ما أحسن أقدام الذين يبشرون (رو 10 /15)
مقالة إنجيل الحياة - الأب منير سقال
| ||||||
من المراجع الكتابية: تك 2/7-9 يو 10/10ب و 14-18 ؛ 11/25-26 ؛ 14/6 يو 5/19-29 رؤ 22/1-2 و14 و 17ب و19 | ||||||
مقدمة | ||||||
الله حي، ويدعونا إلى الحياة كما إلى الحب والسلام والفرح و القداسة؛ يدعونا إلى الحياة الأبدية، إلى أن نكون شركاء معه ومع الآب: "الحياة تجلّت فرأيناها، و الآن نشهد لها ونبشركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وتجلّت لنا ? لتكونوا أنتم أيضا شركاءنا، كما نحن شركاء الآب و ابنه يسوع المسيح" (1 يو 1 / 2-3 ). من أول الكتاب المقدس (تكوين ) إلى آخره (الرؤيا )، نلمس معنى عميقاً للحياة في جميع صورها (شجرة الحياة ? الماء الحي ? خبز الحياة ? ) و إحساسا جدّ خالصاً بالله. تكشف لنا هذه المواقف أن الإنسان يرى في الحياة التي يسعى و راءها برجاء لايكلّ، هبة قدسية يفجّر الله خلالها سره وسخاءه. | ||||||
أولاً- في الكتاب المقدس | ||||||
1- الله الحي : | ||||||
يعلق الكتاب المقدس أهمية على هذا اللقب دلالة على تقديره لقيمة الحياة. فالابتهال إلى الله الحي والمثول لديه كعبد الله الحي والقَسَم بالله الحي، هذا كله ليس فقط إعلاناً بأنه إله قادر و فعّال بل هو اعتراف له بالاسم الذي يعتز به وإشارة إلى قوته الحيوية. تظهر الحياة في آخر مراحل الخلق وتتوجّه. وأخيراً يخلق الله، على صورته، أكمل المخلوقات الحية ألا وهي الإنسان. ولكي يضمن لهذه الحياة الناشئة الاستمرار والنمو، يمنح الله لها بركته. والأمنية المُثلى هي أن يتمتع الإنسان بالحياة الحاضرة أطول مدة ممكنة، على أرض الأحياء، و لا يموت إلاّ بعد شيبة صالحة، شيخاً وقد شبع من الحياة. إلا أن هذه الحياة هي شيء سريع الزوال؛ فلا تتوفر الحياة إلا بصفة وقتية، فالمخلوقات الحية، بطبيعتها عرضة للموت، و ترتكز هذه الحياة على التنفس، على نسمة معرضة للزوال، لا تخضع للإرادة، هي نسمة هبة من الله ومتعلقة به باستمرار، هو الذي يميت ويحي، والحياة مجرد دخان وظل و لاشيء. وكل حياة هي من الله تأتي، ولكن نسمة الإنسان تصدر من لدنه تعالى بطريقة خاصة: نفخ الله في أنفه نسمة حياة يسترجعها لحظة الموت. ولهذا يكفل الله بحمايته حياة الإنسان، فيحرّم القتل. والله لا يرتضي بموت من يموت، فقد خلق الإنسان للحياة وللحياة الأبدية، لذا كان خصص له الفردوس الأرضي وشجرة الحياة التي كانت كفيلة بأن تجعله" يحيا إلى الأبد". وحتى بعد أن حرَّم الله على الإنسان، بسبب معصيته، الاقتراب من شجرة الحياة، لم يعدل عن ضمان الحياة للإنسان التي سيهبه إياها مجدداً بموت و قيامة ابنه. وبمجيء المخلص أصبحت المواعد حقيقة واقعة. | ||||||
2- يسوع المسيح هو الحياة : | ||||||
يعطي المسيح الحياة قيمة عالية ، فهي أفضل من الطعام. و في نظره، إنقاذ نفس أسمى من الحفاظ على السبت نفسه. فما كان الله إله أموات ، بل إله أحياء؛ وهو نفسه يأتي بمعجزات شفاء و يعيد الحياة :لعازر، ابنة يائيرس ، ابن أرملة نائين . هذه القدرة على منح الحياة دليل على أن له سلطاناً على الخطيئة وعلى أنه يحمل الحياة التي لا تفنى أي الحياة الأبدية. إنها الحياة الحقيقية، لا بل هي " الحياة". ولذا لكي يربحها المرء و يتمتع بها، يجب أن يتخذ الطريق الضيق ويزهد في كل أمواله بل في نفسه ذاتها. المسيح من حيث أنه هو "الكلمة" الأزلي،حاصل على الحياة منذ البدء. ومن حيث هو "الكلمة" المتجسد، هو كلمة الحياة، له التدبير في الحياة بملك سلطانه، ويفيضها بوفرة على كل الذين وهبهم الآب له؛ يعطي الماء الحي والخبز الحي و"كل من يحيا مؤمناً لا يموت أبداً" وإلا "فلا يرى أبداً الحياة". يسوع المسيح الذي مات وقام من بين الأموات هو ملك الحياة. وهذا الانتقال من الموت إلى الحياة يتكرّر في كل من يؤمن بالمسيح؛ والمؤمن بعماده في موت يسوع وبقيامته معه إلى الحياة يحيا منذ الآن لله في المسيح يسوع فيعرف معرفة حيّة الآب و الابن الذي أرسله، وهذه هي الحياة الأبدية. وإذا اتحدت روح المؤمن بروح الله بواسطة المسيح أصبحت هي نفسها حياة، ويستطيع مثل هذا الشخص أن يقول "الحياة عندي هي المسيح" (فيليبي1/21). الحياة مع المسيح التي هي ثمرة قيامته ممكنة بعد الموت مباشرة.غير أنها لن تُحقق كمالها إلاّ يوم يشترك الجسد نفسه فيها، بعد قيامته وتمجيده، في أورشليم السماوية، مسكن الله مع البشر "حيث يتدفق نهر الحياة، وحيث تنبت شجرة الحياة" (رؤ22/14و19). | ||||||
ثانياً- لا تقتل،شريعة الله المقدسة | ||||||
"إذا أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا "(متى 19/17) يتكلم الرب يسوع عن الحياة الأبدية، أي عن الاشتراك في حياة الله نفسها،و نبلغ إلى هذه الحياة بحفظ وصايا الرب، ومن ضمنها وصية " لا تقتل"، وهي أولى الوصايا العشر التي يذكر بها يسوع الشاب الذي جاء يسأله ما هي الوصايا التي عليه أن يحفظها. وهذه الوصية لا تُفصل أبداً عن محبة الله، إنها دوماً عطية من الله لنمو الإنسان وفرحه. والحياة عطية جزيلة من عطايا الله، وهو عندما يهب الإنسان الحياة يُلزمه بأن يحترمها ويحبّها ويطورّها وهكذا تصبح العطية وصية والوصية عطية. وهذه الحياة وُهبت للإنسان ويستطيع أن ينقلها بالحب واحترام قصد الله. ولكن سيادته ليست مطلقة بل هي خدمة وانعكاس لسيادة الله الوحيدة والمطلقة؛ لذا على الإنسان أن يمارس هذه الخدمة بالحكمة والمحبة والخضوع لشريعة الله المقدسة، خضوعاً حراً وفرحاً. فليس هو إذن السيد المطلق على الأشياء ،و بأَوْلى حجة على الحياة ،بل هو"في خدمة القصد الذي أقامه الخالق". الله وحده هو سيد الحياة من بدايتها حتى نهايتها، ولا يسوغ لأحد، أياً كانت الظروف، أن يدّعي لنفسه حق القضاء مباشرة على كائن بشري." لا تقتل " هي أمر إلهي وفي صميم ميثاق الله مع شعبه. وإذ أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، فالحياة البشرية، ومن ثمّ، تملك طابعاً من القدسية. وهذه الوصية "لا تقتل"تبيّن الحد الأقصى الذي لا يمكن أن نتخطّاه، لا بل، وأيضاً، تَحمُل الإنسان على أن يتمسك بموقف إيجابى ومدافع عن الحياة، والاحترام المطلق لها، وما تقتضيه من بذل وانفتاح وخدمة. وصية "لا تقتل" ذكرّ بها التقليد الحي في الكنيسة، منذ بزوغه،بطريقة قاطعة ، كما تشهد بذلك الذيذاخيا: "ثمة طريقان : طريق الحياة وطريق الموت، بيد أن البون شاسع بين الطريقين[?.] هذه هي الوصية الثانية في عقيدتنا: لا تقتل ?.لا تقتل الطفل بالإجهاض ولا تميته بعد مولده [?..] إليك الآن طريق الموت: الذي لا يشفق على الفقير..." ونعلم أن القتل، في القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، كان يُعد في لائحة الكبائر الثلاث ?مع الجحود والزنى- ويستتبع عقاباً علنياً بالغ المشقة والمدة قبل أن يُمنح القاتل التائب الصفح والعودة ثانية إلى حضن الشركة الكنسية. فإن كل من يقتل كائناً بشرياً بريئاً قتلاً مباشراً و متعمداً يرتكب خطأ فادحاً. كل نيّة تتعمد الإجهاز على حياة بشرية بريئة هي دوماً عمل سيء من الناحية الأدبية، ولا يمكن قط تسويغها، ولا كهدف ولا كوسيلة لهدف جيد: "ليس ثمة شيء ولا أحد بإمكانه أن يسوّغ قتل كائن بشري بريء، أنطفة كان أم جنيناً، طفلاً أم بالغاً ،مسناً أم مريضاً مزمناً أم مدنفاً. ولا يسوغ لأحد أن يطلب القتل لذاته أو لغيره من الموكولين إليه، بل لا يسوغ له أن يذعن لذلك، بطريقة صريحة أو مضمرة، وليس من سلطة يجوز لها أن تأمر بذلك أو تسوّغه". | ||||||
ثالثاً- البُعد الديني الكاثوليكي في قضايا الطب | ||||||
"من يد كل إنسان أطلب نفس أخيه "(تك9/5) - الحياة البشرية مقدسة. تنطلق الكنيسة الكاثوليكية، في مواضيع منع الحمل و الإجهاض و تقنيات الإنجاب الاصطناعي والتشخيص السابق للولادة والقتل الرحيم و المعالجة العنيدة، من مبدأ كرامة الإنسان الإلهية كقاعدة أساسية لتعاليمها الأخلاقية، مستندة إلى الحياة الجديدة التي أسبغها السيد المسيح على العالم. وتندّد الكنيسة الكاثوليكية بكل ما يُرتكب من جرائم وانتهاكات باسم "حقوق الحرية الفردية"، وباسم الطب. فهناك جو ثقافي موجه غايته الإعلاء من شأن الإنسان إلى حد التأليه، جاعلاً منه المرجع الوحيد على الأرض يقرر ما يشاء و كأنه خالق كل شيء. و هذا الشعور يدفع الإنسان إلى الاعتقاد بقدرته على أن ينصّب ذاته سيد الحياة و الموت يقرّرهما كما يريد. | ||||||
1- وسائل منع الحمل : | ||||||
إن أهم تعليم رسمي ظهر في تنظيم الولادات ووسائل منع الحمل، هو رسالة البابا بولس السادس، "الحياة البشرية"، التي صدرت في 27 تموز 1968. فمنذ ذلك الحين، تسعى الكنيسة إلى توضيح فكرتها في هذا المجال، محلّلة آراء النقّاد والمختصين، ومستندة إلى خبرتها الطويلة في تفسير الشريعة الأدبية الطبيعيّة. استناداً ما تُعلّمه الرسالة في هذا الشأن، وحرصاً منها على الحفاظ على بُعدَي الحبّ الجوهر بين "الاتحاد والإنجاب"، تنبّه الكنيسة الكاثوليكية أتباعها على خطر اللجوء إلى الوسائل غير الجائزة في تنظيم الولادات، لاعتقادها بأن التساهل في استعمالها يفسح المجال "للخيانة الزوجية والانحطاط العام في الأخلاق". وتحدّد الرسالة في تنظيم الولادات النهج الذي ينبغي للزوجين اتباعه: "?فمن ثمّ فليسا هما حرّين في مهمة نقل الحياة، وأن يتصرّفا على هواهما كما لو كان بإمكانهما أن يحدّدا، في استقلال تام، الطرق الكريمة التي ينبغي انتهاجها، بل يجب عليهما أن يطابقا بين مسلكهما وإرادة الله الخلاّق". من هذا المفهوم الخاص للزواج، ترفض الكنيسة الكاثوليكية كلّ أنواع وسائل الحمل في تنظيم الولادات، ما خلا الوسائل التي لا تمس "الدورات الطبيعية الملازمة لوظائف الإنجاب"، وتُجيز اللجوء إلى فترات العقم الطبيعية من دون المساس بالدورة الطبيعية "طريقة أوجينو ? مراقبة درجات الحرارة ? دكتور بيلينغنر". وهذه الطرق تحمل الزوجين على التفكير جدياً بأهمية الحمل وقبوله عندما يشعرا بضرورة الأبوّة والأمومة، فيحافظان هكذا على نوع من الرقي والاتزان النفسيين، ويتساويان في التغلب على غرائزهما الجنسية، وتشعر المرأة بأنها ليست أداة تسلية لرجلها فحسب، إنما شريكة فعّالة لها أهميتها ومكانتها في بناء العيلة وتكوينها. | ||||||
2- الإجهاض : | ||||||
رأتني عيناك جنيناً (مز138/16) الإجهاض جرم شنيع. من المآسي التي ما برحت تهز الضمير الإنساني وتشغل باله كل مرة يتطرق إليها، مشكلة الإجهاض. فعلى الرغم من انتشار وسائل منع الحمل في كل مكان، هناك أعداد هائلة من الأجنّة يُقضى عليها كل سنة تقدر بالملايين. فما هي نظرة الكنيسة الكاثوليكية إلى الإجهاض عامة؟ تُذكر الكنيسة كل مرة بأن الله هو سيد الحياة، ومن ثم لا يحق للإنسان أن ينصب نفسه سيد هذا الكون، يفعل ما يشاء وكأنه مصدر كل شيء: "لابد من احترام الحياة البشرية وصيانتها على وجه مطلق منذ وقت الحبل. ولابد من الاعتراف للكائن البشري، منذ أول لحظة من حياته، بحقوق الشخص، ومنها الحق في الحياة الذي لا يمكن تخطيه، والعائد لكل كائن بريء"، "قبل أن أصورك في البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحم قدستك" (إر1/5). ولقد أكدّت الكنيسة منذ القرن الأول شرّ كل إجهاض مفتعل على الصعيد الأخلاقي. وهذا التعليم لم يتغير. وهو باقٍ دون تعديل. الإجهاض المباشر، أي الذي يريده غاية أو وسيلة يتعارض بوجه خطير مع الشريعة الأخلاقية. "لا تقتل الجنين بالإجهاض، ولا تُهلك المولود الجديد" (ذيذخيا 2/2)؛ وتؤكد الكنيسة في تعليمها "إن الله سيد الحياة والموت قد عهد إلى البشرية في مهمة الحفاظ على الحياة، وهي مهمة شريفة يجدر بالإنسان أن يقوم بها قياماً يليق به. فالحياة منذ وجودها بالحبل، يجب الحفاظ عليها بكل عناية. الإجهاض وقتل الأجنة هما جريمتان منكرتان". وفي السياق نفسه، يشدّد البابا يوحنا بولس الثاني على ضرورة احترام الطفل البريء الضعيف والأعزل، قائلاً: "الإجهاض المفتعل قتل متعمد ومباشر، أيّا كانت طريقته، يستهدف كائناً بشرياً لا يزال في الطور الأول من وجوده، في الفترة ما بين الحمْل والإنجاب". وتتوغل الرسالة في تشخيصها للإجهاض ومفاعيله السلبية لتحمل على أولئك الذين يحرّضون المرأة على القيام بمثل هذا العمل. فالمسؤولية تقع خصوصاً على والد الطفل الذي غالباً ما يدفع المرأة إلى الإجهاض لأغراض شخصية رخيصة، منتهكاً كل الأعراف والقيم الأدبية. وتُحمِّل الرسالة أيضاً الأطباء والأجهزة الصحية مسؤولية الإجهاض "عندما يطوّعون للموت الكفاءات التي أحرزوها لدعم الحياة". أما مسؤولية المشرّعين "الذين دعموا الحياة وقرّروا قوانين الإجهاض"، فهي الأكثر جسامة في رأي الرسالة. من هذا المنظار يبدو موقف الكنيسة من المطالبين بوجوب تشريع الإجهاض حازماً لا يرضى بأيّ تنازل، لأن كرامة الإنسان وقيمته هي أسمى من كل شيء: "حقُ كل فرد بشري بريء في الحياة، الذي لا يمكن التنازل عنه، هو عنصر من العناصر المكوّنة للمجتمع المدني وتشريعه". "وعلى الشريعة بنتيجة الاحترام والحماية الواجب تأمينها للولد منذ الحبل به، أن تُعد عقوبات جزائية مناسبة على كل مخالفة متعمّدة لهذه الحقوق". | ||||||
3- الفحص الذي يسبق الولادة : | ||||||
ثمة معضلة أخرى تنصبّ في سياق موضوع الإجهاض، ألا وهي التشخيص السابق للولادة. إن موقف الكنيسة الكاثوليكية من هذه المسألة واضح للغاية. فالحياة الإنسانيّة، سليمة كانت أمّ مشوّهة، تبقى على صورة الله ومثاله. ولا يُسوّغ لأحد أن يتصرف بها وكأنّه المصدر والغاية، وتضيف: "بما أنه من الواجب معاملة الجنين منذ الحبل به كشخص، فلابد من الدفاع عن سلامته الجسديّة، ورعايته وشفائه قدر المستطاع، مثل أي كائن بشري آخر: "يجب اعتبار الإجراءات على الجنين البشري جائزة، شرط أن تُحترم حياة الجنين وسلامته الجسديّة، وأن لا تسبّب له أخطاراً أكبر، بل أن تهدف إلى شفائه أو إلى تحسّن أوضاعه الصحيّة، أو إلى إبقائه على قيد الحياة". إذاً، من الجائز أخلاقياً إجراء الفحص الذي يسبق الولادة إذا احتُرم حياة الجنين البشري وكماله الطبيعي، وكل "إنتاج أجنةٍ بشريةٍ مهيأةٍ للاستثمار كمادة حيوية جاهزة عمل يتعارض والأخلاق". فإن "بعض محاولات التدخل في الإرث الكروموزميّ أو التناسلي ليست للعلاج، وإنما تسعى إلى استحداث كائنات بشرية مختارة بحسب الجنس أو صفات أخرى مقررة سابقاً. إن هذا التلاعب يتعارض وكرامة الكائن البشري الشخصية، وكماله وهويته الفريدة والتي لايمكن أن تتكرر". | ||||||
4- الأوتنازيّا أو الميّتة الميّسرة، والانتحار، التعنت العلاجي : | ||||||
"أنا أميت وأحيي" (تث32/39) ? مأساة القتل الرحيم آ - الأوتنازيّا : للكنيسة الكاثوليكية في هذه المسألة رأي واضح يعبّر عن عمق قناعاتها وإيمانها بالإنسان وقيمته الروحيّة، فمن تضاءلت حياتهم أو ضعفت يقتضون احتراماً خاصاً، والأشخاص المرضى أو المعاقون يجب مساندتهم ليحيوا حياة طبيعية قدر المستطاع. و"الاوتنازيا" المباشرة، مهما كانت أسبابها ووسائلها، تقوم على وضع حدّ لحياة أشخاص معاقين، أو مرضى، أو على شفير الموت. وهي غير مقبولة من الوجهة الأخلاقية. وهكذا فكل عمل أو إهمال من شأنه أن يسبب بذاته وبنيّة صاحبه الموت للقضاء على الألم، هو قتل يتعارض بوجه خطير وكرامة الشخص البشري، واحترام الله الحيّ، خالقه. ولعل المسائل الاجتماعية والاقتصادية هي أهم ما يسيء إلى قيمة الإنسان وكرامته إن هي تحكّمت بمصيره وجعلته يشعر بعدم أهميته ومكانته بين أترابه. فإذا ما تغلغلت روح المنفعيّة في مكان ما، يضحي الإنسان مجرد آلة تستخدم في خدمة الآخرين، ثم تُرمى بعيداً حالما تُستنزف طاقتها. نحن هنا أمام مظهر من أرهب مظاهر "حضارة الموت" التي تتسرّب خصوصاً إلى المجتمعات المترفة المطبوعة بطابع الذهنية المنفعية، ومعها تمسي الحياة بلا معنى إذا أصابها عجز لا شفاء منه. ب - التعنّت العلاجي : في حين ترفض الكنيسة كل شكل من أشكال القتل الرحيم "الاوتنازيا"، تجد في التعنت العلاجي ضرباً من المكابرة وعدم مواجهة الواقع. فهناك حالات مرضيّة مستعصية لا يمكن شفاؤها، كتوقف الدماغ عن العمل، وما الإلحاح في معالجتها سوى محاولات يائسة لا تجدي نفعاً: "التوقف عن الإجراءات الطبيّة المكلفة والخطرة وغير العادية، أو التي لا تتناسب والنتائج المرتقبة، يمكن أن يكون شرعياً. إنه رفض "التعنت العلاجي". فليست النيّة عندئذ التسبب بالموت، وإنما القبول بالعجز عن الحؤول دونه. ويجب أن يتخّذ المريض القرار إذا كانت له الصلاحية والقدرة، وإلا فمن لهم الصلاحية القانونية، على أن تحترم أبداً إرادة المريض المعقولة ومصالحه المشروعة." ولكن ذلك من غير أن توقف العلاجات العادية التي تحق للمريض في مثل هذه الحال: "لا يمكن بوجه شرعي التوقف عن إعطاء المساعدات الواجبة عادة لشخص مريض، وإن حُسب مشرفاً على الموت". واستعمال المسكنّات لتخفيف آلام المُشرف على الموت، يمكن أن يكون متوافقاً مع الكرامة البشرية، إذا لم يكن الموت مقصوداً، وإنما متوقعاً ومحتملاً بكونه لا مهرب منه. العلاجات المسكنّة هي صيغة مميزة للمحبة النزيهة.ولقد شجعت الكنيسة منذ أمد بعيد الأبحاث العلمية في معظم ميادينها، لكنها، في الوقت عينه، كانت متنبّهة لكل انحراف قد يصدر عن هذا العلم أو ذاك. ج - الانتحار: كل إنسان مسؤول عن حياته أمام الله الذي منحه إيّاها، ويبقى هو، الله، سيدها الأعظم. يقبل الإنسان الحياة بالشكر، ويصونها إكراماً لله الحي. فهو وكيل ومؤتمن عليها وليس له الحق بالتصرف بها. والانتحار يتعارض وميل الإنسان إلى الحفاظ على حياته والاستمرار فيها؛ فهو يتعارض بوجه خطير ومحبة الذات ويُسيء أيضاً إلى محبة القريب. الانتحار يتعارض مع محبة الله الحيّ. وتدعونا الكنيسة أن لا نيأس من خلاص الأشخاص الأبدي، إذا ما انتحروا، فالله يستطيع أن يهيء لهم، بالطرق التي يعلمها، الظرف الملائم لندامة تخلصهم. والكنيسة تصلي من أجل الأشخاص الذين اعتدوا على حياتهم الخاصة. | ||||||
الخاتمة | ||||||
"الله أحق بالطاعة من الناس" (رسل5/29). الحياة خير ثمين ووديعة من الله. فعلى الإنسان أن يعتني بها. ومن الملّح أن نعمد إلى القيام بمجهود مشترك للدفاع وخدمة الحياة، وألاّ يشعر أحد بأنه مستثنى من هذا التطوع لحضارة جديدة للحياة. فالجميع لهم دور هام يقومون به. "نكتب إليكم بذلك ليكون فرحنا تاماً" (ايو1/4)؛ لقد كشف لنا إنجيل الحياة كنزاً نوزّعه على الجميع لكي يصير الناس كلهم في شركة معنا ومع الثالوث (1يو1/3). إنجيل الحياة لا يقتصر على المؤمنين بل هو للجميع. إنجيل الحياة هو لمنفعة المجتمع البشري. فالعمل في خدمة الحياة يُساهم في تجديد المجتمع، بتحقيق الصالح العام. ومع البابا يوحنا بولس الثاني نختم بالصلاة إلى أمنا مريم: "يا مريم، فجر العالم الجديد، وأم الأحياء، نكل إليك قضية الحياة? أعطي المؤمنين بابنك أن يعلنوا لأهل زماننا، بحزم ومحبة، إنجيل الحياة. اسألي لهم أن يتقبلوه عطية دائمة التجدد? وأن يشهدوا له بشجاعة، ليبنوا حضارة الحق والحب لإكرام وتمجيد الله خالق الحياة?" | ||||||
مراجع المقال | ||||||
التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. إنجيل الحياة؛ إرشاد رسولي، البابا يوحنا بولس الثاني الحياة هبة الله؛ إرشاد رسولي. الأخلاق والطب؛ جوزف معلوف. في تنظيم الولادات؛ إرشاد رسولي، البابا بولس السادس. المجمع الفاتيكاني الثاني؛ الوثائق المجمعية |