Skip to Content

مقالة الصعود إلى أورشليم السماويّة - الأرشمندريت توما (بيطار)



 

 

الصعود إلى أورشليم السماويّة

 

الأرشمندريت توما بيطار

 

 

 

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

 

       "وأخذ يسوع تلاميذه الاثني عشر وقال لهم:
هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم
".

      يسوع وتلاميذه في حركة دائمة. لذلك كل مَن أراد
أن يكون عشيراً ليسوع كان عليه أن يتحرّك صُعُداً إلى أورشليم. طالما نحن في هذا الجسد
فلا مجال للتوقّف ولا مجال للإقامة في هذه الدنيا.

نحن ليست
لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية. يسوع كان في حركة صعود دائمة، لذلك علينا نحن
أيضاً أن نكون نظيره في وضع الصعود الدائم إلى لا أورشليم الأرضيّة بل إلى أورشليم
السماويّة.

أورشليم الأرضيّة
تحوّلت إلى رمز لهذا الدهر، أمّا يسوع فيريدنا دائماً أن نصعد إلى الدهر الآتي، إلى
الملكوت.

ثمّ إنّ يسوع في صعوده إلى أورشليم أنبأ تلاميذه
بأنّ كل ما كُتب عنه بالأنبياء سوف يجد تماماً له. يسوع سيُسلَم إلى الأمم ويُهزأ به
ويُشتَم ويُبصَق عليه، ثمّ يُجلَد ويُقتَل، ولكنّه يقوم في اليوم الثالث. إذاً، يسوع
في صعوده إلى أبيه السماوي سوف يعاني الصليب، لن تكون له كرامة، سوف يُضطهَد وسوف يُقتَل.

تلاميذ الربّ
يسوع سوف يعانون المصير نفسه، سيكونون في العالم بلا كرامة وسيُضطهَدون حتى من أقرب
الأقرباء. حتى نفوسهم سوف تضطهِدهم، أهواؤهم سوف تضطهِدهم. كل ما فيهم وكل ما في العالم
سوف يقف في وجههم، سوف يحاول أن يمنعهم من أن يصعدوا إلى أورشليم. روح العالم الذي
هو روح الخبيث الذي هو الشيطان لن يترك خدعة ولا أسلوباً لإفشال التلاميذ في صعودهم
إلى أورشليم إلاّ ويسلك فيه.

إذاً، مَن
أراد أن يكون عشيراً ليسوع، عليه أن يعرف أنّه ليس تلميذٌ أفضل من معلّمه. إن كانوا
قد اضطهدوني فسيضطهِدونكم أنتم أيضاً. أهلنا يضطهِدوننا، جيراننا يضطهِدوننا، أصدقاؤنا
يضطهِدوننا. للشيطان عملاء كثيرون في هذا الدهر، حتى إنّ له في كل نفْس أكثر من عميل.

الأهواء التي
فينا متحالفة علينا مع الشيطان، من أجل أن تُفسِد علينا صعودنا إلى السماء. فلا عَجَب
إنْ قال الربّ يسوع لتلاميذه:

"أن أراد أحد أن يتبعني فليحمل صليبه ويأتِ
ورائي
".

الصليب من
أجل المسيح هو العلامة أنّنا في الطريق القويم، وهو الضمانة أنّنا سوف نصل بنعمة الله
إلى أورشليم العلويّة. المهم ألاّ يعتبر أحد منّا أنّ الصعود إلى فوق أمر سهل.
"
أعطِ دماً وخذ روحاً".

قبل أن يصعد
الربّ يسوع إلى أبيه بذل دمه. وهو بذل دمه لأنّه أحبّ الآب، لأنّه كان والآب واحد.
علاقتنا بيسوع هي على صورة علاقة يسوع بأبيه السماوي. وما كابده يسوع في صعوده إلى
أبيه لا بدّ أن نكابده نحن أيضاً في صعودنا إلى المنازل التي وعَدَنا يسوع بها.

"في بيت أبي منازل كثيرة، وأنا أذهب وأُعدّ
لكم مكاناً
".

