Skip to Content

مقالة الأفخارستية حياة الكنيسة - المطران يوحنا جنبرت

 






























































المطران يوحنا جنبرت









الأفخارستية حياة الكنيسة

 
 

في السابع عشر من شهر نيسان عام 2003، وبمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لحبريته، وهي السنة التي كرسها، للسبحة الوردية، أصدر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة، وجهها إلى الأساقفة والكهنة، والشمامسة وسائر المكرسين والمؤمنين، بعنوان "الأفخارستية حياة الكنيسة"، وقد عالج فيها، موضوع سر الذبيحة المقدسة، في علاقته بالكنيسة وحياة المؤمنين، مبيناً وشارحاً، أهمية هذا السر، في حياة جماعة المؤمنين، ودوره الحيوي في مسار الكنيسة الرسولي، وعملها الخلاصي بين الناس. وهذا ما يحدو بنا إلى إيلاء هذا الموضوع، مزيداً من الأهمية في مهامنا الرعوية، وعملنا التربوي والتعليمي.


القربان المقدّس محور حياة الكنيسة


إن البحث في سر القربان المقدّس، أو الأفخارستية، يقتضي شروطاً مبدئية ضرورية، أهمها الإيمان بالمسيح والإخلاص لمشيئته، وهو سر الكنيسة والمسيحيين، وكما أننا لا نعطي حق الاشتراك فيه لغير المؤمنين. أقول بأنه لا يناسب، أن نتباحث فيه مع من لم يعرف المسيح الكلمة المتجسّد مخلّص العالم، وقد يناسبنا هنا، قول الكاهن في القداس: "الأقداس للقديسين"، فلا نطرحه على من لا يستحق، أو لا يستطيع أن يفيد منه أو يقدّر قيمته.
وعلى كل حال، فأنا أوجّه كلامي عملياً، في هذا الموضوع، إلى رجال مؤمنين بالمسيح وبتعاليمه وبتعاليم كنيسته، ولكن ثمة ملاحظة، أرجو أن تتذكروها دائما، وهي أننا عندما نتكلم عن سرّ القربان المقدّس، فنحن في صلب أسرار الكنيسة وفي أعماق جوهرها، المرتبط ارتباطاً عضوياً وثيقاً بعملية الخلاص التي حققتها لنا محبة الله التي لا حدّ لها.


القربان الأقدس، هو طريق الخلاص، الذي وُعِدت به البشرية


الخلاص، وهو يعني أيضاً التحرّر، يفترض وجود عبودية ما أو على الأقل خطر محدّق يهدد كائناً من كان. ونحن، إذ انفصلنا عن مصدر الحياة، الذي هو الله، قد أصبحنا تحت عبودية الموت، وخلاصنا من هذه العبودية لا يمكن أن يكون إلاّ بإعادة الصلة والاتحاد، بيننا وبين مصدر الحياة الذي هو الله. ولذلك، نحن نرى من خلال دراسة نقوم بها، في تاريخ الخلاص، الذي بدأ مع ابراهيم، واكتمل في المسيح، أنه عبارة عن إعادة العلاقة المقطوعة بين الله والبشر، وقد بدأت هذه العلاقة الجديدة مع ابراهيم واستمرت في ذريته، طفيفة وسطحية، إلى اليوم الذي مجّد فيه المخلّص الموعود والمنتظر، يسوع المسيح، الكلمة المتجسّد، الذي جمع في شخصه بين الله والإنسان، ومنح بهذا الفعل الحياة الدائمة للإنسان الذي اتحد به، وذلك بتخليه عن الإنسان العتيق، بموته على الصليب، وبقيامته لحياة جديدة.


قام المسيح مرّة واحدة، ومنح الله كل إنسان، إمكانية الحياة باتحاده بالمسيح الحي، الذي أصبح باكورة الأحياء. ولبلوغ هذا الاتحاد، الذي يتعّدى طاقتنا البشرية، أسّس الّرب يسوع أسرار الخلاص المقدّسة، التي بفضلها يستطيع كل مؤمن أن ينال الروح التي تجسّد الألوهية في الإنسان. وإن قيامتنا مستمرّة، إذ أنها في التاريخ، كمسيرة العبرانيين في سيناء نحو أرض الميعاد، وميعادنا هو المسيح. وهناك بين الأسرار السبعة، سرّ له فاعلية خاصة تستطيع تحقيق هذه الوحدة الخلاصية المرجوة، هو سرّ القربان الأقدس، أي سرّ جسد الّرب الحي الذي يتحد بأجسادنا المائتة ليحييها.


إنّ هذه اللمحة اللاهوتية المقتضبة، عن علاقة الخلاص بسر القربان الأقدس، من شأنها أن تنبهنا إلى أهميته في خلاصنا، ويمكننا القول بأن المسيح الذي أتى لخلاصنا، كانت أهم منجزات عمله الخلاصي، تأسيس هذا السر العظيم. والواقع هو أن المسيح قد أعطاه فعلاً كل الأهمية، فأعّد له مراراً متعددة، كما في إنجيل يوحنا خصوصاً وأنه أعطاه للكنيسة بشكل وصية خطيرة، ليلة استسلامه على الصليب، وكأنه يصرّ على أهميته كل الإصرار.


فلا بدّ لنا إذاً أن نحاول فهم أبعاده في حياة الكنيسة والمؤمنين، وكيفية فاعليته في تحقيق هذه الوحدة، بين الله والبشر، التي فيها حياة الإنسان وخلاصه.


الكنيسة والمسيح واحد، وللاتحاد بالمسيح، يجب الاتحاد بالكنيسة التي تجسد هذا الاتحاد، في سر الأفخارستية، وتحيا وتتحقّق بواسطته


أسس المسيح كنيسته التي أرادها، امتداداً لتواجده في العالم، وأعطاها الروح القدس الذي كان فيه، لكي يبقى معها إلى منتهى الدهر، كما أنه سلّمها كهنوته المقدّس لكي تكون هي أيضاً، واسطته بين الله والبشر، تقرّب الإنسان من الخالق وتحيي الإنسان بروح الله الساكنة فيها. وهكذا، تتمم الكنيسة عمل المسيح الخلاصي، مستمدة منه القوة والمعرفة والحياة لتنقلها إلى أعضائها المتحدين بها، فتغذّي حياتهم، كما تغذّى الكرمة أغصانها.


لقد سلّم المسيح الكنيسة واسطة ملموسة للقيام بهذه المهمة الخطيرة، هذه الواسطة هي الأسرار السبعة، التي يمكن أن نشبهها بأقنية للحياة الإلهية والنعمة، تنقلها إلى المؤمنين من لدن الله بواسطة المسيح إلى كل عضو من أعضائه، فتغذيه وتنميّ عنصر الحياة فيه. وهذه الأسرار متكاملة، تدور كلّها حول الهدف الواحد، الذي هو خلاص الإنسان بعودته إلى الاتحاد بمصدره: الله الخالق. غير أن للأفخارستية دوراً أساسياً في اتحاد الإنسان بالله وهو السر الذي يجعل المتناولين منه، واحداً مع المسيح، ويمكّن الكنيسة من الاتصال بالله، عن طريق الوسيط الأوحد، الكلمة المتجسّد، كما جاء في رسالة البابا الأخيرة حيث قال:


"الأفخارستيا حياة الكنيسة" هذه الحقيقة، ليست مجرد تعبير عن ممارسة يوميةٍ للإيمان، وإنما هي كنه سر الكنيسة وجوهره. فهي تختبر بفرح، وبأشكالٍ متنوعة، تحقيقاً مستمراً للوعد: "وأنا سأكون معكم دائماً، وحتى منتهى الدهر" (متى 20:28). ففي الأفخارستيا، حيث يتحول الخبز والخمر، إلى جسد ودم الرب، تتمتع الكنيسة بهذا الحضور، بقوةٍ لا مثيل لها. ومنذ يوم العنصرة، حيث بدأت الكنيسة، شعب الله، مسيرتها نحو الملكوت السماوي، فإن هذا السر الإلهي يميز بطابعه الخاص كل يومٍ من أيامها، مالئاً إياها بالرجاء والثقة".


ميزات الأفخارستية عن باقي الأسرار، حسب قول الأكويني، ومن بعده من اللاهوتيين


1) تحوي المسيح (الأسرار الباقية أعمال المسيح).


2) سر يبقى بفعاليته متخطياً الزمن المؤقت لحدوثه، فوجود المسيح يستمر فيه ويعمل وكأنه تواجد للأزلية والسماء على هذه الأرض.


3) وفعالية هذا السر، خلافاً لباقي الأسرار، تتعدّى الشخص الذي يقبله لأنه ذبيحة تستمد نعم الله وترفع إليه تسبيحاً وشكراً.


لا يصح أن نفصل بين أوجه الأفخارستية المتعددة لأنها حياة وعلاقة واحدة مع الربّ، وثمارها ثمار الحياة وغناها لا يحصر بحد، وهي "ينبوع الحياة المسيحية، ومصدر غناها"، كما قال آباء المجمع الفاتيكاني، في الدستور العقائدي عن الكنيسة: "الأفخارستيا المقدسة، تحتوي بالواقع مجمل خيرات الكنيسة الروحية، يعني المسيح بالذات، فصحنا وقيامتنا، خبز الحياة، الذي بقدرة الروح القدس المحيي يعطي جسده ينبوع حياةٍ للبشر". ولهذا السبب، تنظر الكنيسة باستمرار، إلى سيدها الحاضر في سر القربان، حيث تكتشف أوجه حبه الكبير".


ما هو سر الأفخارستيا؟


نكتفي بإعطاء تعريف موجز نعرفّه به لأن موضوع حديثنا لا يسمح لنا بالاستفاضة في مجال التعاريف والتفاصيل الأكاديمية. فنقول إن سر الأفخارستية هو يسوع المسيح، الموجود حقيقةً وجوهراً (بناسوته ولاهوته) تحت شكلي الخبز والخمر، وهو ذبيحة غير دموية، تتمثل فيه وتجدد ذبيحة الصليب: "هذا هو جسدي، الذي يكسر لمغفرة الخطايا، هذا هو دمي، الذي يراق لمغفرة الخطايا...دم العهد الجديد" (متى 38:26)، انظر الأناجيل الإزائية: (متى 26: 26-28، مر 14: 22-24، لو 22: 19-20، كور 11: 24-25، أعمال 2: 46، 20: 7-12).


هذا ما وعد به يسوع، عند تكثير الخبز، حين قال: "الخبز الذي سأعطيه أنا، هو جسدي لحياة العالم، لأن جسدي هو مأكل حقيقي، ودمي هو مشرب حقيقي" (يو 6: 52-56)، وهذا ما حققه فعلاً في العشاء الفصحي الأخير، حيث قال: "خذوا وكلوا، هذا..اشربوا.." (متى 26-28 ، كور 1: 11-25).


وما يهمنا بعد هذا التعريف النظري الوجيز، هو دور القربان الأقدس في حياة المسيحيين والكنيسة وفاعليته عملياً في هذه الحياة. ولذلك سنتكلم عما تتوخاه الكنيسة (وعندما نتكلّم عن الكنيسة، نقصد جماعة المؤمنين، وهذا يعني المسيحيين المنتمين إليها) من هذا السر في حياتها على الأرض.


القربان الأقدس في حياة الكنيسة على الأرض


يجدر بنا أولاً أن نتذكر أن لحياة الكنيسة على الأرض أوجهاً متعددة، أهمها الاتصال بالله، عن طريق العبادة والصلاة، وتأمين الوساطة بين الله والناس بفضل كهنوتها، والاتصال بالناس ومساعدتهم على المضي في سبل هذه الحياة، بشكل يليق بإنسانيتهم وبمشيئة الله خالقهم، على طريق الوحدة والتعايش الأخوي الملكوتي، وإن للقربان الأقدس دوراً أساسياً يلعبه في تحقيق هذه الرسالة الموضوعة على كاهل الكنيسة. فالمسيح أعطى جماعته القربان المقدّس، ليكون حاضراً فيما بين المؤمنين به باستمرار، (وهو يشكل القلب الواحد النابض، الذي يحي الجسد بكامله، بالدم الواحد..).


ولكي يعطيهم ذبيحة لائقة ودائمة للعهد الجديد يرفعونها إلى الله. ولكي يؤمّن لهم قوتاً روحياً، يستمدونه من اتحادهم به ويكون عنصر اتحاد في الكنيسة، وأخيراً لكي يكون عربون مجدنا الآتي. ويقول القديس أغناطيوس الأنطاكي بهذا الخصوص : "إن الأفخارستية، هي عامل أساسي، يميز المسيحيين في اجتماعاتهم الليترجية، من أجل تمجيد الله...وهي تجعلهم كذلك، متحدين بجسد يسوع المسيح ربنا وبدمه...وهي تفقد طابعها المغذي إذا لم تتحقق بروح الإيمان والمحبة".


المسيح حاضر في الكنيسة باستمرار


الأفخارستية، سر جسد المسيح ودمه، هو المكان الأنسب، لتواجد الرب غير المنظور على الأرض، وهو الحضور الذي يسمح لنا بالعيش بقربه، فهو بفضل هذا السر منح الكنيسة سر وجوده الدائم، الذي يعطي الكنيسة تباشير الخلاص والانتصار. فعندما تكلّم النبي أشعيا عن المولود من العذراء وقال إنه سيدعى عمانوئيل أي "الرب معنا"، تنبأ عن هذا الحدث الهائل الذي كانت تنتظره البشرية بفارغ الصبر، ألا وهو، وجود الله بين الناس. فشعب العهد القديم، كان يتمسّك تمسكاً كبيراً جداً بالاحتفاظ بتابوت العهد، الذي كان يرمز إلى وجود كلمة الله في وسط شعبه، وكانت ألواح العهد والتابوت أشياء مادية لا حياة فيها، غير أنها كانت تعبّر ولو بشكل رمزي عن هذه الحقيقة التي أصبحت واقعاً في سر القربان الأقدس وجعلت الربّ يسوع، الكلمة المتجسّد، يسكن وسط شعبه الذي هو الكنيسة بشكل فعلي، فيقّوي ثقة الكنيسة ويمنحها الفرح الناجم عن وجوده، والاطمئنان النابع من قدرة الله التي تحمي الكنيسة والمؤمنين، لأنه كما يقول الكتاب: "إن كان الّرب معنا، فمن علينا"، وإن كان المسيح موجود فيما بيننا، فأي شيء نخشى؟


وهذه الحقيقة، حقيقة وجود المسيح في القربان، بالغة الأهمية في حياة الكنيسة، وهي التي تحرّك قدرات رجالها معنوياً وفعلياً، وتمنحهم الثقة الضرورية لمجابهة المخاطر، لأن أملها باجتيازها لا يحدّه شك طالما الاتكال على المسيح كامل، وهو موجود فيها كما كان في السفينة مع الرسل يوم العاصفة، لم يشعروا بوجوده لأنه كان نائماً، يقول الكتاب: "ولكنه كان موجوداً، وهذا يكفي، وفي الواقع انتهر الريح، وهدأت العاصفة" (مر 4: 35-41، متى 8: 23-27).


وهكذا، فالمسيح ينقذ الكنيسة، بفضل وجوده السرّي فيها، من مختلف المخاطر ويحفظ إيمان الملتجئين إليه سالما، حتى أمام براثِن الوحوش. ولنتذكّر في هذا الموضع، كيف كان مسيحيو روما يتناولون القربان المقدّس قبل الدخول إلى حلبة الأسود، ولا يعودون يخشون الاستشهاد ولا يهابون الموت لأن الّرب معهم. وبالمناسبة، نذكر ما لسر هذا الوجود من أهمية في حياة الرهبان والراهبات وكل من يكرّس حياته في البتولية من أجل المسيح، فهو بوجوده بينهم يملأ الفراغ الذي تتركه في قلوبهم حياة العزوبية، ويعوّض المتعبدين له عن ذلك الفراغ بغنى محبته وحضوره في حياتهم.


الأفخارستية ذبيحة


ما هي الذبيحة؟ الذبيحة تفترض ضحية، وفدية تهرق أمام كائن قدير إكراماً له وسعياً لنيل رضاه واستدراراً لعطاءاته وتعبيراً عن الولاء له، فهي إذاً عمل ظاهري يقتضي هبة تقدّم وعمل داخلي يدفعه. والذبيحة عمل عبادة متأصل في عادات الإنسان منذ أقدم العصور، ولنتذكّر في هذا الموضع، ذبيحة هابيل التي أراد الكاتب أن يعبرّ بها عن طريقة العبادة منذ البداية، وذبائح الأقوام البدائية التي كانت تذهب إلى حدّ تقديم العذارى إلى الآلهة إرضاء لهم وتخفيفاً لغضبهم، فمنها ما كانت تحرق للإله مولوخ في فينيقيا، ومنها ما كانت تلقى في النيل عند الفراعنة.


وفي العهد القديم، كانت الذبائح حيوانية، حيث كانت تقدّم يومياً في الهيكل، يرفعها شعب الله المختار إلى الله، تعبيراً عن خضوعه له وطلباً لرحمته وتكفيراً عن الخطايا وشكراً على عطاياه.


وقمة هذه الذبائح كانت ذبيحة المسيح ابن الله المتجسّد على الصليب، الذي غدا هيكل البشرية جمعاء وقربانها. وفي هذه الذبيحة، المسيح هو المقدم والمقدّم، وقد فعل باسم البشرية ومن أجلها. ويمكن مقارنة الذبائح القديمة بالذبيحة الجديدة التي هي المسيح يسوع، فنلاحظ في كلا الظرفين: كاهن يقدم وذبيحة تقدّم وسبب لتقديم الذبيحة. فالكاهن، أي الوسيط بين الشعب والله في الذبيحة الجديدة، هو رجل بدون عيب، من سلالة ملكيصادق أي الكهنوت المؤسس بإرادة الله، لا يحتاج إلى تنقية. والذبيحة هي أيضاً حمل الله ولا عيب فيها. وأما الهدف، فهو التكفير عن خطايا البشر. وهي عبادة مقبولة لدى الله، لأن الوسيط منبثق منه والذبيحة غالية على قلبه الأبوي، ولذلك، فالهدف أي مغفرة الخطايا سيتم لأن الله قبل هذه الذبيحة مسبقاً، وإن ذبيحة الصليب هذه فتحت باباً جديداً للعلاقة بين الله والبشر، وللقاء الإنسان بالله، في عهد جديد ختم بدم المسيح. واعتباراً من يوم الجلجلة، حيث رفعت إلى الله الذبيحة الأزلية، ما عاد هنالك حاجة إلى الذبائح الأخرى التي لا فاعلية لها أصلاً، وقد أغنتنا ذبيحة المسيح عن كل الذبائح الأخرى، وبذلك تصبح هذه الذبيحة، حاضرة وشخصية إذ تتجدّد باستمرار، غير أن المسيح، لم يعفِنا من واجب العبادة وتقدمة القرابين، ولكنه أعطانا قرباناً مرضياً لدى الله، نقدّمه له في كل مناسبة، وهذا القربان هو جسده ودمه، اللذان قربهما إلى الله يوم خميس الأسرار حيث قال:


"خذوا وكلوا، هذا هو جسدي، الذي يكسر من أجلكم، اشربوا من هذا كلكم، هذا هو دمي، الذي يهرق عنكم"، ثم أضاف: "اصنعوا ذلك، حتى مجيئي" (لو 24: 30-35).


فالكنيسة أخذت الكهنوت عن المسيح، كما أنها احتفظت به بواسطة سر الأفخارستيا، قرباناً دائماً ترفعه إلى الله لتؤدي واجبات العبادة والشكر والطلب والتكفير عن الخطايا.


وهكذا يكون العهد الجديد متميزاً عن القديم، بكهنوته وقرابينه الإلهية التي تتمتّع بفعالية لا حدّ لها (انظر بولس عبرانيين 9: 12-26، 10: 1-10). فالقربان المقدّس هو الذبيحة المثلى المرضية لدى الله، التي تغدق علينا بركته وتوحدنا معه بعهد جديد و ثابت. ومهما يكن للصلاة والعبادات الفردية من قيمة، فإن هذه القيمة ضعيفة جداً، إذا قيّست بالذبيحة الإلهية، التي مصدرها الله ومحطها الله. وإن الكنيسة إذ تقوم بتقديم هذه الذبيحة، تحقّق عملاً إلهياً باسم جماعة المؤمنين، وتنال رضى الله وبركته لكل من يشترك معها في عمل الذبيحة، التي هي القدّاس الإلهي. وللاشتراك الفعلي في الذبيحة، يجب طبعاً حضور عمل العبادة هذا في الكنيسة ومشاركة الكاهن بالنية. غير أن هنالك أمر التقديس والاتصال الحيوي بالله فهو لا يتحقّق إلاّ بالاتحاد الفعلي مع المسيح في المناولة، وبذلك نرفع كلنا معه إلى الله، قرباناً مرضياً ومقبولاً.


القربان المقدّس، مشاركة واتحاد


إن الاشتراك بتناول قربان الذبيحة له مفاعيل عديدة، أهمها خلاص الإنسان، أي بقاؤه وعدم موته. فهو باتحاده بمبدأ الحياة، أدخل في ذاته عنصر الحياة: "الحق أقول لكم، من يأكل من هذا الخبز، لا يموت أبداً"، "هو دواء ضد الموت، وللحياة مع المسيح إلى الأبد"، كما يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل أفسس (2:20). وهو علامة اتحاد الجماعة في الشركة، حيث كانوا يقول كتاب الأعمال: "يجتمعون لكسر الخبز" (2: 42-47).


الافخارستيا مصدر وحدة الأسرة وتقديسها


وهو عنصر وحدة في المسيح الواحد كما في الكرمة. وإن الاشتراك في الخبز الواحد، يرمز إلى وحدة الجماعة، وهو بشكل خاص قربان الوحدة: مع الله، بين الناس وبين الأرضيات والسماويات.


-الأرثوذكس يرفضون مشاركتنا في القربان، لأن ذلك يعني الاتحاد معنا (1 كو 10: 14-22).


ونحن عندما نشترك في الذبيحة ونتناول، نكون واحداً فيما بيننا، ونكون نواة أساسية في الكنيسة. وهكذا، في كل مكان يجتمع المسيحيون فيه حول الأفخارستية، وهذه المجموعات والخلايا المتعددة هي واحدة أيضاً فيما بينها رغم الاختلافات والتنوع، لأن الذبيحة واحدة، والقربان واحد، والكنيسة والجذع واحد، إن عبر المكان أو عبر الزمان.


وهنا فكرة لاهوتية لا بدّ وأن نذكرها، وهي موضوع الشركة في جسد المسيح السرّي، الذي هو واحد منذ القيامة وحتى اليوم. فكل الذين اشتركوا فيه، هم على علاقة وثيقة ببعضهم البعض، علاقة سريّة غير ظاهرة ولكنها فعلية. فبواسطة الذبيحة والتناول نتحد مع جميع المسيحيين، في أي بلد كانوا ( مع أقاربنا في أمريكا)، لا بل مع الأموات المتحدين بالمسيح، الذين سبقونا، وهذا مما يكون عربوناً لاتحادنا النهائي بالمسيح نحن أيضاً. فالقداس الذي يرفع من أجل الأموات مثلاً، هو أنسب مكان للقياهم.


الأفخارستيا الحياة الجديدة




  • القربان المقدس غذاء وحياة: "جسدي هو مأكل حقيقي، ودمي مشرب حقيقي، من يأكل من هذا الخبز، لا يموت أبداً"، وقد شبهه يسوع بالماء الحي. والقربان المقدس هو أيضاً قوّة حياتية إلهية، تدخل حياتنا، لتزيد من إمكانياتها الإنسانية الصافية، وهي التي تمكننا كما يقول القدّيس بولس، من بلوغ ملء قامة المسيح "الإنسان الأمثل"، لأن من يأخذ من هذا الخبز يثبت في المسيح (يو 6: 51-58). ومع الممارسة المستمرّة، يلبس المسيح كلياً، حتى أن بولس قال إنه ما عاد هو يحيا، وإنما المسيح هو الذي يحيا فيه.



  • وهو مصدر المحبة: محبة المسيح الشاملة، ولذلك هو منطلق للحياة الرسولية والخدمات الناتجة عن محبة المسيحي للناس جميعاً ولله، فهو إذاً عامل نمو الكنيسة، عمودياً وأفقياً، وهذا السر هو أيضاً مصدر الفرح، بتحقيق المواعيد بمجيء المخلص.



  • وهو أخيراً، بداية حياة السماء على الأرض: حياة السماء هي حياة مع الله والله حاضر معنا في القربان، اقترابنا منه يعطينا شيئاً من السعادة الأبدية ونفحة إلهية تدخلنا في مناخ أورشليم الجديدة، أورشليم الملكوت، والكنيسة هي أورشليم الجديدة في طور البناء، ونحن أعضاء هذه الكنيسة وبُناتها. وكلما كان اتحادنا بها وثيقا، كنا أقرب من ملكوت السماوات، وكلما ازدادت قداسة أعضاء الكنيسة، اقتربت هذه من القداسة التي تقربها من أورشليم المنتظرة، ولن تكون الكنيسة أورشليم المرجوة، إلاّ إذا تأصل المسيح في كل عضو من أعضائها، وهذا لا يكون إلاّ بالاتحاد معه، ولا سيما بتناول الرّب، بالاشتراك في سرّ القربان الأقدس.


بهذا المنظار، نرى الأهمية البالغة التي لسر القربان الأقدس في حياتنا وفي حياة الكنيسة، فهو الذي يصنع الكنيسة، التي تصنعه بدورها في القدّاس، وهو الذي يصحّح الخليقة التي أعوجّت بسبب خطيئة آدم القديم، ويجددّها بحياة المسيح السرّية التي تتحرّك فيها من خلال حياة المؤمنين.


وفي الختام، نقول إن الكلام عن سر القربان الأقدس، لا يمكن أن ينتهي طالما أن هنالك حياة على الأرض، لأنه غني بغنى الحياة، يلازمها في كل تحركاتها موجهاً إياها صوب كمالها الذي هو في الله الحي. فعلى كل مسيحي أن يكون واعياً في حياته الكنسية، لكي يكتشف تدريجياً وباستمرار مقدار غنى محبة الله لنا



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +