طوبى لمن يسمع كلمة الله و يحفظها (لو 11 /28)
مقالة " أسرار الملكوت ( الأمثال )" - الأب بولس الفغالي
| |||
مقدمة | |||
سنحاول أن نتعمق أكثر فأكثر في نص إنجيلي من نصوص إنجيل متى واخترنا نص متى 13. لدينا (5) عظات في إنجيل متى والآن فسنقرأ العظة التي سنسميها (الأمثال). كلمة (مثل) هي كلمة قديمة جداً كانت تستخدم في مدينة أوغاريت (الموجودة حالياً قرب مدينة اللاذقية). هذه الكلمة مأخوذة من الكلمة (مِثْلْ) أي الفكرة غير المنظورة يجب أن تصبح منظورة ويجب أن نراها. مثلاً الفيلسوف اليوناني يريد أن يقول لنا أن الحياة تتكرر يوماً بعد يوم بنفس الروتين ولأن الناس قد لا يفهموه تماماً لذلك أعطاهم مثل عن شخص يدعى (سيزيف) وهو إنسان يحمل صخرة كبيرة جداً كل نهار من أسفل الوادي إلى رأس الجبل وفي الليل تعود الصخرة فتسقط إلى الوادي وهكذا يستمر هو في حملها وهي في سقوطها يوماً بعد يوم هكذا حتى نهاية حياة هذا الرجل. إذاً في المثل نُعطي صورة لما ليس له صورة. والإنجيل طبعاً مليء بالأمثال. علينا أن ننتبه أن المثل لا يسهل الأمور أبداً إلا إذا كان الإنسان مستعد لأن يدخل في سر المثل. هناك فرق كبير بين المعرفة والسر مثلاً في يوحنا فصل (3) يقول نيقوديموس, المتعلم على أيدي الكتبة والفريسيين, بفخرٍ ليسوع ذلك الإنسان العادي, غير المتعلم بمدارس الكتبة والفريسيين: نحن نعرف أنك جئت من الله. ولكنه في الحقيقة لا يعرف شيئاً فهو قد جاء إلى يسوع في الليل ومضى أيضاً في الليل. وإذا إلى دفن يسوع يقول الإنجيل تماماً: "يوسف الرامي الذي كان تلميذاً ونيقوديموس الذي جاء إلى يسوع ليلاً" أي أن نيقوديموس لم يكن تلميذاً. والليل عند يوحنا معروف جداً ودلالاتهُ واضحة, أي أن نيقوديموس جاء أعمى ومضى كما أتى بدون أي تغيير. لذلك نرى يسوع يقول لنيقوديموس: "أنت لا تعرف". إذاً كما يقول يسوع في إنجيل متى: "أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأظهرتها للأطفال" هنا كلمة (هذه) تعني المعرفة. يجب أن ندرك أن حياتنا هي دخول في السر. ليس السر بمعناه الحرفي (جدار لا يمكن اختراقهُ) بل على العكس السر هو باب مفتوح وعلينا أن نستعد لندخلَ فيه دون أن نعرف إلى أين يؤدي. هذا ما يفسر قولنا أن القديسين يعرفون أكثر من العلماء ذلك لأنهم دخلوا في سر المسيح. مثلاً إبراهيم, أبو المؤمنين, فهو قد قبلَ أن يدخل في السر رغم أملاكه الكثيرة في أغنى مدن العالم (مدينة أور). بمجرد أن قال الرب له "أترك أرضك وبيتكَ وعشيرتكَ وتعالَ إلى حيث أريك" ترك كل شيءٍ وانطلق رغم عدم معرفته إلى أين يتوجه (إلى حيث أريك). نفس الموقف تقريباً حدثَ مع يوسف, خِطّيب مريم, فهو أيضاً قَبِلَ أن يدخل في السر ودخولهُ في السر لا يعني أنه أعمى ولا يرى بل ذلك يعني أنه يرى أشياءَ لا يراها الآخرون. هذا هوَ المثل فإما أن ندخل في سره أو نبقى خارجاً ولا ثالثَ لهذا. سنقرأ الآن نص متى 10:13- 17 الذي يتحدث عن غاية يسوع من الأمثال: | |||
متى 10:13 | |||
"فدنا تلاميذُهُ وقالوا لهُ: لماذا تُكلمهم بالأمثال؟ فأجابهم: لأنكم أُعطيتُم أنتم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات, وأما أولئكَ فلم يُعطَوا ذلك. لأن من كان له شيء, يُعطى فيفيض. ومن ليس له شيء, يُنتزعُ منه حتى الذي لهُ. وإنما أُكلمهم بالأمثال لأنهم ينظرونَ ولا يبصرون, ولأنهم يسمعونَ ولا يسمعون ولا هم يفهمون. وفيهم تتمُّ نبوءة أشعيا حيثُ قال: تسمعون سماعاً ولا تفهمون وأما أنتم, فطوبى لعيونكم لأنها تُبصر, ولآذانكم لأنها تسمع. الحقَّ أقولُ لكم إن كثيراًَ من الأنبياء والصديقين تَمنوا أن يروا ما تبصرون فلم يروا, وأن يسمعوا ما تسمعون فلم يسمعوا." عندما سأل التلاميذ يسوع لماذا تكلمهم بالأمثال لم يكن جوابه أبداً: لأنه أسهل. ويجب أن ننتبه هنا إلى أن أسهل طريقة لإلغاء الإنجيل هي بسرده على شكل قصة أو حكاية, وخصوصاً للأطفال في مركز التعليم. إذاً الأمثال هي الطريقة التي بها ندخل إلى أسرار الملكوت " لأنكم أُعطيتُم أنتم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات, وأما أولئكَ فلم يُعطَوا ذلك.". وكما هو معروفٌ عن متى إنه في كل مرة يكون فيها شيء صعب الفهم فإنهُ يعود بنا إلى العهد القديم الذي هو كلام الله. فها هنا نراه يعود إلى العهد القديم وتحديداً إلى نبوءة أشعيا (( تسمعون سماعاً ولاتفهمون............ عادةً البروتستانت يشددون كثيراً على القسم الأول من القداس أي سماع الكلمة ويهملون تقريباً القسم الثاني, أما نحن فنشدد على القسم الثاني أكثر من الأول وفي الحقيقة كلا الطرفين مخطئ لأنه كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "كلمة الله أو خبز الله هو الذي يوصلنا إلى خبز القربان." لذلك يجب أن نعطي انتباهاً أكبر لما تستطيع أن تفعله الكلمة في الإنسان. علينا أن ندع الكلمة تدخل فينا حتى ندخل في سر الإنجيل وطالما نحن لم ندخل في الكلمة بعمق لا نستطيع التأثير في الناس. (المقصود هنا بشكل خاص الكهنة والرهبان والراهبات). من هنا تبرز أهمية التأمل اليومي "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب". كل معنى المثل يتركز بسؤال واحد هو: هل نحن مستعدين لأن نسمع ولأن نرى ليس بعيون الجسد فقط بل أيضاً بعيون القلب؟ سؤال هام يُطرح على ضمائرنا لماذا نحن نرفض المثل؟ ذلك لأن المثل يتحدانا, لأنه يفرض علينا جواب وكونه لم يطلب منا جواب فكأننا نسمع حكاية أو قصة. | |||
متى 33:21 (مثل الكرامين) | |||
الآية 39 "فأمسكوه وألقوه في خارج الكرم وقتلوه.": هنا نرى أن المقصود في هذه الآية هو نفسهُ يسوع المسيح. الآية 40 جداً مهمة في هذا المثل "فماذا يفعل رب الكرم بأولئك الكرامين عند عودته؟":هنا نرى هجوم من يسوع علينا فإذا كنا حقيقةً نسمع كلمة الله فإن يسوع لن يدعنا مرتاحين أبداً معروفٌ عن يسوع أنه أكبر مبلبل في حياتنا. من يدعي أن حياته راحة ولا يوجد فيها أي مشاكل فإنهُ في الحقيقة يعبر عن علامة سيئة جداً وهي الموت. يسوع في هذه الآية يخاطب بشكل أساسي الكتبة والفريسيين. الآية 41 "قالوا لهُ: يُهلك هؤلاء الأشرار شرَّ هلاك, ويؤجر الكرم كرامين آخرين يؤدون إليه الثمر في وقتهِ.": هنا الكتبة والفريسيين يجيبون يسوع عن سؤالهِ الذي طرحهُ. من هذه الآية نفهم أن جواب الفريسيين نفسهُ هو القاتل هو المدين لهم. الآية 45 "فلما سمعَ عُظماءُ الكهنة والفريسيون أمثالهُ, أدركوا أنهُ يُعرضُ بهم في كلامهِ": إذاً المثل يدفعنا إلى الإصغاء والدخول في سر المسيح. ولا يكفي أن نسمع ونرى بل يجب أن نسمع ونرى من خلال القلب بشكل أساسي, فالموقف يصدر من القلب. وما دمنا لم نأخذ القرار بأن نقبل معنى المثل فنحن حقيقةً خارج المثل. إذاً فالمهم أن نسمع ونرى بالقلب بعكس هؤلاء الكتبة والفريسيين الذين يسمعون ويرون بعيون الجسد فقط. | |||
مثل الزارع متى 1:13- 9 | |||
"في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت, وجلس بجانب البحر": في كل مرة نرى فيها كلمة (بيت) عند متى أو مرقس فليس المقصود بها الحواشي أي بيت بطرس أو يوحنا أو سواهما بل المقصود هو الكنيسة الأولى إذ كانوا يجتمعون في البيوت. فمثلاً عندما يتحدث الإنجيل عن التلميذ الحبيب مباشرةً نفهم أن المقصود هو يوحنا الحبيب وهذا خطأ لأن رؤيتنا في الحقيقة مقصورة وناقصة لأن التلميذ الحبيب هو أنا وأنت فنحن أيضاً مطالبون بأن نحب يسوع كما يحبنا هو. "وجلس بجانب البحر" لأن البحر هو علامة الشر والموت وإذا كان يسوع قد جلس بجانب البحر فذلك ليقف على حدود مملكته ليدافع عن المؤمنين. إذاً من الممنوع أن نقرأ قراءة بسيطة. "فازدحمت عليه جموعٌ كثيرة": متى هنا يرى اثنين بالإضافة إلى يسوع هو يرى بقية التلاميذ وكذلك جموع جاءت لتسمع الكلمة. يجب أن نأخذ مبدأ في حياتنا هو أن كل ما في الكتاب المقدس ينطلق من الواقع لكن لا يبقى على الواقع "انتزحوا إلى العمق". يجب أن ننتبه عند قراءة الإنجيل أنه يوجد ثلاث طبقات أو مستويات: أولاً: مستوى يسوع: من الممنوع أن يُلغى هذا المستوى أبداً لأننا سنعيش بفراغٍ كبير إذا أُلغيَّ فالمعنى الروحي يلتصق دائماً بالمعنى المادي. ثانياً: على ضوء حياة الكنيسة: بالاعتراف والتوبة والانتباه إلى المسيرة التي تعيشها الكنيسة. متى عندما كان يخبرنا عما كان يحدث في أيامه كان ينطلق من النبع الذي هو يسوع المسيح. ثالثاً: على ضوء القيامة: فالكلمة التي فهمها التلاميذ على أنها بسيطة, على ضوء القيامة أخذت بعداً سماوياً مثلاً, عندما قال نثنائيل ليسوع: "أنت ابن الله" كان معه حق لأنه كان يعتبره ملكاً وكل ملك في ذلك الوقت كان يُعتبرُ ابن الله ولكن بعد القيامة هذه الكلمة أخذت كامل أبعادها. في مثل الزارع يسوع كان جالساً في السفينة والجموع كانت على الشط فكانت الجموع في أمان وهو في وسط البحر الهائج وكأن يسوع يريد أن يسألنا هل نحن مستعدين للمخاطرة معه هل نحن مستعدين أن نذهب إليه هناك في البحر, نعم في الحقيقة الكنيسة اليوم ومنذ الأزل تعيش في عالم الشر لذلك قال يسوع لتلاميذه ولنا أيضاً: "أنتم في العالم ولكنكم لستم من العالم". إذاً علينا أن ننتبه بجدية إلى هذه المستويات أو الطبقات الثلاثة عند قراءتنا للإنجيل. | |||
"فكلمهم بأمثالٍ عن أمورٍ كثيرة": | |||
في هذا الفصل يوجد (7) أمثال, وكما هو معروف عدد (7) هو عدد الكمال: 1- مثل الزارع. 2- مثل الزؤان. 3- مثل حبة الخردل. 4- مثل الخميرة. 5- مثل الشبكة. 6- مثل اللؤلؤة. 7- مثل الكنز. يسوع بالأمثال يُدخلنا في مشروع الله الخلاصي منذ الأزل "بالأمثال أنطقُ فأعلِنُ ما كان خفياً منذ إنشاء العالم" (متى 35:13). في مثل الزارع لدينا أربع أنواع من الحبوب. وفي تفسير المثل بالآية (18) "من يسمع كلام الملكوت ولا يفهمه فهو المزروع في جانب الطريق" هنا يسوع انتقل من الزرع إلى الأرض المزروع فيها أي نحن. مثل الزؤان هو الرد على عقلية الكتبة والفريسيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم القديسيين أما البقية فهم لا. وكما كان معروفاً عن اليهود فإنهم مثلاً كانوا لا يسلمون على الوثنيين ولا يأكلون معهم, إذاً هم (الوثنيين) الزؤان ونحن (الكتبة والفريسيين) القمح. في الآية (28) من المثل "قالوا له أتريد أن نذهب لنجمع الزؤان" ولكن في الحقيقة من هو الزؤان؟ نحن نريد أن نجمع الزؤان ومن منا ليس فيه الإثنين القمح والزؤان. "فأجاب: لا لئلا تقلعوا القمح وأنتم تجمعون الزؤان". دائماً نظن أن الناس من حولنا زؤان ونحن القمح ولكن في الحقيقة هم القمح لأننا غالباً ما نتصرف على مبدأ (نحن ندين). في مثل حبة الخردل, حبة الخردل هي صورة عن الكنيسة التي بدأت صغيرة صغيرة ولكن سيأتي وقت تصبح شجرة كبيرة جداً. مثل الخميرة, مرات عديدة المؤمنون لا يستطيعون إعلان إيمانهم علناً ولكن هذا لا يهم لأنهم كالخميرة غير مرئية ولكن تعطي نتيجة.
أما مثلي اللؤلؤة والكنز, هنا لدينا الخيار هل نحن مستعدون أن نبيع كل شيء من أجل الكنز أو اللؤلؤة المعطاة لنا. | |||
خاتمة | |||
هذه كانت نظرة عامة على الأمثال وعلينا نحن أن نكتشف أين يلامسنا المثل ويفرض علينا موقف, كما علينا أن نحاول أن نفهم أن الأمثال كلها تُدخلُنا في سر المسيح |