدة في صالح الإيمان »المسلّم مرّة للقدّيسين«. وإليك طائفة من أقوال
العلماء التي تؤيّد الإيمان:
(ا)قال الدكتور كارل يونج، وهو أعظم الأطبّاء النفسيّين في كتابه (الرجل
العصريّ يبحث عن روح): »استشارني خلال الأعوام الثلاثين الماضية أشخاص من
مختلف شعوب العالم المتحضّرة، وعالجْتُ مئات المرضى، فلم أجد مشكلة من
مشكلات أولئك الذين بلغوا منتصف العمر إلاّ وكان سببها ضياع الإيمان
والخروج على تعاليم الدين. ويصحّ القول بأنّ كلّ واحد من هؤلاء المرضى وقع
فريسة المرض لأنّه حُرم سكينة النفس التي يوفّرها الإيمان بالله. ولم يبرأ
واحد منهم إلاّ حين استعاد إيمانه واستعان بوصايا الله ونواهيه على مواجهة
الحياة«.
(ب)قال العالم ديل كارنيجي، مدير معهد كارنيجي للعلاقات الإنسانيّة في
كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) » الإيمان بالله يمدّني بالثقة والأمل
والشجاعة، ويُقصي عنّي المخاوف والاكتئاب والقلق ويزّودني بأهداف وغايات
في الحياة، ويفسح أمامي آفاق السعادة، ويعينني على إنشاء واحة خصبة وسط
صحراء حياتي«.
(ج)قال الطبيب النفسانيّ المشهور الدكتور هنري لنك في كتابه (العودة إلى
الإيمان): »وضعت جمعيّة مساعدة العمّال في نيويورك 200 ألف دولاراً تحت
تصرّفي لمراقبة الدراسات الإحصائيّة المستخلصة لعشرة آلاف نفس ممّن أجري
عليهم 73226 اختباراً نفسيّاً. وسجّلتُ تقريراً شخصيّاً شاملاً لكلّ فرد
منهم. وفي هذا الوقت بالذات بدأ إدراكي للعقيدة الدينيّة بالنسبة لحياة
الإنسان، ووجدت من نفسي استعداداً لمضاهاة تجاربي السابقة على مرضاي
بالنتائج الباهرة التي أتت بها تلك الاختبارات العظيمة التي تولّيت
الاشراف عليها. وقد استخلصنا من هذه الاختبارات نتيجة هامّة، هي أنّ كلّ
من يؤمن بالله يتمتّع بشخصيّة أقوى وأفضل ممّن لا يؤمن بالله ولا يزاول
أيّة عبادة. وأنا مثلاً أؤمن بصدق رواية مولد الربّ يسوع، ولكن ليس تصديقي
هذا نتيجةً لمقارنة عقيدتي بغيرها من العقائد، ولكنّه إيمان خالص جاء في
أعقاب اهتدائي إلى المزايا الصحيحة في ديني، الذي سبق أن نبذته لمّا كنت
عاجزاً عن اكتشاف ما فيه من الخير«.
(د)قال الدكتور النفسيّ العلاّمة ا. بريل » أحدث العلوم، وهو الطبّ
النفسيّ، يبشّر بمبادئ الدين. أطبّاء النفس يدركون أنّ الإيمان بالله
والصلاة كفيلان بأن يقهرا القلق والمخاوف والتوتّر العصبيّ، وبأن يشفيا
أكثر من نِصف الأمراض التي نشكو منها. وقد تأكّد لديّ أنّ المؤمن حقّاً لا
يعاني قطّ مرضاً نفسيّاً«.
(ه)قال الفيلسوف فرانسيس بيكون: » قليل من الفلسفة يجنح بالعقل إلى
الإلحاد، ولكنّ التعمّق في الفلسفة خليق بأن يعود بالمرء إلى الإيمان
بالله«.
(و)قال الدكتور شارل مالك في كتابه (لماذا أؤمن بيسوع المسيح؟) »في العهد
القديم، الله يخلق ويختار ويعدّ ويرشد ويجرّب ويمتحن، وبالتدريج يعلن عن
نفسه وإرادته. وإذ تصغي إصغاءً تامّاً لهذا الإعلان، يتّضح لك مع الزمن
أنّ ما يعلن عنه من ذات وإرادة هو بالفعل موجود كما هو معلن عنه. هذه
الطبيعة الموجودة الثابتة الأكيدة هي الله الخالق«.
(ز)سُئل العالِم الفلكيّ الشهير لابلاس »لماذا لم يذكر الله في أبحاثه
الفلكيّة؟« فأجاب »لأنّني لم أجد حاجة إلى ذلك، لأنّ الله خلف كلّ بحث
تناولته أو أيّ رأي أبديته. الله خلف كلّ ظاهرة في الكون والطبيعة
والحياة«.
(ح)قال جونثان إدوردس الذي حُسب أعظم عقل بعد أرسطو »لقد بدا جلال الله
البارع في كلّ شيء: في الشمس والقمر والنجوم وفي الطبيعة كلّها. لقد خلقها
ليُظهر بواسطتها بعض أمجاده وعظمته. فحين نتأمّل في الروض النضير وفي
النسيم العليل، نرى إحساناته الحلوة وجوده الرقيق. وحين نرى الزهرة
الفوّاحة، أو الزنبقة العطرة، نرى محبّته وطهارته ونقاوته. وماذا أقول عن
الأفنان الخضراء التي هي انبثاق فرحه العظيم؟! وعن الأنهار البلّوريّة
المتدفّقة التي هي وقع أقدامه؟! وهل الشروق الورديّ، والشمس اللامعة،
والغروب الذهبيّ وقوس قزح، إلا ظلال آتية من مجده؟«.
(ط)قال عمّانوئيل كنْت: »من غير الممكن أن نتأمّل في صنع هذا العالم دون
أن نرى يد الله الطاهرة البارزة في كمال تناسقه. و حين يفكّر العقل ويؤخذ
بما فيه من روعة وجمال لا يملك إلا أن يشعر بالسخط على الجهالة التي
جَسُرت أن تنسب كلّ ما في الكون إلى محض المصادفة، لأنّ روائع هذا الكون
هي وليدة حكمة سامية عجيبة وضعت فكرته«.
نعم، إنّ هذا الانسجام المتبادل بين الكائنات يدلّ على وجود خالق ذي حكمة
فائقة استمدّت الطبيعة وجودها وتناسقها منه، وليس ثمّة ما يدعو إلى الظنّ
أنّ نشاط الطبيعة لا يتّفق مع وجود إله قادر على كلّ شيء.
(ي)قال اللورد كالفن الذي يُعدّ من أبرع علماء زمنه »إنّ العالم ليؤكّد
جازماً وجود الخالق، لأنّنا لا نحيا ونوجد بالمادّة الميّتة بل بالقوّة
الخالقة التي توجّه حياتنا والتي يفرض العلم علينا قبولها كموضوع
لإيماننا. ولا ريب في أنّنا نستطيع أن نعرف الله عن طريق أعماله. والعلم
يلزمنا أن نؤمن بيقين بوجود قوّة خالقة موجِّهة«.
(ك)عرف الأدميرال بيرد معنى ربط النفس بالقوّ ة العظمى المهيمنة على
الكون. ومعرفته تلك هي التي مكّنته من الخروج من المحنة القاسية التي
خاضها والتي روى أحداثها في كتابه (وحيد).
لقد قضى خمسة أشهر في كوخ مطمور بالثلج في المنطقة المتجمّدة الجنوبيّة.
كان العون الذي ينشده على بعد 123 ميلاً من مكانه. ولن يتسنّى لأحد أن يصل
إليه قبل مضيّ أشهر عديدة. كانت العواصف الثلجيّة الهوجاء تزأر في الخارج،
والظلام يضرب حول المكان نطاقاً موحشاً. وقد شعر بأنّه يتسمّم تدريجيّاً
بغاز أوّل أوكسيد الكربون المتصاعد من موقده. فحاول إصلاح الموقد وجهاز
التهوية ولكنّه لم يستطع. وأصابه من الوهن ما أعجزه عن الحركة وتناول
الطعام. وطالما استشعر بأنّه لن يأتي عليه اليوم التالي إلاّ وهو في عداد
الأموات. ولكن ما الذي أنقذ حياته؟ يخبرنا هو نفسه أنّه في غمرة اليأس
الذي غزا قلبه، تناول مذكّراته، وحاول أن يدوّن فلسفته في الحياة. فكتب
»ليس الجنس البشريّ وحيداً في هذا الكون« وكان وهو يكتب تلك العبارة يفكّر
في النجوم المنتشرة في السماء، وفي الكواكب والأَجْرام الدوّارة في
أفلاكها بدقّة ونظام، وفي الشمس التي لا تحرم شبراً من الأرض من نورها
ودفئها، والتي لن تلبث أن تشرق على تلك البقعة النائية الموحشة في أقصى
جنوب الأرض. وذلك الأحساس بأنّه ليس وحيداً أنقذ حياته. وإلهه الذي لن
يشكّ مطلقاً بعنايته أرسل أشعّة شمسه عليه على تلك البقعة، ممّا أتاح
لفرقة الإنقاذ الوصول إليه قبل فوات الأوان.
(ل)سُئل العالم وليم جيمس » لماذا يجب الإيمان بالله والاعتماد عليه وطلب
الأمان والسلام والأطمئنان؟«، فقال »إنّ أمواج المحيط الصاخبة المتقلّبة
لا تعكّر قطّ هدوء القاع العميق ولا تقلق أمنه. وكذلك المرء إذا عمّق
إيمانه بالله خليق بألاّ تعكّر طمأنينته التقلّبات السطحيّة الموقّتة.
فالرجل المؤمن حقّاً، عصِيٌ على القلق، محتفظ دائماً باتّزانه، مستعدّ
دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به ظروف الأيّام. فلماذا لا نتّجه إلى الله
إذا استشعرنا القلق؟ ولماذا لا نؤمن بالله ونحن في أشدّ الحاجة إلى هذا
الإيمان؟ ولماذا لا نربط أنفسنا بالقوّة العظمى المهيمنة على هذا الكون؟
وخلاصة القول في وجود الله، هي أنّنا نجد أنفسنا في كون عظيم جدّاً، نحن
جزء منه. وعقولنا تسأل دائماً: ما هو مصدر هذا الكون؟ وما هو القصد منه؟
وكيف يُحفَظ؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين نمضي؟ ولا يمكن الجواب على هذه
الأسئلة بدون التسليم بوجود كائن سرمديّ قادر على كلّ شيء، علّة العلل،
واجب الوجود، عاقل، حكيم، ذو إرادة وصفات أدبيّة، وإنّنا لنجد الأجوبة
فعلاً في قول الكتاب المقدّس »فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ. وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ
الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللّهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ«
(تكوبن 1:1 و2). (اقرأ سفر التكوين 1:3-24)