ما أَضْيَقَ البابَ وأَحرَجَ الطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الحَياة ( مت 7 /14)
مقالة القيامة سرّ البقاء في الله - الأب فرنسوا فاريون
| |||
سنبحث في معنى هذا السر، أي القيامة، انطلاقاً من مفهوم أن "المحبة أقوى من الموت". وتكون كذلك شرط أن تكون أولاً أقوى من الحياة، وهذا يعني التضحية والموت. وبكلمات أخرى: إن التضحية، وهي موت جزئي؛ والموت، وهو تضحية تامة؛ يحوِّلان الحياة بحسب اللحم والدم إلى حياة بحسب الروح. ذلك بأن سرّ الفصح ? الموت والقيامة ? هو سرّ تحوُّل, تحول الإنسان البشري إلى إنسان روحي , لا بل الهي بالمشاركة. إن أردنا أن نفهم ذلك, وجب علينا, أن ننطلق من الاختبار. وأن نفكر في الاختبار المستنير بالإيمان. فإن اختبارنا للحب هو الذي يقنعنا بأن في الإنسان رغبة في الخلود لا تقاوَم. لأن من قال لأحد: "أحبك"، قال له: "لن تموت". فقد كُتب بشكل سري في عبارة "أحبك" الصحيحة، عبارة "لن تموت". لتقف بشكل خفي في وجه اليأس الذي يولده الفقدان والشعور الواضح بحتمية الموت . إن الحب الصحيح لا يقبل الفساد، ولا يُفنى. وهو يقتضي أن يكون كأنه حاجة إلى اللامنتاهي. وإن كان الحب يقتضي اللامتناهي, فهو عاجز عن توفيره. كأن يقال للحبيب: " لن تموت"!!.. لكن الحبيب يموت!!!.. يطمح إلى الأبدية , لكنه ينتمي، في الواقع، إلى عالم الموت.. إنه محتجَز مثلنا, مع عزلته وقدرته على التدمير, في حلقة الموت الشامل.. المفارقة لا تطاق!... انطلاقاً من تلك المفارقة, نحيا جميعاً، بقدر كثير أو قليل، ونفهم ما يعنيه سر القيامة المسيحي؛ انتصار المحبة على الموت, وهذا هو معنى أن "المحبة أقوى من الموت". ولكن ما الذي يجعلني خالداً؟.. إني, ولا شك, سأتحول إلى تراب!.. وما من شيء يحول دون أن أموت!.. لا أستطيع البقاء إذاً إلاَّ في آخر, في آخرٍ لا يزال باقياً حين لا أبقى أنا على قيد الحياة.. كيف يكون هذا البقاء في آخر؟.. هناك طريقتين: يبقى الإنسان أولاً في أولاده, يمتد، كما يقولون، فيهم وفي أحفاده. ويبقى أيضاً في ذاكرة الناس، في الطموح إلى المجد؛ إن سمعنا، مثلاً، موزارت، أو شاهدنا رامبرانت، نقول أنهما لا يزالان في الحياة بيننا. في الحقيقة, لا أستطيع أن أبقى في آخر, إلا إن كان هناك آخر. وكان ذلك الآخر أبدياً، و كان له من الحبّ لي ما يحمله على قبولي في نفسه. لا يستطيع الإنسان أن يكون خالداً إلا في الله, إذا صح أن الله محبة . فالإله الذي يحبني يقدر وحده, لا على الحيلولة دون موتي وحسب، بل على إقامتي من الموت. المحبة وحدها أقوى من الموت. إن ذلك يقتضي أن تكون المحبة فيَّ أقوى من الحياة. لقد وردت هذه الفكرة في الإنجيل على الوجه التالي: "ليس لأحد حب اعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه" (يو15/13) . هذا هو أيضاً تحديد الحرية. فالإنسان الحر هو الإنسان غير المستعبد, ولكن لأي شيء يكون الإنسان المركَّب من لحم ودم أكثر استعباداً إلا للرغبة في العيش بحسب اللحم والدم؟ باختصار يكون الإنسان عبداً إن تمسك بما هو و بما له . واحدٌ كان حراً على الإطلاق!.. لأن واحداً أحب حباً تاماً!.. واحد هو إنسان على وجه كامل, أما نحن، فإننا نجتهد في أن نحب, و نبني بمشقة, طوال الأيام والسنين, حريتنا ولا نزال مستعبدين لأشياء كثيرة وبطرق كثيرة. نتمسك بما لنا، ونعلم، مع ذلك، أننا سنموت. نحن متعلقون أكثر مما نحن متجردون . الحياة فينا, الحياة الحاضرة, الحياة البيولوجية, الحياة الزائلة، أقوى من المحبة. أما في يسوع المسيح، وفيه وحده، كانت المحبة أقوى من الحياة. وكان موته موت إنسان حر على الإطلاق, ومتجرد على الإطلاق من نفسه؛ ومن كل شيء, ومحب على وجه تام . فكيف لا يقبله الله في نفسه لكي يحيا فيه إلى الابد؟!.. لم يحيَ المسيح إلا بالآب. هذه هي المحبة: أن يحيا أحدٌ في آخر. لكن الحياة في آخر هي الموت عن النفس . فحين نقول أن المسيح قام من الموت، أو أن الآب أقام يسوع من الموت, نقول ذلك بالنسبة إلى إنسانٍ كان إنساناً على وجه تام. فالذي كانت المحبة فيه أقوى من الحياة - والمحبة تبقى إلى الأبد- يكون أقوى من الموت . لقد قام يسوع من الموت وهو حي. أَمَّا نحن، فإننا نحب حبّاً قليلاً، وبشكلٍ سيّئ؛ لأننا نتمسك تمسكاً قوياً باللحم والدم، ولا نُفَضّل الآخرين على أنفسنا إلا بوجه محدود لا يخلو من الأوهام. الواضح إذاً، أننا لو كُنَّا نعتمد على أنفسنا, لما استطعنا أن نقوم من الموت، ولكان الوجود البشري غير معقول في آخر الأمر, لأن عبارة "لن تموت"، التي نقولها ضمناً للذين نحبهم، تكون في هذه الحال غير أمنية لأنها لا تبقى إلى الأبد . لكن المسيح القائم من الموت يقول لنا: "لن تموت".. يقولها لنا , لأنه يقول: "أحُّبك". |