الرَّبُّ يؤيدُ الوُضَعاء و يُذِلُّ الأَشْرارَ حتًّى الأَرض (مز 147 /6)
مقالة " كريستولوجيا قانون الإيمان " - الإكليريكي الياس جانجي
| |||
مقدمة | |||
نعلن في قانون إيماننا المسيحي "نؤمن بربّ واحد يسوع المسيح". تعد هذه الشهادة "قلب قانون الإيمان المسيحي"1 التي تتمحور حولها شهادات الإيمان الأخرى. فإذا كان الإنسان يؤمن بالله، فلا يسعه إلا أن يتصوره أعظم مما يمكن للعقل البشري أن يفكره أو أن يتخيله. وهنا اصطدمت الفلسفة بعلم اللاهوت وأدت إلى نشوء عدة هرطقات، ردّت عليها الكنيسة بعقد مجامع مسكونية كان هدفها، في صياغتها وتعابيرها، الرد على هذه الهرطقات موضحة تعاليم المسيح والرسل في صيغ وتعابير جديدة، حيث أنها كانت ضرورية للإحاطة بسر يسوع المسيح الإنسان والإله وتحديد أبعاد إنسانيته وألوهيته. فمن خلال هذا العمل أود أن أشرح لاهوت السيد المسيح في قانون الإيمان، هذا اللاهوت الذي استندت عليه الكنيسة خلال ألفي سنة وشهد له آباؤها بالحبر والدم. لقد وُضع هذا القانون في المجمع المسكوني الثاني الذي انعقد في القسطنطينية سنة 381. وهو يعيد من قسمه الأول حتى عبارة "وبالروح القدس"، قانون الإيمان الذي أعلنه المجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية سنة 325. | |||
أولاً: يسوع المسيح الإله والابن | |||
1- ناسوت المسيح | |||
سُمي الإله المتجسد يسوع المسيح. أما يسوع فهو كلمة عبرانية معناها " الله يخلص". وقد أطلق هذا الاسم على ابن الله المتجسد نظراً للمهمة الخلاصية التي أتي ليقوم بها، والتي تعبر عن هويته ورسالته معاً6 . لذلك قال الملاك لمريم عندما بشرها: "ها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع" 7.والملاك الذي ظهر ليوسف قال له متكلماً عن العذراء: "ستلد ابناً فتسميه يسوع لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم" 8. فاسم يسوع يعني أن الله نفسه حاضرٌ في شخص ابنه الذي صار إنساناً لافتداء البشر افتداءً شاملاً ونهائياً من الخطايا. أما كلمة المسيح فتعني الممسوح9 ، وقد كان الأنبياء والملوك والكهنة في العهد القديم يمسحون بزيت مقدس ينالون بواسطته نعمة لإتمام رسالتهم 10، ولذلك كانوا يدعون مسحاء الربّ. ولكن هؤلاء لم يكونوا سوى صورة ورمز ليسوع الذي هو وحده مسيح الروح القدس الذي حلّ على إنسانيته فجعل منه نبياً أنبأ بحقيقة الله كاملة11 . تعتقد الكنيسة الكاثوليكية 12أن للمسيح طبيعتين: إلهية وإنسانية متحدتين في شخص واحد، شخص ابن الله المتجسد وأن هذا الاتحاد قائم بدون انقسام أو انفصال أو تحول أو اختلاط.أي أن كل من هاتين الطبيعتين تحتفظ بصفاتها الخاصة، فلا تفقد الطبيعة الإلهية صفاتها الإلهية ولا تفقد الطبيعة الإنسانية صفاتها الإنسانية 13، لكنهما متحدتان في شخص واحد14 . فحين نعترف15 في قانون الإيمان "ربّ واحد، مولود وحيد" فإننا نؤكد أن يسوع المسيح هو ابن الله المولود الوحيد وهي تعني لاهوتياً الكائن الذي لا يماثله كائن آخر، أي لا يوجد مصدر آخر له. وهنا تكمن هرطقة آريوس، حيث أنه لم يستطع التمييز بين فعل الولادة والخلق، الذي كان يُعبَر عنه، في اللغة اليونانية، بذات الفعل. ولهذا يُعتَبر خطراً الكلام عن الله بواسطة التعابير البشرية 16، حيث أن الولادة تختلف عن الخلق. ولأجل عدم الوقوع في مثل هذه الهرطقات استعمل اليونان لفظة حيث أنها تعني الكائن الذي لا يماثله في كيانه كائن آخر. كما أنها تستعمل للدلالة على أن يسوع هو ابن الله المولود وليس ابنه بالتبني 17. أما عبارة "إله من إله" فقد استعملها آباء المجمع للدلالة على كائن واحد وعلى أقنومين، وذلك للتعبير عن الاختلاف بين عمل الله الآب، وعمل الله الابن من دون وجود أية فوارق بين الاثنين في الجوهر18 .فعمل الأقنوم الثاني يتميز عن باقي الأقانيم حيث أنه كشف لنا بالتجسد عن سر الله متخذا طبيعة بشرية.إن هذه الخاصة لا تنطبق على أقنوم الآب بالرغم من تشابههما في الجوهر الإلهي. وكذلك تأتي عبارة "مولود غير مخلوق" كرد مباشر على زعم آريوس الذي اعتقد بأن المسيح هو مخلوق كسائر البشر. فقد كان بعض اليونانيين يفكرون بأن كل من هو مولود هو مخلوق ، فجاء الرد من قبل المجمع المسكوني الأول ليميز في الإيمان المسيحي بين الولادة والخلق. حيث أن العرف الطبيعي لا ينطبق على شخص المسيح. وأخيراً تأتي عبارة "مساوٍ للآب في الجوهر" التي كانت من أهم قرارات مجمع نيقية وذلك لدحض عقيدة آريوس وأتباعه، فإن هذا الأخير اعتقد بأن الابن مخلوق وبالتالي الآب ليس مخلوق. فجوهر الآب مختلف عن جوهر الابن. حيث أن مفهوم الجوهر للكائنات في الفكر اليوناني يقوم على الأساس الذي لا يتغير، فلكل جوهر خاصته19 التي لا نستطيع تبديلها بين الكائنات، هذا الأساس الثابت، إذا ما أضيف إليه خصائص الصورة20 نحصل على الفرد. فآريوس جعل من الصورة جوهر، فاعتبر أن المولود هو مخلوق وبالتالي لا يكتسي بالطبيعة الإلهية والجوهر الإلهي لدى الآب، فصورة الابن هي الولادة وصورة الآب هو صانع الخلاص والتاريخ. | |||
2- المجامع التي تطرقت إلى ناسوت المسيح | |||
أنكرت الهرطقات الأولى ناسوت المسيح الحقيقي أكثر مما أنكرت لاهوته، ومنذ العهد الرسولي شدّدت العقيدة المسيحية على التجسد الحقيقي لابن الله، لكن استفحال هذه الهرطقات أدى بالكنيسة إلى عقد عدة مجامع للدفاع عن إيمانها بألوهية الكلمة المتجسد ووحدته مع الآب في الجوهر. وهنا لا بد من الكلام عن المجامع المسكونية الأربعة الأولى التي تطرقت إلى هذه المواضيع. 1. مجمع نيقية 325. خلال سنة 325 اجتمع في نقية حوالي 318 أسقفاً، كان هدفهم دراسة عقيدة آريوس. فحكموا عليه وأعلنوا أن تعاليمه مناقضة للإيمان القويم، وأوجزوا إيمانهم في القسمين الأول والثاني من القانون الذي لا يزال يتلى حتى يومنا هذا.أعلن آباء المجمع أن يسوع المسيح ليس كائناً وسيطاً بين الله والبشر، بل هو الله ذاته في شخص الكلمة والابن الوحيد، الواحد مع الآب في الجوهر21 . وأعلنوا الحرم على الذين يقولون إنّ ابن الله مخلوق وإنه من غير جوهر الآب. 2. مجمع القسطنطينية 381 عقد هذا المجمع إزاء بدعتين: الأولى منهما كانت لأبوليناريوس الذي قال بأن طبيعة المسيح البشرية ليست كاملة 22، إذ لم يكن يحتوي على نفس بشرية. فأعلن المجمع أن المسيح هو إنسان كامل وإله كامل. أما الثانية فكانت إزاء بدعة مكدونيوس الذي ادعى أن الروح القدس مخلوق، فأعلن آباء المجمع ألوهيته، وثبت قانون الإيمان النيقاوي وأكمله. 3. مجمع أفسس 431 أقيم هذا المجمع لدحض البدعة النسطورية التي كانت ترى في المسيح «شخصاً إنسانياً مقترناً بشخص ابن الله الإلهي»23 ففي المسيح شخصان متميزان غير متحدين. فجاء المجمع المسكوني الثالث معلناً أن المسيح الكلمة قد اتحد بالجسد اتحاداً اقنومياً. فأن الأقنوم الثاني هو ذاته شخص المسيح الذي يعتبر شخصاً واحداً في طبيعتين.والعذراء مريم أصبحت والدة الإله بالحبل البشري، وبالتالي يجوز لنا أن ندعوها والدة الإله . والمسيح هو شخص واحد في طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة بشرية. 4. مجمع خلقيدونية 451 عقد المجمع المسكوني الرابع إزاء أصحاب الطبيعة الواحدة الذين يعتقدون بأن ليس المسيح بعد التجسد سوى طبيعة إلهية. فدحض آباء المجمع هذه البدعة مؤكدين بقاء الطبيعتين الإلهية والإنسانية، متحدتين في شخص واحد وأقنوم واحد بدون اختلاط ولا تحول ولا انقسام ولا انفصال.«فطبيعته الإنسانية مكونة من نفس عاقلة وجسد، أما جوهره هو جوهر الآب من حيث اللاهوت، وجوهره جوهرنا من حيث الناسوت...، فهو يشبهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة 24، وولده الآب قبل جميع الدهور من حيث الألوهة 25» . | |||
ثانياً: يسوع المسيح الأقنوم المتجسد | |||
بواسطة الخطيئة انفصل الإنسان عن الله وأضحى مهمشاً غير قادر أن يُنهض نفسه من الهوة التي سقط فيها. لم يكن قادراً أن يرتفع إلى الله ولذلك شاء الله من فيض محبته أن ينحدر بنفسه إلى الإنسان، وذلك لكي يعيد الشركة بين الإنسان ونفسه. فبالتجسد أخذ الله طبيعتنا البشرية المنحطة وضمها إلى لاهوته، لتسري فيها حياة جديدة فتشددها وتنعشها وتعيدها إلى نقائها الأولي. | |||
1 - حُبل به من الروح القدس | |||
إن هذه الكلمات تلغي فكرة تدخل رجل في الحبل، أي أن يسوع الإله والإنسان، لا يُعرف له أبٌ سوى الله الآب26، فحين البشارة سألت مريم الملاك: « كيف يكون ذلك وأنا لا أعرف رجلاً؟ » فأجابها الملاك: « الروح القدس يأتي عليك 27» . ففي عمل الثالوث الخلاصي كان لا بد من اشتراك الأقانيم الثلاثة في عملية الفداء، فعمل الله الذي أوحي في الكتاب المقدس أولاً، أوحي من خلال الابن ثانيةً، وبالاشتراك مع عمل الروح. فإن عمل الآب هو الخلق وعمل الابن هو الفداء، أما عمل الروح فهو تأليه الإنسان. «فالآب هو كالذراع من حيث تأتي القوة والحركة: الابن هو كاليد التي تنفذ الحركات الدقيقة في العمل؛ والروح كالأصبع التي تؤمن العمل النهائي28» . إن الروح القدس أُرسل إلى حشا العذراء ليقدسه ويخصبه إلهياً، فأصبحت رسالة الروح تواكب رسالة الابن وترافقها29 ، وبما أن ابن الآب الوحيد قد حبل به في أحشاء العذراء مريم فهو ممسوح من قبل الروح القدس، منذ بدء وجوده البشري، حيث أنه ظهر تدريجياً لعدد من الناس، وكما ستظهره لاحقاً حياته المليئة بالأعاجيب 30. | |||
2- تجسَّد من مريم العذراء | |||
كما ذكرت سابقاً، إن الله من صميم محبته قرر أن ينحدر إلى الإنسان ليخلصه، إلا أنه ? وهو يحترم حرية الإنسان ? أراد أن يريد الإنسان خلاص نفسه. فبدأ بتهيئة الإنسانية تدريجياً إلى اقتبال الخلاص. وأدت هذه التهيئة إلى مريم العذراء، حيث بدأت منذ العهد القديم31 وأوجزت رجاءها في العهد الجديد في نشيد التعظيم "تعظم نفسي الربّ32-33 "، الذي يعد أنه مليء بالإشارات التي ترمز إلى العهد القديم. وهكذا فإن مريم « هي المثال الأعظم والصورة الأولى للإيمان المسيحي34 » ، وهي « بقبولها للخلاص الذي جعله الله بنعمته ممكناً هو إذاً لحظة أساسية في حدث الخلاص».35 فمريم العذراء هي والدة الله، وهذا ما يعلنه لنا العهد الجديد في العديد من الشهادات 36، وهو ما أعلنه مجمع أفسس سنة 431 كما ذكرت سابقاً، وبالإضافة إلى ذلك فهي أمنا وتتشفع لنا في السماء. إن هذا الاعتقاد لا يمكن إزالته من تراث الصلوات في الكنيسة ، ومن التراث الشعبي المسيحي الذي اعتاد المسيحيون في كنائسهم على ترداده. وأخيراً وليس آخراً، لا بد من التكلم عن بتولية مريم ، فمنذ إعلان الصيغ الأولى للإيمان في الكنيسة، كان الاعتراف بأن حبل مريم هو بقوة الروح القدس وبدون أي زرع من رجل، وقد أكد على ذلك القديس إغناطيوس الأنطاكي في أوائل القرن الثاني حيث قال في رسالته إلى السميرنيّين (1-2): « اتضح لي أنكم على أشد اليقين في ما يتعلق بربنا الذي هو في الحقيقة من ذرية داوود بحسب الجسد 37، وابن الله بحسب إرادة الله وقدرته 38، ومولود حقاً من عذراء (...) وقد سُمّر حقاً من أجلنا في جسده في عهد بنطيوس بيلاطوس (...) فتألم حقاً، وحقاً قام أيضاً»39 . | |||
3 - صُلب من أجلنا ومات | |||
يُعتبر السر الفصحي لموت المسيح وقيامته محور عملية التبشير التي قام عليها عمل الرسل والكنيسة من بعدهم، وذلك من خلال الصليب علامة الخلاص المميزة. حيث أن موت يسوع عليه كان في نظر اليهود دينونة ولعنة من قبل الله 40، أما في نظر الرومانيين فهو عار ومدعاة للسخرية والاحتقار41 . ولهذا كانت مهمة الكنيسة المسيحية الناشئة صعبة، إلا أنها كانت دائماً تتذكر إرادة الله وتصميمه الخلاصي، الذي أظهره أثناء العشاء السري42 . فموت المسيح لم يكن نتيجة الصدفة بل هو في سر تصميم الله، حيث أن المسيح مات من أجل خطايانا متخذاً صورة العبد المتألم 43، وذلك ليكفر عن خطايا البشر التي تلت الخطيئة الأصلية وكانت عاقبتها الموت 44. « إن موت المسيح في الوقت نفسه هو ذبيحة فصحية تتم فداء للبشر ذلك بالحمل الذي يرفع خطيئة العالم، وهو ذبيحة العهد الجديد التي تعيد الإنسان إلى الشركة مع الله مجرية المصالحة بينهما بالدم الذي يُراق عن الكثيرين لمغفرة الخطايا45 » . وبعد أن مات المسيح دفن في القبر بجسده من دون أن ينال أي فساد46 ـ وتعتقد الكنيسة الكاثوليكية أنه في مدة إقامة المسيح في القبر بقي شخصه الإلهي ملازماً لنفسه وجسده اللذين فصلهما الموت 47.وحين مات المسيح انحدر بنفسه المتحدة بالشخص الإلهي، إلى مقر الأموات حيث منحهم بشرى الخلاص. وتعتقد الكنيسة الشرقية بأن انحدار المسيح إلى مملكة الموت هو حدث الخلاص الجوهري48 . فكل الأجيال الذين ماتوا من قبل يسوع خلصوا في موته. وقد شمل موته الخلاصي أيضاً جميع آلام التاريخ وضحاياه. | |||
ثالثاً: الإله القائم، الديّان | |||
1 - قام - صعد إلى السماء | |||
« نحن نبشركم بأن الوعد الذي صار لآبائنا قد حققه الله لنا، نحن أولادهم إذ أقام يسوع49 » . بهذا الكلام توجه القديس بولس إلى الجمع المحتشد في المجمع بمدينة إنطاكية، حيث بشرهم بالحقيقة التي تمثل جوهر الإيمان المسيحي. هذا ما اعتقدته وعاشته الجماعة المسيحية الأولى، وتناقله التقليد على أنه حقيقة جوهرية. فمعظم شهادات العهد الجديد تركز على القيامة التي من دونها تكون البشارة فارغة والإيمان باطل، كما ورد على لسان القديس بولس؛ إذ إننا نكون، في رجائنا، أشقى الناس أجمعين 50. « إن أقوال القيامة في العهد الجديد تتسم بتحفظ ملحوظ، فبخلاف الكتابات المنحولة اللاحقة والتصاوير والرسوم الكثيرة، لا يعرف العهد الجديد أيّ وصف لحدث القيامة عينه. 51» لكنه يوجد بعض الصيغ الاعترافية الصغيرة التي تتضمن شهادة إيمانية، مثل الشهادة التي أعلنها بولس للكورنثيّين في رسالته الأولى: « إن المسيح قد مات من أجل خطايانا، على ما في الكتب، ودُفن، وقام في اليوم الثالث، على ما في الكتب، وتراءى لكيفا، ثم للإثني عشر52» . وتراءى يسوع للعديد من النساء القديسات منهم مريم المجدلية وثم إلى الرسل وحثّ القديس بطرس على تثبيت إخوته في الإيمان. وكان يسوع يقيم علاقات مباشرة مع إخوته عن طريق اللمس وتقاسم الطعام. فهو يدعوهم إلى الاعتراف بأنه ليس روحاً، بل جسداً صُلب واستُشهد، إذ إنه لا يزال يحمل علامات الصلب53 . لكنه أصبح ممجداً أي لم يعد محصوراً في الزمان والمكان، لكن بإمكانه الحضور في أي زمان ومكان، « إذ إن ناسوته لم يعد مقيداً بالأرض بل أصبح في عهدة الآب الإلهية54 » . كما يوجد فكرة جوهرية أخرى يجب التركيز عليها، وهي أن قيامة المسيح لم تكن عودة إلى الحياة الأرضية، كما كانت الحال بالنسبة إلى القيامات التي أجراها خلال حياته العلنية، فهؤلاء كانوا سيموتون مجدداً في وقت ما. أما قيامة يسوع فمختلفة جوهرياً، فهو في جسده الممجد ينتقل إلى حياة أخرى بعد الموت، إذ أصبح مملوءاً من الروح القدس55 . فالقبر الخالي واللفائف التي كانت مطروحة بالقرب منه تشهد على أن المسيح أفلت من قيود الموت والفساد بقدرة الله وهي « مبدأ وينبوع قيامتنا الآتية 56» . كما أن القيامة تثبت حقيقة ألوهة المسيح الذي قال: « إذا ما رفعتم ابن البشر فعندئذ تعرفوني أني أنا هو 57» . فهي تحقيق القصد الإلهي، كما أعلن بولس لليهود: « ونحن نبشركم بأن الوعد الذي صار لآبائنا قد حققه الله لنا، نحن أولادهم، إذ أقام يسوع، على ما هو مكتوب في المزمور الثاني: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك 58» . كما ذكرت سابقاً إن المسيح بقيامته حصل على جسد ممجد، لكن مجده خلال فترة الأربعون يوماً سيبقى مستوراً عليهم بستار الإنسانية العادية59 حتى « يدخل ناسوته دخولاً نهائياً في المجد الإلهي الذي ترمز إليه السحابة والسماء حيث سيجلس...على يمين الله60 » فهو بموجب ارتفاعه أصبح « ضابط الكون 61» ، فكل شي سيخضع له، والسحابة التي أخذت يسوع عن أعين تلاميذه تشير منذ العهد القديم إلى حضور الله الذي يتخطى الزمان والمكان، فيسوع دخل مجد الله. في تصور لوقا الإنجيلي حول روايته صعود يسوع إلى السماء 62، هناك أربعين يوماً تفصل بين قيامة المسيح وصعوده إلى السماء، وهذا العدد باستعماله في العهد القديم يشير إلى زمن خاص مقدس مع مسيرة شعب الله في الصحراء ومكوث موسى على جبل سيناء ومسيرة إيليا إلى جبل حوريب وصيام يسوع في البرية.كل ما سبق يدل على بدء زمن جديد هو زمن الكنيسة، يتحد مع زمن يسوع خلال هذه الأربعين يوماً. وبعد صعوده سيتابع عمله بواسطة روحه القدوس في الكنيسة وفي التاريخ 63. | |||
2 - يأتي ليدين الأحياء والأموات | |||
من خلال العديد من الأنبياء، والذي كان آخرهم يوحنا المعمدان، أُعلنت الدينونة الأخيرة. ومن خلال كرازة يسوع كشف عن هذه الدينونة، حيث سيتم كشف سلوك كل فرد، وسيعلن سرّ قلبه، ويحاسب كل إنسان بحسب أعماله. والمسيح بكونه فادي العالم فله الحق بأن يحكم على أعمال البشر، وقد « اكتسب هذا الحق بصليبه 64» . وتؤمن الكنيسة الكاثوليكية بأن الابن لم يأتِ ليدين، بل ليخلص65. وكل إنسان يرفض نعمة الله المجانية فإنه يحكم على ذاته ويدين نفسه. فالإنسان يستطيع بملء إرادته أن يُهلك نفسه إلى الأبد66 برفضه لروح المحبة 67. إن مجيء يسوع في المجد والدينونة العامة سيكونان حدثاً واحداً 68سيكون الفصل الأخير لانتصار المسيح على الخطيئة والموت. « سيأتي ابن البشر في مجد أبيه مع ملائكته.وعندئذ يجازي كل واحد بحسب أعماله 69» . | |||
خاتمة | |||
كشف الله عن نفسه للبشرية شخص لشخص، كشف اللامحدود سره إلى اللامحدود، وتمّ هذا الكشف في لقاء تكلل بالحب بين الله والإنسان. واللقاء يتطلب أن يسعى الشخصان أحدهما للآخر . في بداية القرن الواحد والعشرين تشهد المسيحية ظاهرتين متناقضتين، فمن جهة وعند فئات كثيرة من الناس المسيحين نجد فتوراً في الممارسات الدينية وابتعاداً عن الإيمان بطرقهم لباب الإلحاد، ومن جهة أخرى نجد عند فئات أخرى عودة إلى القيم الروحية ورغبة متزايدة في التعمق في مختلف أبعاد الدين لولوج باب الإيمان بالله. هذا الله الذي أظهر ذاته من خلال الأقنوم الثاني، وذلك من خلال التجسد. إذ إن الله ارتضى أن يأخذ صورة إنسانية تشبه البشر في كل شيء ما عدا الخطيئة. من خلال هذا البحث حاولت أن أبين ماهية الاعتراف بلاهوت المسيح في قانون الإيمان، هذا القانون الذي وصلنا كوديعة من الآباء الأولين، هذا القانون الذي احتوى على شهادة تناولتها المسيحية عبر أجيال وأجيال إلى أن وصلت إلى يومنا الحاضر. من خلال الشطر الأخير من ترنيمة "نسبحك أيها الإله الأعظم" Te Deum نقول: "فيكَ، يا ربّ، وضعت كل رجائي. وفي الأبدية لن أخيب" هذه الثقة وهذا الرجاء تعبّر عنهما كلمة "آمين" التي نختم بها قانون إيمان الكنيسة في استعماله الليتورجي. وكلمة آمين تعني « هكذا يكون »، وبحسب العهد الجديد يسوع نفسه يدعى الـــ آمين (رؤ3: 14) فهو رجاء ومضمون إيماننا وغايته |