الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبداً لِلخَطيئَة (يو 8 /34)
مقالة الإنجيل والصليب - للأب متى المسكين
الإنجيل و الصليب
للأب متى المسكين
الإنجيل، أيها الأحباء، يعني الخبر المفرح، فهو خبر الخلاص. والخلاص هو الفداء بدم المسيح على الصليب. أي أن الإنجيل هو خبر الصليب المفرح.
لا يمكن أن يكون الإنجيل إنجيلاً بدون الصليب. وبمنتهى الوضوح والاختصار، الصليب هو سَفْك دم ابن الله، بروح أزلي.
فالدم هو الحياة، كما يقول العهد القديم (لا 17: 14)، وكما يقول علم الطب الحديث أيضاً. فالمسيح سكب حياته عِوَض كل ميت، وأخطر موت هو الموت بالخطايا والذنوب.
يقول القديس يوحنا الرسول بالروح في سفر الرؤيا، شاهداً بالمسيح الحي الكائن والذي كان والذي يأتي، أنه رآه بصورة متصلة عَبْرَ كل الأزمنة أنه: ?الخروف الذي ذُبح منذ تأسيس العالم? (انظر رؤ 13: 8)،
أي حالة مقضيٌّ بها؛ و«كخروف قائم كأنه مذبوح»
(رؤ 5: 6)،
أي حالة دائمة؛ «وسأعطي لشاهديَّ فيتنبَّآن... وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظيمة... ومصر حيث صُلِبَ ربنا أيضاً» (رؤ 11: 8،3).
وهنا إشارة على أول رمز عملي للمسيح المصلوب، وهو خروف الفصح الأول، والفصح هو العبور من الموت إلى الحياة.
أما الصدى لهذا القول الفائق على الزمن فهو كامن في قول يوحنا المعمدان عن المسيح بالرؤيا المتجاوزة لكل الزمان:
«هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29). ثم يعود يوحنا الرائي، ليرى المسيح ينضح بدمه على خطايا البشرية، حتى بعد قيامته من بين الأموات، ليجعلهم لا أطهاراً فحسب، بل أيضاً ليرفع رتبتهم إلى ملوكيته، وإلى كهنوته الإلهي:
«يسوع المسيح، الشاهد الأمين، البكر من الأموات، ورئيس ملوك الأرض. الذي أحبنا، وقد غسَّلَنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين» (رؤ 1: 6،5).
غسلنا بالدم، أي عمَّدنا بالحياة والروح القدس، لأن الدم هو الحياة!!
ولكن يرتفع القديس بولس الرسول في سفر العبرانيين إلى مستوى رؤيا يوحنا اللاهوتي، الذي رأى المسيح حملاً مذبوحاً منذ تأسيس العالم، في مشورة الله القدير، لخلاصٍ تحتَّم أن يتم في زمانه ومكانه هكذا:
+ «فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم (هذه هي أحزان الله التي طالما عبَّر عنها العهد القديم على مدى كل أسفاره، والتي لم يلطِّفها دم تيوس أو عجول أو آلاف الذبائح على مدى مئات السنين).
ولكنه الآن قد أُظهِرَ مرة، عند انقضاء الدهور، ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه (يُبطِل أثرها فينا ولدى الله أبيه).
وكما وُضِعَ للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضاً، بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية (ليس بسبب الخطية) للخلاص للذين ينتظرونه» (عب 9: 26 - 28).
لهذا يقول سفر العبرانيين إن السماء كانت تتلهف لدخوله ظافراً، حاملاً فداء البشرية: «ليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس؛ فوجد فداءً أبدياً» (عب 9: 12).
لنا ثقة للدخول إلى الأقداس بدمه:
ويشدِّد سفر العبرانيين أن الدم الذي سلَّمه المسيح للآب، باعتباره ذبيحته عن البشرية، كان له القوَّة والسلطان، لا أن يغفر الخطايا ويُصالح فحسب، بل وأن يُطهِّر الضمير من وجع الخطية المميت للضمير:
«فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب، يُطهِّر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي (كأخصاء عِوَض أعداء، كأحباء عِوَض منبوذين)» (عب 9: 14).
ثم ليس جزافاً ولا عبثاً يقرر يوحنا المعمدان أنَّ «هوذا حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)؛
هنا خطية العالم بوضعها الشمولي على مدى الزمان والمكان، الأمر الذي حدده يوحنا الرائي بصورة شمولية أعم بقوله: «ذُبح قبل تأسيس العالم»،
أي قبل أن يكون إنسان، وقبل أن تُعرف خطية. هنا ذبيحة المسيح الكفَّارية داخلة أساساً وضمناً في خطة الله ليُبطل خطية الخليقة من ألفها إلى يائها.
لذلك يقول سفر العبرانيين مثبتاً هذه العمومية والشمولية، معتبراً الخطية، مهما كثرت وتناهت، فهي خطية واحدة: «يسوع... نراه مكلَّلاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت، لكي يذوق، بنعمة الله، الموت لأجل كل واحد»، «فبعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله» (عب 2: 9، 10: 12).
لذلك، هنا يليق بنا أن نذرف الدمع، ونسكب أنفسنا بالحزن والصلاة من أجل أي إنسان في العالم يخيب من نعمة الله هذه ولا ينال نصيبه من دم الفداء المجاني؛ كما يقول سفر العبرانيين (2: 3):
«كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره»، وقوله أيضاً في (3: 12):
«انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير، بعدم إيمان، في الارتداد عن الله الحي».
هنا يتضح لكم سر التجسُّد، لماذا أخذ ابن الله جسداً كجسدنا، ولحماً ودماً مثلنا، يمكن أن يُسفك ويموت!! يقول سفر العبرانيين:
«فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما؛ لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس» (عب 2: 14).
وإمعاناً في جعل دم المسيح ليس وقفاً على أحد، صار سفك دم المسيح خارجَ أورشليم، إعلاناً أبدياً أن دمه ليس وقفاً على أحد، بل هو مِلْك لكل مَنْ ليس له إقامة:
«لأنه ليس لنا هنا مدينة باقية!!... لذلك يسوع أيضاً لكي يقدِّس الشعب بدم نفسه، تألم خارج الباب» (عب 13: 12،14).
ويُصِرُّ سفر العبرانيين ليضع الصليب مركز الأساس للإنجيل، كما يُعطي دم المسيح صفة العهد الأبدي الذي لا يُمحى ولا يُنسَخ ولا يضعف، حتى نهاية الدنيا:
+ «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع، بدم العهد الأبدي، ليُكمِّلكم في كل عمل صالح لتصنعوا مشيئته، عاملاً فيكم ما يُرضِي أمامه بيسوع المسيح» (عب 13: 21،20).
+ «لأنه بقربانٍ واحد قد أَكْمَل إلى الأبد المقدَّسين، ويشهد لنا الروح القدس أيضاً» (عب 10: 15،14).
+ «فتفكَّروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومةً لنفسه مثل هذه لئلا تَكِلُّوا وتخوروا في نفوسكم... ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهيناً بالخزي، فجلس في يمين عرش الله» (عب 12: 2،3).
+ «بل قد أتيتم... إلى وسيط العهد الجديد، يسوع، وإلى دم رش يتكلَّم أفضل من هابيل» (عب 12: 24،22).
وكذلك يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية:
+ «الذي أُسلِمَ من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا» (رو 4: 25).
+ «الذي قدَّمه الله كفَّارة بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة» (رو 3: 25).
+ «لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرَّة واحدة ... عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه، ليُبطَلَ جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبدُ أيضاً للخطية»
(رو 6: 6،10).
+ «الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء» (رو 8: 32).
الإنجيل ومركز الصليب فيه:
+ «وأُعرِّفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشَّرتكم به، وقبلتموه، وتقومون فيه، وبه أيضاً تخلصون، إن كنتم تذكرون أي كلام بشَّرتكم به، إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثاً! فإنني سلَّمتُ إليكم في الأول ما قَبـِلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر.
وبعد ذلك ظهر لأكثر من خمس مئة أخ ... وبعد ذلك ظهر ليعقوب، ثم للرسل أجمعين، وآخر الكل، كأنه للسِّقْط، ظهر لي أنا» (1كو 15: 1-8).
+ «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح» (غل 6: 14).
+ «بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح» (1بط 1: 2).
+ «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا، فنحيا للبر» (1بط 2: 24).
+ «فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل خطايانا، البار من أجل الأَثمة، لكي يقرِّبنا إلى الله، مُماتاً في الجسد، ولكن مُحْييً في الروح» (1بط 3: 18).
+ «عالمين أنكم افتُديتم، لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلَّدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حَمَلٍ بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم» (1بط 1: 18-20).
+ «فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية ... وهو كفَّارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً»
(1يو 1: 7؛ 2: 2).
+ «(الآن) لنا شفيعٌ عند الآب يسوع المسيح البار» (1يو 2: 1).
+ «لأنكم قد اشتُريتم بثمن، فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله» (1كو 6: 20).
+ «قد اشتُريتم بثمن، فلا تصيروا عبيداً للناس (أي أن شراء دم المسيح لنا = حرية)» (1كو 7: 23).
الدم فيه الحياة. المسيح سكب حياته على الصليب، عِوَض كل ميت. لقد اشترى كل قتلى الخطية، واستعاد لنا الحياة في الله عِوَض الموت في الخطية: «ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8).
+ «لأنك ذُبحت، واشتريتنا لله بدمك (بحياتك)، من كل قبيلة ولسان وشعب وأُمة» (رؤ 5: 9).
+ «نحن نكرز بالمسيح مصلوباً (?حالة كائنة: لا نعرف المسيح إلا مصلوباً ومُقاماً?)» (1كو 1: 23).
+ «لأن فصحنا أيضاً المسيح (عبورنا من العبودية إلى المجد) قد ذُبح لأجلنا (?ذبيحة عبور?)» (1كو 5: 7).
+ «لنا ... ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حياً، بالحجاب، أي جسده»
(عب 10: 20،19).
+ «أحبنا المسيح أيضاً، وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً، وذبيحة لله، رائحة طيبة (ذبيحة سرور، ذبيحة استرضاء وجه الله لقبول مسرته عِوَض الغضب)» (أف 5: 2).
+ «لأنه فيه سُرَّ أن يحلَّ كل الملء، وأن يُصالح (الله) به الكل لنفسه؛ عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته ... قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت، ليُحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه، إن ثبتم على الإيمان» (كو 1: 19-23).
+ «لأنه يوجد إلهٌ واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه (فدية) لأجل الجميع» (1تي 2: 6،5).
+ «الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي يفدينا من كل إثم، ويُطهِّر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة» (تي 2: 14).
+ «لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، (من أجل ذلك وبناءً عليه) فكذلك الراقدون بيسوع سيُحضرهم الله أيضاً معه» (1تس 4: 14).
+ «الذي مات لأجلنا، حتى إذا سهرنا («أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة» مت 26: 40)، أو نمنا («ناموا الآن واستريحوا» مت 26: 45)، نحيا جميعاً معه. لذلك عزُّوا بعضكم بعضاً وابنوا أحدكم الآخر» (1تس 5: 11،10).
+ «لأن المسيح، إذ كُنَّا بعد ضعفاء، مات في الوقت المُعيَّن لأجل الفُجَّار...
الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة، مات المسيح لأجلنا ...
ونحن متبرِّرون الآن بدمه، نخلص به من الغضب.
لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صُولحنا مع الله بموت ابنه!! فبالأولى كثيراً ونحن مُصالحَون، نخلُص بحياته»
(رو 5: 6-10).
وجهان للصليب في الإنجيل:
فإذا راجع القارئ كل الآيات السابقة بإمعان، يجد أن الصليب يرافقه دائماً وجه مُحزن، كله عار وخزي، انعكس على الدنيا وقت الساعة السادسة إلى التاسعة سواداً مُقبضاً.
وهذا الوجه هو المقابل والمساوي بكل دقة للخطية التي اقترفها الإنسان، ويقترفها كل يوم، من نجاسة وزنا بالنية، بالعين، في القلب، أو بالفعل في الجسد، وهذا يساوي ذاك؛ أو من رشوة وكذب وتـزوير وشهادة زور؛ أو ظلم وعداوة وتجبُّر وامتهان الآخرين
أو تسيُّب وتجديف وسرقة هياكل. هذه هي صنوف من الخطية التي أوجبت الصليب، فالتزم المسيح أن يلبسها كثوب من الخزي ويتراءى بها أمام العالم والله.
أما الوجه الآخر الملازم أيضاً للصليب، فهو وجه السرور المفرط، القائم في المصالحة مع الله، وخلع كل نجاسات الضمير والجسد، ورفع كل حكم ودينونة، بل وغسل الضمير والجسد، لبلوغ حالة براءة كاملة
وتبرير حقيقي، يقف بها الخاطئ المُمسك بالصليب أمام الله وكأنه بلا لوم، مرتدياً ثوب الخلاص، أبيض كالنور، في بهجة وتهليل، وعلى رأسه إكليل أبدي، وعلى لسانه أنشودة الظفر.
أما الذي يحتقر الوجه المخزي للصليب، فليس له نصيب في وجه البر، لأنه سيظل مستعبداً تحت حكم الخطية.
لذلك صار الإنجيل هو الخبر السار للخاطئ، والصليب افتخاراً.
من كتاب: ”مع المسيح في آلامه حتى الصليب“، الطبعة الخامسة 1987، ص 272-