الإنسان في وضع الصعود يكون في وضع التعب والشقاء.
ولكن الله يُرسل ملاكه في الوقت المناسب. في التجربة التي كابدها في البستان. الله
يُرسل ملاكه يشدِّدنا ويشجِّعنا حتى نستمرّ في الصعود، إلى أن نبلغ الى المنتهى. كل
المحاولات التي تُبذَل لجعل المسير الصليبيّ مسيراً مجمَّلاً بجمالات هذا الدهر، كل
هذه محاولات شرّيرة. مَن أراد أن يسلك في إثر السيّد كان عليه أن يعرف، من أوّل الطريق،
أنّه ذاهب كلّ يوم وراء السيّد في صعوده إلى أورشليم العلويّة ليموت.

لهذا السبب
أُعطيت لنا الوصيّة الإلهيّة لكي نتبيَّن معالم درب الصليب. الصبر موت، ولكن يسوع قال:
مَن يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص. الاتضاع موت، لكن يسوع أعطانا نفسه نموذجاً للاتضاع
لمّا قال:

"تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب".

أن يتخلّى
الإنسان عن رأيه وعن مشيئته وأن يسلك في الطاعة موت، ولكن يسوع أعطانا نفسه مثالاً
صالحاً لمّا قال لأبيه: "
إذا أمكن أزح عنّي هذه الكأس، ولكن لتكن
لا مشيئتي بل مشيئتك
".
السلوك في الحقّ موت. الإنسان يؤثر أن يسلك في الباطل، لأن هذا ينسجم بصورة أفضل مع
خطيئته. ولكن يسوع قدّم لنا نفسه باعتباره هو الحقّ.

وكل مَن أراد
أن يسلك في إثره كان عليه أن يكون سالكاً في الحقّ. كلّ وصيّة هي، في الحقيقة، للموت،
لموت الإنسان العتيق الذي فينا. كل وصيّة مستحيل علينا أن نسلك فيها إذا لم نكن مستعدّين
لأن نبذل دماً.

لذلك، سلوكنا
في إثر يسوع هو التزام للتعب والشقاء من أجل يسوع كل أيّام حياتنا. نحن لم نُعطَ في
كنيسة المسيح أن نكون في الراحة. طالما نحن ههنا، نحن ههنا في التعب.

وما يزوِّدنا
به روح الربّ هو بقصد أن نتشدّد حتى لا نستسلم، حتى نستمرّ في الصعود. يعطينا الكثير
والقليل، يهتمّ بتفاصيل أمورنا، يَروينا متى بلغنا حدّاً من العطش لا يعود في طاقتنا
معه أن نعين أنفسنا، ساعتئذ هو يعيننا. يطعمنا أيضاً، يقدِّم لنا كل ما نحتاج إليه
في الوقت المناسب. ولكن هذا فقط إذا كنّا مستعدّين لأن نستنفد أنفسنا في مسيرنا إلى
وجهه تعالى. شيمتنا التعب ههنا.

المؤمن بيسوع،
منذ معموديّته، يعتمد لموت السيّد قبل أن يعتمد لقيامته، يموت معه لكي يقوم معه. والضيقات
التي نكابد هي البَرَكات التي نحظى بها لأنّنا نتضايق من أجل يسوع.

ليس أجمل
عند الله من أن يتعب أحد من أجله. في العالم الناس يتعبون من أجل أنفسهم، لذلك يُلاقون
أجرهم من العالم. أمّا الذين يتعبون من أجل الله فلهم ثواب عظيم عند الله. التلاميذ
عندما ضُربوا في سِفْر أعمال الرسل خرجوا فرحين متهلِّلين، لأنّهم حُسبوا مستأهلين
لأن يُهانوا من أجل اسم الله القدّوس.

يا إخوة، إذا كنا نتعب نحن في الحياة المسيحيّة
قليلاً أو كثيراً، فلنعلَم أنّ هذا التعب هو من أجل يسوع. عندما نعين أخاً أو أختاً
مقصِّرة ومتعَبَة في عملها، فإنّنا نعين يسوع فيها. تعبنا، إذ ذاك، ينال أجراً عظيماً
عند الله. مبارَك الإنسان الذي يبادر في الحياة المسيحيّة إلى التخفيف عن إخوته، إلى
بذل نفسه من أجلهم.

هؤلاء الإخوة
والأخوات هم العلامة المنظورة لحضور الله غير المنظور ولكن الدائم. إذا كان كأس ماء
بارد نقدِّمه لعطشان لا يضيع أجرنا عليه عند الله، فتأمّلوا مقدار ما يمكن أن يجمعه
الواحد منّا من بَرَكات عند الله إذا التزم إخوته وإذا التزم التعب على كل صعيد من
أجل يسوع، في الصلاة، في الصوم، في الطاعة، في قطع المشيئة، في قطع الثرثرة، في قطع
الغضب، في الانكسار.

هذا يجمع
لنفسه كنوزاً عظيمة تُدَّخَر له في المخازن السماويّة حيث لا سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب
سارقون ولا يسرقون.

حتى الفكر الصالح، إذا ما كنا عاجزين عن القيام
بعمل صالح، يُسجَّل لنا، يُسجَّل لحسابنا عند الله وكأنّه عمل عظيم. الفرصة متاحة لكل
واحد منّا أن يبدأ من جديد وأن يسجِّل لنفسه عند الله بَرَكات من جديد. نخطئ كل يوم؟
هذا أمر لا بدّ منه. نسيء إلى أنفسنا وإلى إخوتنا كل يوم؟ هذا أمر عادي.

المهم ألاّ
يصبح عادياً ألاّ نصلح موقفنا من إخوتنا وألاّ نصلح ذواتنا. كلّما سقطت انهض من جديد.
أنت لا يمكنك إطلاقاً أن تضمن عدم سقوطك، هذا رهن بمشيئة الله، وهذا يأتي بعد كمال.
ولكن المهم أن ننهض دائماً. السقوط مناسبة لا لليأس ولا للاستسلام، بل للنهوض، للقيام،
للصعود إلى أورشليم العلويّة. كل شيء يشاؤه الشرّير لإنزالنا إلى أسافل دركات الأرض،
يشاؤه ربّنا للصعود إلى معالي أعالي السماوات. لهذا السبب نحن نفرح بحسب الإنسان الداخلي.
وفيما ينحلّ جسدنا تعَباً تتكوّن نفوسنا بنعمة الله وتتحلّى وتتجمّل بنور الله. عيوننا
ينبغي أن تكون مسمَّرة على القيامة الآتية وعلى ملكوت السماوات الذي أُعطينا منذ الآن
أن نكون من سكّانه. أليس أنّ الواحد منّا إذا ما كان عنده بيت جميل على شاطئ البحر،
أما يفكّر فيه ويفكِّر بطيِّباته وبالهدأة التي سوف يستمتع بها متى ذهب إلى بيته، إلى
هناك، متى مدّ عينه إلى الأفق، متى استرسل في سمع الأمواج تُلاطِف حضوره؟

ذهنه يكون
في ذلك البيت. ونحن أذهاننا ينبغي أن تكون في ذلك المنزل الذي أعدّه يسوع لنا، لأنّنا
هناك ستكون لنا راحة. ولكن قبل الراحة لا بدّ لنا من أن نتعب.

هذا هو سرّ الخلاص، أنّه
بالصليب، لا من دون الصليب، أتى الفرح إلى كل العالم. تريد أن تفرح؟ إذاً، احمل الصليب
أوّلاً من أجل يسوع. لأنّ هذا الصليب يختزن الفرح الذي لا يمكن لأحد أن ينزعه منك.

      هذا كلام قد نقول إنّه جميل. ولكن قوّته تبقى
مخفيّة عنّا طالما نحن لم نسلك في إثر السيّد حاملين عاره وصليبه رغم كل شيء، في وسط
الضيقات، في وسط اضطهاد العالم لنا. وكان هذا الكلام مخفى عن التلاميذ ولم يعلموا ما
قيل لهم. ولكن فُتحت أذهانهم لمّا ثبتوا وذاقوا القيامة، في الحقيقة، قبل القيامة،
لأنّ الربّ الإله أعطاهم عربون محبّته وقيامته عندما أعطاهم روحه القدّوس.

بعد ذلك
سلكوا في الموت، فرحوا، سلكوا في الموت بفرح عظيم لأنّهم باتوا يعرفون من أين أتوا
وإلى أين يذهبون.



      فمَن له أذنان للسمع فليسمع





عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +