خَبِر البشر الأسرَ منذ بداية التاريخ. ما
من كتاب تاريخ لا يحكي عن الأسر، وطالما الحروب باقية الأسر باقٍ.
لكن بمقابل
هذا الأسر الزمني ثمّة أسر آخر، قليلون جداً هم الذين ييميّزونه ألا وهو الأسر الروحي
أو أسر الخطيئة. وكما أن الأسر الزمني مرتبط بالحرب الزمنية، هكذا أيضاً الأسر الروحي
مرتبط بالحرب مع الشيطان، لأنّ الخطأة هم، في نهاية الأمر، أسرى إبليس الذين اقتنصهم
بفخّه، وجعلهم رهن إرادته (2تيموثاوس 26:2).
فالشعب اليهودي،
مثلاً، كان يعتبر نفسه حرّاً لمجرّد أنّه من ذرية إبراهيم ولم يُستعبد لأحد قط. إلا
أن السيّد المسيح قَلَب مفهومهم هذا رأساً على عقب، وأوضح لهم أنّ كلّ مَن يعمل الخطيئة
هو عبد للخطيئة، وبأن العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أمّا الابن فيبقى
بماذا نختلف نحن عن الشعب اليهودي؟ هل ندرك
حقاً هذا الأسر الروحي الذي يتحدّث عنه السيّد المسيح؟
هل نترك أنفسنا
عبيداً فنُطرَد من البيت، إن الغالبية الساحقة من البشر تشعر بالشفقة لرؤيتها عصفوراً
سجيناً في قفص وتقول: "يا لهذا العصفور المسكين، لقد سلبوه حريته، كبّلوا جناحيه
اللذين خلقهما الله ليطير بهما ويكون حرّاً طليقاً".
بالحقيقة،
مَن يستحقّ الشفقة هو نحن البشر. إذ ليس كلّ أسير عبداً وليس كلّ طليق حرّاً. نحن،
مثل الشعب اليهودي، نعتبر أنفسنا أحراراً لمجرّد أننا أحرار بالجسد.
نشفق على
تكبيل جناحي العصفور ولا نأسف على الأجنحة الكثيرة التي أعطانا إياها الله لنحلّق بها
من عبودية الجسد إلى حرية الروح. فطالما نسلك بحسب الجسد ستبقى الروح أسيرة لأنّ الجسد
يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد، على ما يقول الرسول بولس
إن أعمالاً
كهذه لا بدّ أن تأسر الروح وتمنع تلك الأجنحة من التحليق وبلوغ ثمار الروح التي هي
"مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ
تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ" (غلاطية 22:5-23).
إنّ المفتاح الوحيد الذي يطلقنا من هذا الأسر
هو حبّ الله لنا، لأنّه مهما رفض الإنسان هذا الحبّ، إلاّ إنّ الله لا يكفّ عن عرضه،
وطالما أنّ الإنسان قابل للرجوع يبقى الله منتظراً.
فالله لم
يرسل أنبياءه ليشجبوا الخطيئة ويبيّنوا جسامتها إلا لكي يوجّه للناس دعوة أكثر عمقاً
إلى التوبة. إن حبّ الله هو المفتاح والتوبة هي الباب الذي ندخل منه إلى البيت حيث
ينتظرنا الآب فنناديه "أبّا" أيها الآب.
ومتى نلنا
الروح لا شيء في العالم يقدر علينا، لأنّ الله وهب ذاته لنا ونحن نحيا فيه.