Skip to Content

الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين أنطونيوس و أثناسيوس - د. وهيب قزمان



 

 

الكتاب المقدس في فكر آباءنا القديسين

 

أنطونيوس وأثناسيوس[1]

 

 

د. وهيب قزمان

 

 

هل كان الكتاب
المقدس أداة في يد القديس أثناسيوس، كأي أداة يستلهمها الأديب أو الفنان في عمله؟ أم
أنه يا ترى كان يتغلغل في كل نسيج كتاباته وآليات فكره؟ فيمكن أن نلاحظ أن الكتاب كان
يتأصل في فكره وقلبه، قبل أن يتحول إلى وسيلة دفاعية في كتاباته. كان القديس أثناسيوس
الرسولي يعيش الكتاب فكرًا وقلبًا حقًا، وحين أقتضت الضرورة أن يصيغ فكره اللاهوتي
والكتابي، كان الكتاب سباقًا في تشكيل وتحديد معالم فكره، وصبغ التعليم اللاهوتي والأخلاقي
لديه[2].

 

 

 

كيف استخدم
أثناسيوس الكتاب المقدس؟

 

لا يمثل القديس
أثناسيوس النخبة الفكرية فقط، بل و"الأغلبية الصامتة" لمسيحيي  الأسكندرية، الذين وضعوا رجاءهم في خلاص المسيح،
دون أن يشغلوا بالهم بأي شيء آخر. أي أن القديس أثناسيوس كرّس اهتمامه كلاهوتي في الشأن
الكنسي والرعوي، أكثر منه في الجانب الجدلي والنظري.

 

    رغم أن القرن الرابع إشتهر بصراعاته الفكرية واللاهوتية
الحادة أحيانًا، والسياسية أحيانًا أخرى. لكن القارئ المدقق لنصوص القديس أثناسيوس
أو غيره من كُتاَّب تلك الفترة يجد تركيزًا من جانبهم على "إلتماس وجه الله"،
وإن تباينت الأسباب. ورغم تبوأهم لمراكز السلطة الكنسية، سواء كانوا أساقفة أم من المقربين
للقصر إلا أنهم وفي مجال الدولة والسياسة كان شغلهم الشاغل أيضًا، هو التماس وجه الله.
وذلك ما توضحه أحدث الدراسات في تفكيرهم الكتابي[3].

 

    كان الجدل حول الله، وبصفة خاصة حول علاقة يسوع
المسيح، الكلمة المتجسد بالله الآب. هذا الجدل كان جزءًا لا يتجزأ من سعي الآباء إلى
القداسة. والذي شمل العبادة الروحية والأخلاقيات المسيحية، والتعليم الصحيح. بل إن
المساهمة المتميزة للقديس أثناسيوس في هذا المجال، كانت في تحديده لما يُسمى
"بغاية الكتاب المقدس" وهدفه، بشكل ساعد على توضيح تلك العلاقة بين الكلمة
المتجسد والله الآب.

 

    وتكشف الدراسة أن هذه الغاية قد عبر عنها القديس
أثناسيوس بأشكال مختلفة، ليس فقط في كتاباته الرعائية، بل وفي باقي كتاباته الدفاعية
والعقيدية والتاريخية أيضًا. وجميعها توضح إهتمامه الأساسي بتجسد الله الكلمة لأجل
خلاص البشرية. إن نقطة البدء التي تفيدنا في مناقشة التراث الآبائي الحديث، إنما تتمثل
في مقالة نشرها عام 1959
T.E. Pollar[4] ، وفي ذلك الوقت جرت العادة
على تصنيف الكُتّاب المسيحيين الأوائل "الرمزيين"، ويقصد بهم الآباء الإسكندريين،
و "الحَرفيين" ويقصد بهم الآباء الإنطاكيين. وينصف "بولار" كلاً
من القديس أثناسيوس ومعارضيه الآريوسيين على أنهم حَرفْيون، في مقارنة مع المنهج الرمزي
في تفسير الكتاب المقدس.

 

    وقد كان الآريوسيون "حرفيين متطرفين"،
بينما يُقال عن القديس أثناسيوس، إنه أظهر في تفسيره تأثره بمدرسة الإسكندرية ذات التقليد
الرمزي.

 

 

 

مبادئ التفسير
الكتابي:

 

    لقد إتبع القديس أثناسيوس، وبشكل محدد وواضح،
المبادئ التفسيرية التالية:

 

    1ـ أساسية الكتاب المقدس. 2ـ الغاية من الكتاب.  3ـ عادة (έθος ) الكتاب.

 

    4ـ مفهوم (διανοια) الكتاب.  5ـ أسلوب الكتاب.    

 

    6ـ المضمون Context، أو سياق المعنى في الكتاب.

 

    ويوجز "بولار" قائلاً إنه "بطرح
هذه المبادئ في التفسير، وباستخدامها بعناية في نقده للتفسير "الإنتقائي عند الآريوسيين"،
كان القديس أثناسيوس قادرًا على توضيح أن الفكر اللاهوتي عند هؤلاء الآريوسيين لم يكن
كتابيًا. ويدعو "بولار" هذه المجموعة من المبادئ، طريقة القديس أثناسيوس
في التفسير، ويرى في "غاية" الكتاب المقدس مبدءًا مهمًا في علم التأويل عند
القديس اثناسيوس، وإن لم تكن عنصرًا حاكمًا في منهجه التفسيري.

 

    وبالنسبة لمبدأ أساسية الكتاب المقدس، فإن القديس
أثناسيوس يرى أسبقية التعليم الكتابي على المنطق الجدلي، مؤكدًا أن الكتاب المقدس يوفر
له دعمًا قويًا في طرحه لأسس العقيدة.

 

    ويجد الباحث عند قديسنا ما يؤكد سلطان الكتاب
المقدس والتقليد كمصادر للتعليم والعقيدة، ويرى فيها إستجابة من جانب القديس أثناسيوس
لجدل ما، كان قد نشأ فيما بعد.

 

    أما الكلمتان "معنى" و "عادة"
الكتاب المقدس، فهما ليستا باللفظتين المترادفتين بالضرورة عنده، أما كلمة "الأسلوب"
فربما كانت أقرب إلى كلمة "العادة". وأما المبدأ التفسيري الخاص بالمضمون
أو السياق، فهي طريقة مبسطة للإشارة إلى العديد من العناصر المرتبطة، والتي تمثل في
الحقيقة المبدأ الصريح الوحيد عند القديس أثناسيوس، في منهجه الخاص في التفسير. لكن
مقالة "بولار" وإن كانت لا تطرح علينا تلك المبادئ التفسيرية الواضحة المعالم،
إلا أنها رغم ذلك تشير إلى أسئلة ونصوص مهمة، وعناصر محتملة لمنهج تفسيري محدد للقديس
أثناسيوس.

 

    ومن الأعمال المتميزة الكبيرة الأهمية رسالة الدكتوراه
حول تفسير القديس أثناسيوس للكتاب المقدس، الصادرة عام 1968 للباحث سيبن
H.Sieben حول إستخدام
أثناسيوس للمزامير[5]، وقد يتعجب المرء لعدم الإهتمام الكافي بهذه الرسالة، والتي تضم
خمسة أجزاء. الثالث منها فقط والمعنون بالألمانية "المزامير النبوية"، هو
الذي يعتمد بشكل كامل على التفسير. وذلك لأن هذه الرسالة لم تنشر، فكان من الصعب الوصول
إليها ويعلن الباحث أن الإشكالية الكبرى التي تواجه الدراسات القديمة التي تناقش رأى
القديس أثناسيوس حول الكتاب المقدس، كانت تتمثل إما في أن الباحثين كانوا يهتمون فقط
بكتاباته العقيدية أو أنهم كانوا يكتفون بوصف تفسيره بأنه رمزي أو حَرفْي، أسكندري
أو أنطاكي.

 

    ويشير الباحث إلى أن الحاجة ماسة إلى معرفة المجالات
المختلفة التي كان القديس أثناسيوس يكتب عنها حول الكتاب المقدس، فيما يخص العلاقة
العضوية بينها. فهل هي ببساطة: مجرد تصنيفها عقيدية أم دفاعية أو تفسيرية أو وعظية،
وهو ما يراه سيبن بحسب وجهة نظره إجراءً غير شافٍ أو مقنع في الدراسة، ولأن الكتابات
العقيدية قد تجعل الاستخدام النماذجي (المثالي)
Typology في العهد القديم يبدو ثانويًا في كتابات أخرى. ويقول
إنه من الأفضل أن نركز ليس على الكتابات التي تصادف أنها كانت متواترة، بل على شخص
القديس أثناسيوس التاريخي، لأن الكتابات العقيدية كانت إستجابات أو ردود أفعال، أثناء
الجدل الآريوسي. فهي حتى إن شغلت مكانًا متميزًا في الأدب الآبائي المعروف لقديسنا،
إلا إنها لم تستغرق إلا وقتًا قليلاً من حياته كأسقف.

 

 

 

الكتاب المقدس
في حياة القديس انطونيوس:

 

    وحينما أراد الباحث "سيبن" أن يختار
تفسير المزامير للقديس أثناسيوس كنموذج من أسفار الكتاب المقدس، لكي يتبع خطى كتاباته،
وكانت غايته في دراسته أن يبرز هذا الدور الذي يلعبه الكتاب المقدس، ليس كثيرًا في
فكر أثناسيوس اللاهوتي، مثلما هو الحال في حياته وعالمه الروحي والرعوي، ولكنه فضَّل
أن يبدأ باستخدام الكتاب المقدس في كتاب "حياة القديس أنطونيوس" (الجزء الأول
من رسالة الدكتوراه)، ثم ينتقل إلى "الرسالة إلى مارسلينوس" حول تفسير المزامير
(الجزء الثاني)، وتفسير المزامير (الجزء الثالث)، والكتابات العقائدية (الجزء الرابع)،
وأخيرًا {الرسائل الفصحية} (الجزء الخامس).

 

    يقول "سيبن" إن القديس أثناسيوس قد
اشتهر بأنه بطل العقيدة، وكان إستخدامه للكتاب المقدس، والذي أنتقل إلينا في أعماله،
ذا طبيعة عقيدية بالأساس. ولكن علينا أن نميز بين استخدامه للكتاب المقدس في المجادلات
العقائدية، والذي فُرض على القديس أثناسيوس لظروف تاريخية معينة، وذلك الإنخراط التلقائي
لفهم ودراسة الكتاب المقدس، الذي نما بدافع من تقواه الشخصية، وآرائه في العالم المحيط
به.

 

    أما اختيار الباحث لكتاب "حياة أنطونيوس"،
كنقطة البدء في دراسته، فقد تأسس على إفتراض أن هذا العمل، الذي يرسم ملامح حياة القديس
أنطونيوس بوجه عام، وعلاقته بالكتاب المقدس بوجه خاص، يعكس وبمنتهى الدقة المواقف والمبادئ
الشخصية للقديس أثناسيوس نفسه، بالنسبة للكتاب المقدس.     

 

    صحيح أن حياة القديس أنطونيوس، وإن كانت لا تحتوي
على إشارات صريحة لطبيعة وتفسير الكتاب المقدس، لكن يمكن لنا أن نلمح في هذه الحياة
منهج القديس أثناسيوس في الاقتراب من الكتاب، والنابع من الأنثروبولوجيا اللاهوتية
عنده، أي سيرة حياة إنسان بصورتها الإلهية، متمثلة بشكل نموذجي في حياة أشهر الرهبان
في العالم[6]. وفي حياة القديس أنطونيوس نرى القديس أثناسيوس راعيًا بالأساس، أكثر
منه لاهوتيًا.

 

    ويبدأ الباحث تورانس في مناقشة ملاحظة هرناك:
أن القديس أثناسيوس يهتم بالتعليم الإسكندري عن اللوغوس، خاصة ذلك التعليم الفلسفي
التقليدي، فبدلاً من أن يفسر علاقة الإبن من خلال مفهوم اللوغوس، كان يرى المسيح الكلمة
وبشكل أساسي في ضوء مفاهيم لغة الكتاب المقدس، التي تركز على علاقة الآب بالابن، فالابن
هو الابن الوحيد للآب، وواحد معه في الجوهر (
Homo ousios).

 

    إن علاقة الآب بالابن بحسب المفهوم الكتابي، وقد
أصبحت بدورها المبدأ الذي يجب أن نفسر على ضوئه الكتاب المقدس. ويرفض ق. أثناسيوس أيضًا
ذلك التمييز الأفلاطوني بين عالم الإدراك الحسي، وعالم المعرفة، والذي أتخذه العلامة
أوريجينوس أساسًا لتفسيره الرمزي. أما القديس أثناسيوس فقد أبقى على التفسير النماذجي،
ولكن هذا وبحسب رأي تورانس كان التفسير المقابل للتفسير "الرمزي". لأن كلاً
من المِثال وضده إنما هي أعمال الله في التاريخ[7].

 

 

 

التفسير الصحيح
للكتاب المقدس:

 

    إن التفسير الصحيح للكتاب المقدس ممكن فقط حين
يُميز المفسر تلك العلاقة بين كلمات الكتاب المقدس، والكلمة اللوغوس الناطق فيها. هكذا
نرى في تجسد الله الكلمة، والذي ندركه كعمل الله الخلاصي، المفتاح لكل هذه المعضلات،
من ثم فإن التفسير يكون صحيحًا ودقيقًا حين يتبع ما يلي:

 

    1ـ يحافظ على غاية الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس.

 

    2ـ يحترم الطبيعة التدبيرية (economical) لأعمال الله وكلماته.

 

    3ـ يحافظ على العلاقة بين معاني كلمات الكتاب
المقدس وعباراته، حتى تفي بالغرض من تفسيرها.

 

    4ـ فحص العبارات والتدليل عليها، وفقًا لقاعدة
الإيمان، التي تنشأ عن فهم الكنيسة للكرازة (
The Kerygma)، كما إنتقلت إلينا، بواسطة الكتابات الرسولية[8].

 

    وهنا الاستنتاج، يأخذ في الإعتبار غاية الكتاب
المقدس، ثم الطبيعة التدبيرية (إيكونوميا) للعبارات الكتابية، وأخيرًا طريقة تفسير
الكتاب المقدس. إن مناقشة غاية الكتاب تعتمد بشكل أساسي على النصوص وثيقة الصلة في
"المقالة الثالثة ضد الآريوسيين"، لكنها تتوفر أيضًا عبر كل كتابات ق. أثناسيوس
وعند الإنتقال من غاية الكتاب إلى "غاية الإيمان" أو العقيدة، فإن الباحث
يؤكد أن الغاية الموضوعية من الكتاب المقدس هي المسيح نفسه.

 

 

 

الأمثلة الكتابية:

 

    ويكمل تورانس تعليقه هذا بقوله: "إن الكرازة
الرسولية لا يمكن اختزالها في كلمات، بل يجب النظر إليها على أنها قبول شخص المسيح
نفسه بالإيمان، من ثم فإن تفسير الكتب المقدسة، بحسب التسليم يعني فهمها في سياق حياة
الإيمان الذي تعيشه جماعة المؤمنين[9].

 

    ولأن الكتاب يتحدث عن الله، الذي لا يمكن فهمه
على نفس مستوى فهمنا للبشر، فإن لغته هي بالضرورة لغة رمزية، ومن ثم يستخدم الكتاب
ما يعرف بالأمثلة
Παραδεγματα، ويقول الباحث إن القديس أثناسيوس يستخدم الكلمة ببساطة، ولا يتبع
في إستخدامها لا تقنية البناء اللفظي، ولا الميتافزيقا الأفلاطونية.

 

    إن الإشارة إلى ملمح ما من ملامح العالم المادي
المنظور، وإتخاذه كوسيلة. أي أن الكتاب المقدس لا يُفسر بالأسلوب البياني ولا بالفلسفة،
بل بأعمال الله التدبيرية، التي يوضحها بالنماذج والأمثلة في تاريخ الخلاص البشري للإشارة
إلى شيء سماوي، لا يمكن اختزاله في كلمات، أو إلى واقع إلهي غير مدرك، إذًا ما أردنا
أن نعكس مجد الله الذي نعجز تمامًا عن معاينته.

 

    هكذا فإن العلاقة بين الشمس والشعاع، والنبع والنهر
والجوهر والتعبير هي مجرد مؤشرات، ولكنها ذات قيمة لأنها ليست إختراعات بشرية، بل إنها
معطاة لنا بالإستعلان، ومتأصلة في أعمال الله الحقيقية. ومع ذلك فهي لا تزال مجرد أمثلة،
لا ينبغي أن نركز عليها كثيرًا. فهي "مجرد أمثلة أو نماذج، يمكن بواسطتها أن نصور
بعض الملامح". وفي الحقيقة وعند نقطة معينة لابد أن نتجاوزها إلى الإدراك غير
التخيلي للمفاهيم الأصلية التي تمثلها، ولكنها تُشكل فعلاً الأساس للمحاكاة البشرية
لله (الغير المرئي والغير الموصوف). لكن التوازي بين الله والبشر، حيث تقوم الأمثلة
الكتابية بتوضيح معالم الطريق للبشر، ليتبعوها، إنما هو وبالكامل نتاج التدبير الإلهي
للنعمة (الإيكونوميا). أي تدبير الخلاص كله بوجه عام، والتجسد بوجه خاص[10].

 

    إن حقيقة التجسد الإلهي، وخاصة ذلك الإتحاد الذي
لا ينفصم بين الطبيعة البشرية للإبن (الناسوت)، واللاهوت، إنما هي ضمان لكي ندرك أن
التصوير الكتابي ليس خياليًا، بل هو مؤشر أمين وصادق لواقع إلهي. ويعتقد "تورانس"
أن "التفسير المنهجي
Tpottological  للإنجيل" في فترة ما
قبل ق. أثناسيوس في التقليد الأسكندري قد أخفق في التقدير الكافي لحقيقة هذا الإتحاد
الذي لا ينفصل.

 

    أما التفسير عند ق. أثناسيوس ـ من جهة أخرى ـ
فكان يتأرجح بين طرفي النقيض: إما أن يطرح الأمثلة الكتابية
Παραδε



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +